أو هكذا قال.
السيدة المؤدبة المتربية سكتت، العيون انصرفت، الدكتور عويس قرر أن يقاطع ما يحدث أمامه فكريا تماما، وأن ينصرف إلى ما سوف يقوله في الاجتماع الخطير الذي سينعقد بعد ساعة واحدة.
كل ما في الأمر أن الرجل الدمنهوري فيه كان بين الحين والحين يطل برأسه ويدفعه إلى العودة لمتابعة المشهد ليطمئن إلى أن الرجل قد كف تماما عن مضايقة السيدة، ولكن إطلالات الرجل الدمنهوري كثرت حتى طردت تماما اهتمامات أستاذ الأنثروبولوجيا، وصاحب مشروع اللائحة، الرجل، رغم كل ما حدث، استأنف المحاولات وبجرأة أكثر، حتى والسيدة بين الحين والحين تجبر عنقها المكتنز على الالتواء، وتصويب نظرات صاعقة، هلعة، مستبشعة، راجية، أخيرا بدأ يظفر منها دمع متحجر صامت، نظرات كان واضحا منها أنها تتعذب عذابا لم تذقه في عمرها؛ إذ كانت تتألم ذلك الألم القاتل الذي لا يستطيع فيه المرء أن يصرخ أو ينطق أو يقول لا، والرجل، وكأنه فقد الإنسانية والحيوانية معا، لا يولي شيئا من هذا كله أي اعتبار، مندمج بكليته في متعته الدنيئة الغارق فيها لا يرى سواها ولا يهمه أي ألم هائل تعانيه السيدة لقاء لحظة المتعة تلك، كان على الدكتور عويس أن يستحضر ذاته العلمية بكل قواه وقواها حتى لا يندمج ويقوم من فوره بمهمة المصلح الاجتماعي الأخلاقي المباشر، هذه الأعمال والتدخلات المباشرة اليومية ليست مهمة رجل علم مثله، رجل العلم مهمته أشمل بكثير، أن يغير البشرية كلها، فإذا تناولها فردا فردا وحالة حالة غرق فيما يغرق فيه إنسان الحياة اليومية وضاعت رسالته إلى الأبد، عالم هو، وكعالم فليراقب بلا أي انفعال، وكأنه يراقب فئران تجارب، وهمه كله أن يستخلص من التجربة مغزاها ليكتشف للظاهرة حلها العلمي الصحيح، لا أن يتدخل لرفع ظلم مؤقت تعانيه فأرة من فأر، هذه مهمات الفتوة والقانون ورجل البوليس، والجدع الشهم، وكلهم أيضا، في التجربة العلمية فئران.
وهكذا لم يبد غريبا للدكتور عويس - وإن كان قد اعتبره اكتشافا جديدا حقا - أن يلحظ أنه لم يعد وحده الذي يتابع ما يجري، وأن أكثر من عين تختلس النظر، بل، وهذا مدهش حقا. في بعض النظرات متعة وترقب وحماس من حماس المتفرج أو المتابع، يكاد يقترب الأمر من المتعة.
نظرات كثرت، والرجل قد بدأ يمد يديه، وبأصابع ترتجف، انفعالا، لا خوفا، يرفع ثوب السيدة شيئا فشيئا، مجمعا قماش الثوب في قبضتيه اللتين يستعملهما في نفس الوقت لزيادة احتضانه لها.
الأتوبيس مشحون صامت، يخترق شوارع ضيقة، تنفذ ضجتها إليه وتغرق كموجات البحر صمته، الركاب كل في ملكوته، حتى القليلين الذين يتتبعون الجاري بما فيهم عويس قد احتواهم هذا الملكوت الخاص، المفاجئ حقا، هو هذه الكلمة التي خرجت مجرحة بالغيظ مخنوقة بالدموع مكتومة وكأنها تتصاعد من أظافر القدم. - الحقوني يا ناس، دا بيقلعني هدومي.
صرخة، شبه صرخة، ذهول مؤقت، صفارة طويلة من الكمساري، فرامل سريعة من السائق، تحرك اللحم في العربة مندفعا بتأثير الوقفة المفاجئة اندفاعة شديدة كادت تدلقه إلى أمام، ثم دلقة أشد حين تم الوقوف، إلى الخلف، وهكذا تغير الحال تماما، ولم يعد أحد في مستقره، حتى الدكتور عويس وجد نفسه في قلب الدرجة الثانية وفوق رأسه تماما سبت يتساقط من شقوقه ماء سمك طازج. - مالك يا ستي، حصل إيه؟!
في انفجار باكية مغيظة، أشارت السيدة إلى الرجل الذي كان واقفا خلفها والذي كان قد أصبح في الدرجة الأولى بينه وبينها ركاب. - دهه، ابن ال... دهه، كان ... - أنا؟!
لا قرقعة صفائح هذه المرة، وإنما عواء ذئب صارخ، أو ربما زئير ضبع أو أسد. أنا؟! واندفع ناحيتها، أنا يا قليلة الأدب، وبكف صغيرة جافة هوى قلم، وقلم.
وسأل السائل الأول: حرام تظلمي الناس، أنتي متأكدة.
Halaman tidak diketahui