إنني لأكاد أوقن أن قارئ هذه الخلاصة سيبتسم لنفسه متسائلا: كيف يحتاج الأمر إلى مدرسة فكرية جديدة تنهض وتجاهد، وعلى رأسها أعلام مثل «جورج مور» و«برتراند رسل» وغيرهما، لتقول: إنني إذا أدركت وجود هذه الشجرة التي أمامي، فلأن هنالك خارج ذاتي شجرة، وأن تلك الشجرة في واقعها الخارجي لا تتأثر بإدراكي إياها، كيف يمكن أن يحتاج الأمر في ذلك إلى تحليل وتعليل وهجوم ودفاع، والأمر كله لا يتطلب أكثر من الإدراك الفطري لنقول فيه هذا القول؛ فرجل الشارع في سذاجته يعلم - ولا يتطرق إلى علمه في ذلك شك - بهذا الذي جاءت الواقعية الجديدة لتقرره بعد جهاد وثورة ... والقارئ المتعجب بمثل هذه الأسئلة إنما يضع إصبعه على محور المدرسة الواقعية الجديدة، وهو أن ما يدركه الإنسان بذوقه الفطري أساس للحق، فلو رأينا الذوق الفطري يقول شيئا، والفلسفة أو اللاهوت تقول شيئا آخر، فالصادق هو الذوق الفطري، ومن هنا جازت تسمية هذه الفلسفة الواقعية الجديدة بفلسفة «الذوق الفطري» (أو «الإدراك الفطري» أو «الفهم المشترك» أو «الحس المشترك» أو ما شئت من ترجمة للعبارة الإنجليزية
Common Sense ).
ولا بد لمثل هذا القارئ المستنكر المتعجب أن يذكر لنفسه أن هذا الذي يظنه إدراكا فطريا لا يجوز فيه الجدل، هو بعينه الذي يتصدى لإنكاره المثاليون على كافة مدارسهم؛ فالمدارس المثالية كلها مجمعة على أن الشيء المعروف ليس مستقلا عن العقل العارف، وفي رأيهم أن العالم في حقيقته هو هذا الذي يعرفه الإنسان عنه بعقله لا الذي يدركه من ظواهره بحسه، حتى «كانت» الذي هو من أكثر المثاليين اعتدالا وبعدا عن التطرف في مثاليته، يجعل العالم صنيعة العقل ومقولاته إلى حد كبير.
إذن فنظرية المعرفة والرأي فيها والاهتمام بها هي من أهم ما يميز المدرسة الواقعية الجديدة، لكن هذا الطابع فيها يستلزم مميزا آخر، هو رأيها في معيار الصدق، فمتى يجوز لنا أن نقول عن عبارة إنها صادقة، سواء كان ذلك في العلم أو في الحياة اليومية؟
كان المثاليون يأخذون بمعيار «الاتساق» أساسا لصدق العبارة، أعني أن تكون العبارة على «اتساق» مع غيرها مما يقال، بحيث لا يكون ثمة تناقض فيما نقوله عن الكون؛ خذ الهندسة - مثلا - لتوضح لك فكرة المثاليين، فعلى أي أساس نحكم على نظرية هندسية من نظريات إقليدس بأنها صواب؟ الجواب هو: تكون النظرية صوابا لو اتسقت مع سائر النظريات، ومع سائر الفروض والتعريفات والمسلمات، بحيث تجيء نتيجة محتومة لما سبقها ومقدمة ضرورية لما بعدها، وإذا كان بين أجزاء البناء الهندسي مثل هذا «الاتساق» كان بناء صحيحا، وكان كل جزء منه صادقا، وهكذا قل في مجموعة العبارات التي نصف بها الكون؛ فهي صادقة إذا تكاملت في بناء بين أجزائه اتساق لا يسمح للواحدة أن تناقض الأخرى ... وإذا نحن أخذنا بهذا المعيار في صدق العلم والفلسفة، وشتى ما ننطق به عن أنفسنا وعن العالم الخارجي، نتج إمكان أن يوصد الإنسان دون نفسه أبواب غرفته ، ويظل ينسج من فكره أقوالا مختلفة عن العالم، لا يتحرى فيها شيئا سوى أن يتسق بعضها مع بعض، حتى إذا ما تكامل له منها بناء شامل، تقدم به على أنه وصف للكون ... هذا ما يعمله الرياضيون حين ينشئون نظرياتهم في الرياضة، وهذا ما يعمله الميتافيزيقيون حين يقيمون بناءاتهم الفلسفية، وهذا ما يريدنا المثاليون على اصطناعه كلما أردنا تفكيرا سليما.
