ماذا أفعل؟
كلما سألت الناس قالوا افعل مثلما يفعل الناس، وأسأل ماذا يفعلون؟ فأجدهم لا يفعلون شيئا بالمرة، أحيانا يحاول البعض لمسها والتمليس عليها وهدهدتها، أحيانا يثور البعض ويغضب ويسبها، بعض آخر يركلها وينطحها ولكن رأس الجمل تبقى دائما كما هي، ويبقى الناس كما هم، تبدو لهم بطريقة يعجبون لها أول الأمر، ثم يتحدثون فيها، ثم يملون الحديث، ولا يعود ذلك الوجود الغريب لرأس الجمل ظاهرة قابلة للتوقف أو حتى النظر، بل تتحول على يد الناس، وهم في هذا عباقرة، إلى ظاهرة مفيدة، مرة في الاعتذار عن تأخير، في تبرير اشتداد الحرارة في الصيف، في التبشير بحلول النعمة إذا حلت أو العثور على علامة للنقمة.
ويتم هذا كله دون أن يثير دهشة أحد، أو استغرابه أو حتى يفكر لحظة ويتأمل، وربما لهذا فرأس الجمل لا يكف عن الظهور، ربما لو اندهشنا، فقط اندهشنا، كلنا اندهشنا كلما ظهر لما ظهر، ربما نحن مرضى، كلنا مرضى قد أصبنا يوما بمس في خيالنا ترك آثاره، على هيئة رأس جمل، أو ربما الإصابة قضت فينا على مراكز الدهشة والعجب أو ربما شيء آخر، ربما التطور، أجل التطور قد وصل بنا إلى مرحلة الإنسان الذي لا بد أن يظهر له رأس الجمل، بحيث تكون الكارثة لا أن يظهر ، وإنما أن نستيقظ ذات صباح فنجده لا يظهر، أي مصيبة ساعتئذ وأي ضياع، وماذا نفعل ونحن قد أصبحنا لا نحيا الحياة أو نزاولها لأننا نريدها وإنما لأنه يطل علينا كلما شرعنا في عمل الشيء أو مزاولة الانفعال، لولا إدراكنا أنه سيطل لما أقدمنا أبدا على شيء، ولولا إدراكي لوجوده ما كنت أبدا قد أقدمت على ما أقدم عليه الآن، فالآن، وبلا ذرة دهشة أو غرابة ودون أن أرفع رأسي متأكد أن رأس الجمل يطل علي، ذلك الرأس العالي الطويل وكأنما مطت ملامحه كثيرا إلى أمام والشفاه الثلاث الكبيرة إلى حد الورم، والأسنان المتراصة، سنة كبيرة بجوار سنة كبيرة، منطبقة تماما ولا فرجة بينها، إلى أمامه يتطلع ولا يتحرك، لا يغضب ولا يرضى، لا يحفز ولا يثبط، لا يفعل شيئا أبدا إلا أن يطل، مجرد يطل.
سنوبزم1
حكاية الدكتور عويس حكاية، الأغرب أنه لم يحكها ولا يحكيها، ولا تزال لا تحتل من اهتمامه أي مكان بالمرة، حكاية هايفة في رأيه، فالموضوع المهم هو اللائحة، واللائحة هي «جنونة» الدكتور عويس هذا الموسم، فهو له في كل موسم أو كل شهر أحيانا «جنونة».
صدفة رأيته يعبر ميدان التحرير بأقصى سرعة، كدت أضحك لمجرد أنه يجري، فهو ليس وقورا فقط ولكنه من النوع الذي يراعي الوقار حتى في غير حضرة الناس، وقار زائد مبالغ فيه، وجدية خطيرة تكسو ملامحه، حتى أني كلما رأيته تساءلت كيف يستطيع التخلص من هذا كله وهو مع زوجته في الفراش، أو الأدهى، كيف يتصرف معها بكل هذا الوقار.
لم يرني، أنا رأيته وصحت به، توقف، تلفت، تحرج، مسح العرق، أنا ذهلت، كان لأول مرة بلا نظارة، نظارته التاريخية التي لا يغيرها، بدا وجهه كالعورة حين يخلع عنها السروال، سلامات، وأنت فين؟ وكيف حالك ولا مؤاخذة؟ وعامل إيه؟ وأنا أتطلع وأكتم شيئا كبركان الضحك يدمدم في صدري، لا لملامحه بغير نظارة فقط وإنما لعينه اليسرى وقد أزيلت تماما ومعها جزء من الوجنة والحاجب، لم تزل وإنما ارتطمت بها كرة من «البلا » الأزرق سدت عينه ومحجرها واستقرت بارزة زرقاء ناتئة كفانوس عربة نقل مطلي باللون الأزرق، كدمة، كدمة لا بد سببتها «بونية» صوبت بمهارة ومن بطل ملاكمة محترف من الوزن الثقيل على الأقل، المسألة فيها علقة إذن، انفجر البركان وضحكت بأعلى وأبشع ما ضحكت في حياتي، كان لا يزال يتحدث ولا أسمع، سادر في الضحك أكاد أسقط فوق الرصيف، أخيرا لمحت فمه يغلق، ويتلفت ثم يواجهني بعينه السليمة مليئة بحيرة طفولية حقيقية ربما يتساءل بها عما يضحكني، أو ربما يحاول تشخيص حالة عقلية حادة أصابتني وجعلتني أضحك بلا سبب معقول، وفقدت السيطرة على نفسي وانثنيت واعتدلت أضحك وأضحك وأضحك، وربما تخلصا من حيرته لما اعتراني بدأ يشاركني في الضحك بطريقة واضحة الافتعال، ثم لما لاحظ أني كلما نظرت إلى وجهه الأيسر ضحكت فطن أخيرا فابتسم لشدة بلاهتي ربما وقال: آه، عشان دي يعني.
وأشاح بيده كمن يطرد ذبابة غير مهمة، وقال: يا أخي خلينا في المهم، عارف حصل إيه الأسبوع اللي فات، اكتشفت أن تلاتة على الأقل من أعضاء هيئة التدريس يدبرون مؤامرة صغيرة ضد مشروع اللائحة.
وبالقوة كتمت الضحك بيد، وأشرت متسائلا عن سبب تورم عينه وفقده نظارته بهذه الصورة، أشاح أيضا بلا اهتمام قائلا: أبدا، حادثة بسيطة من الأسبوع اللي فات. المهم أن المؤامرة ضد اللائحة هذه بدأت من عشرة أشهر، تصور، عشرة أشهر.
أخيرا نطقت أنا: الأسبوع اللي فات امتى وازاي؟ - بقول لك من عشرة أشهر، اللائحة. - أنا أقصد عينك. - لا دي حكاية بسيطة لا تذكر، حادثة كده، ناس أوباش، سنوبز.
Halaman tidak diketahui