فتوددوا إليه بابتسامة بلهاء، ولم ينبس أحد بكلمة، فعاد يقول وهو يتناول خرطوم النارجيلة: عيب أن يعيش الرجال كالنسوان، لا تمكنوا أحدا منكم.
ولما لم يجد بادرة تشجيع واحدة، قال بشيء من الحدة دل على نفاد صبره: ومن يتستر على مجرم سأعامله كمجرم.
ورمشت أعينهم في ارتباك ثم تفرقوا تباعا، كل يلوذ بالسلامة. وتجول الضابط في الحي مستطلعا يتبعه بعض العساكر. طاف بدعبس كما طاف بالحلوجي. وطوقته الأبصار حيثما ذهب، من النوافذ والمقاهي والأركان، ارتطمت به نظرات التوجس والسخرية والحنق. ومر بالأعور فتجاهله، ومر بجعران فتجاهله، ثم أطلق ضحكة مجلجلة. ولبث عثمان هادئا طيلة الوقت.
وأدرك الجميع أنه يستعرض هيبة الحكومة، فعزم جعران على أن يدهمه بالرد الحاسم. وعند أصيل اليوم نفسه نشب عراك دام بين الحلوجي ودعبس في خلاء الدراسة، انتشرت أنباؤه كاللهب في وكالة خشب. وارتعد قلب الليثي الضعيف، وسابت مفاصل الفرغانة. ونصح كثيرون الأب بأن يزوج ابنته من جعران فهو الأقوى على أي حال، وخراب أهون من خراب.
وفي صباح اليوم التالي ظهر الضابط في الحارة مرتديا جلبابا كسائر أهل العطفة! لم يصدق الناس أعينهم أول الأمر، ولكن هويته تأكدت بصوته المعروف حين ارتفع قائلا: من كان يخشى البدلة فقد خلعتها، والآن فليأت إلي الفتوات إن كانوا حقا رجالا!
وابتعد عن النقطة وحده دون أن يسمح لعسكري واحد بأن يتبعه، ولكن تبعه الذاهلون من الرجال والنساء والصبية. ومضى إلى الحلوجي بثبات لم يعرف عن أحد قبله، حتى وقف أمام قهوة بندق حيث يوجد جعران بين صحبه وتابعيه. وقال عثمان بهدوء، ولكن بوجه تتطاير من عبوسته النذر: أمس تحديتم الحكومة، ها أنا بينكم وحدي أطالب بنصيبي من التحدي، فالجدع منكم يتقدم؟
ورقص شاب يدعى عنبة ببطنه في وقاحة مزرية، وهو على بعد أذرع من الضابط، فمال هذا نحوه بغتة، ولكمه في بطنه لكمة شديدة سقط على أثرها بلا حراك. وذهل الجميع لجرأة لم يتوقعها أحد على حين تراجع المتفرجون عن منطقة الزلازل. واستقرت الأبصار على جعران وهو متربع على أريكة متلفعا بعباءته. ولأول مرة نظر جعران في وجه الضابط عثمان، ثم قال: أنت غدرت بصاحب لي بلا سبب.
فصاح عثمان: استحق التأديب فأدبته، وسيأتي دورك في الحال.
قال جعران بوجه مشوه بالندوب: أنت شباب .. اذهب من أجل خاطر أهلك!
فصاح عثمان: قم إن كنت رجلا وتقدم.
Halaman tidak diketahui