أما المدرسة الواقعية الجديدة، فترى في معيار الصدق رأيا آخر يتفق ورأيها في عملية اكتساب المعرفة، فما دام الشيء الذي أعرفه موجودا خارج ذاتي، وكل ما أفعله إزاءه هو أن أكشف عنه، ثم أضع ما عرفته عنه في عبارة أو عبارات فلا بد - لكي تكون تلك العبارة أو العبارات صادقة - أن يكون ثمة «تطابق» بين الوصف والموصوف؛ معيارهم في الصدق هو «التطابق» بين القول والموضوع الذي قيل فيه ذلك القول، وليس حتما أن تكون مجموعة الأقوال التي أقولها عن العالم مما يكمل بعضه بعضا في بناء واحد؛ إذ قد لا يكون في العالم هذه «الواحدية»، بل قد يكون - كما هو رأي الواقعيين فيه - قوامه كثرة متجاورة، أو متعاقبة من أشياء أو من حوادث.
وصفة ثالثة يتميز بها المذهب الواقعي الجديد هي اهتمام أصحابه بالعلوم، وبصفة خاصة اهتمامهم بعلم الطبيعة والرياضة؛ فكثيرون منهم أولئك الذين اشتغلوا بالفلسفة بعد دراستهم لعلم الطبيعة أو للرياضة دراسة تخصص، وعلى كل حال فليس المقصود باهتمام الفلسفة المعاصرة بالعلوم وبالرياضة أنها تسعى إلى ما يسعى إليه العلم من جمع الحقائق واستدلال القوانين، بل المقصود هو أنها تأخذ من العلم مبادئه وطرائقه ومدركاته الكلية، فلئن كان العلم يسعى إلى تصنيف الحقائق في مجموعات مستعينا في ذلك بالقوانين العلمية، فهذه القوانين العلمية نفسها هي بمثابة المادة الخامة للفلسفة، ولكن بأي معنى؟ بمعنى أن الفيلسوف المعاصر يجعل فلسفته تحليلا للعلوم في مبادئها وقوانينها، فإذا كان المبدأ الذي منه يبتدئ علم ما طريق سيره هو «س»، فمهمة الفيلسوف هي أن يحفر الأرض تحت «س» هذه ليرى على أي العناصر الأولية ترتكز ، خذ لذلك مثلا تحليل برتراند رسل للعدد؛ فعلم الحساب يبدأ سيره من سلسلة الأعداد: صفر، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ... إلخ، من هذه الأعداد يجري عملياته جمعا وطرحا وضربا وقسمة ... إلخ، لكن ليس من شأن علم الحساب أن يحلل هذه الأعداد ذواتها، ترى هل تكون سلسلة الأعداد مفروضة علينا فرضا كنقطة ابتداء أم ترانا إذا ما حللناها ألفيناها ترتد إلى أوليات سابقة عليها في عملية التفكير؟ لكي يجيب «رسل» عن هذا السؤال، غاص في تحليلات (ستكون موضوع الفصل التالي من هذا الكتاب)، وانتهى إلى نتيجة هي أن العدد فكرة مركبة، عناصرها هي الفئات من الأشياء التي يمثلها كل عدد على حدة؛ فمثلا في العالم مجموعات من أشياء قوام كل مجموعة منها سبعة أعضاء، كأيام الأسبوع، والسماوات السبع، وهذه المقاعد السبعة التي في غرفتي إلى آخر هذه المجموعات المسبعة الأعضاء في أنحاء العالم كله، ونريد أن نرمز إلى هذه الفئات المسبعة باسم واحد؛ لنضمها كلها في مجموعة واحدة، أو في فئة واحدة؛ لما بينها من شبه يجمعها، وهو كون كل واحدة منها متطابقة في عدد أفرادها مع سائرها، فإذا أطلقت عليها رمز «7» كان تحليل هذا الرمز في حقيقيته هو أنه رمز دال على فئة من فئات، أي مجموعة من مجموعات أشياء بينها تشابه في وجه من الوجوه ... إذن فالعدد الذي يبدأ عنده علم الحساب ليس في ذاته فكرة أولية بسيطة، بل سبقته فكرة «الفئة» التي يكون بين أفرادها تشابه يبرر وضعها في مجموعة واحدة، ولما كانت فكرة «الفئات» من بين الأفكار الرئيسية في علم المنطق، كان علم الحساب - وكانت الرياضة كلها - نابتة من جذور ضاربة فيما وراء الحساب والرياضة؛ إذ تمتد إلى أوليات المنطق.
