وتزوجته. زاد عدد الأنفس واحدة، وزاد الرزق قليلا، ونشأت مشكلة أكبر.
الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما، هذا صحيح، ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب، ولو صدفة؛ فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما، كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبيرات، عارفات، ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار، ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن، ولم يعدن إلا قرب الغروب، مترددات، خجلات، يقدمن رجلا، ويؤخرن رجلا، حتى يزددن قربا، وحينذاك يدهشهن، يربكهن، يجعلهن يسرعن، ضحكات، قهقهات رجل، تتخللها سخسخات امرأة ... أمهن لا بد تضحك، والرجل الذي ما سمعنه إلا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك، بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها، ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة، أنار، ها هو أمامهن، كلمبة الكهرباء، مضيء، ها هي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك. تلك التي كانت مستكنة في قاع المحجر.
الصمت تلاشى واختفى تماما، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء، نكت تترى وأحاديث، وغناء، صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوته عال، أجش بالسعادة، يلعلع.
خيرا فعلت يا أماه، وغدا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طعم الرجال.
نعم يا بنات، غدا يجيء الرجال ويهل العرسان، ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها، ليس الرجال أو العرسان، ولكنه ذلك الشاب، كفيف، فليكن، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان، هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة، ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.
الصمت تلاشى، وكان إلى غير رجعة. ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها، وعلى سنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟! وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء، وهم جميعا معا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات، متباعدات، يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن، يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات.
كان نهارها «غسيل» في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرا، ولكن، لما الليل عليه طال، والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر، يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعدادا لليل قادم. وذات مرة، بعدما شبعا من الليل، وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها، ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؛ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا، ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنا أن تجن، كان ممكنا أن يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى.
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا، وحبست معه أنفاسها، سكتت، بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون، راحت تتسمع، وهمها الأول أن تعرف الفاعلة. إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى. إن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق، ولكنها تتسمع، الأنفاس الثلاثة تتعالى، عميقة، حارة كأنها محمومة، ساخنة، بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها، أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقا واحتباسا. إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة مكتومة، وكومة أخرى، كلها جائعة، كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس، ليس أنفاسا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو أكثر.
غرقت في حلالها الثاني، ونسيت حلالها الأول، بناتها، والصبر أصبح علقما، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر، فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفي: البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبدا ليس مثل الجوع حرام. إنها تعرفه، عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه، وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه.
Halaman tidak diketahui