هذه التحليلات وأشباهها في أصول الرياضة والعلم الطبيعي هي ما نعنيه حين نقول إن فلاسفة الواقعية الحديثة يهتمون بالعلوم والرياضة، وينصرفون بمجهودهم إلى تحليل أصولها، وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم ما قلناه من أن مبادئ الرياضة وقوانين العلوم هي المادة الخامة للفلسفة وتحليلاتها، حتى لقد صح القول بأن الفلسفة لم تعد شيئا سوى المنطق التحليلي.
وهذا الاتجاه التحليلي في الفلسفة المعاصرة يسلمنا إلى صفة رابعة تتميز بها هذه الفلسفة، وهي وضوح الأسلوب والتخلص من الزخارف اللغوية التي هي من خصائص العقل المهوش، ولا أظنني أجاوز الصواب إذا زعمت بأن الفلاسفة المثاليين يجعلون غموض العبارة شرطا للعمق الفلسفي؛ إذ كيف تكون - في رأيهم - عميق الفكر دون أن تكون صعب الفهم معقد الأسلوب غامض العبارة؟ أما أصحاب الفلسفة التحليلية المعاصرة، فلا يسمحون لأنفسهم بذكر كلمة واحدة بغير تحديد معناها، ولا بذكر عبارة واحدة لا تتسم بالوضوح، بل بالنصوع الذي لا يدع عند القارئ مجالا للتخبط والضلال في تلمس المعنى المراد، كان محالا عليهم أن يجعلوا مهمة الفلسفة الأساسية تحليلا وتوضيحا لقضايا العلوم دون أن يبدءوا بأنفسهم، فلا يكتبون إلا ما هو بين واضح، وليس أدل على وضوح الكتابة الفلسفية في كل ما أنتجه الفلاسفة على مر القرون، من فيلسوفنا «برتراند رسل».
هذا المنهج التحليلي نفسه، وهذه الكتابة التحليلية الواضحة التي تحدد معانيها تحديدا لا يدع سبيلا إلى غموض أو التواء، هما نقطة الابتداء التي تفرعت عندها مدرسة جديدة تولدت عن الفلسفة الواقعية، وقد جعلت تلك المدرسة الجديدة التحليل والتحديد والتوضيح غايتها الأولى والأخيرة التي لم تعد - في رأيها - للفلسفة غاية سواها، وإنما أعني بها مدرسة الوضعية المنطقية، فهي «وضعية»؛ لأنها ترفض الميتافيزيقا، وهي «منطقية»؛ لأن رفضها للميتافيزيقا قائم على تحليل العبارات الميتافيزيقية نفسها لبيان خلوها من المعنى، فهي - إذن - لا ترفض «ما وراء الطبيعة» على أساس مذهبي، بمعنى إحلال مذهب محل مذهب، بل ترفضها على أساس منطقي، ما دامت عباراتها لا تتوافر فيها شروط الكلام المقبول التي من أهمها أن تكون العبارة مما يمكن تحقيقه للتثبت من صوابه أو خطئه.
Halaman tidak diketahui