ولكنه جدع لا يلبس جلبابا من السكروتة، وعمره ما جلس على قهوة، ولا ذهب أبدا إلى البندر. فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين حملوا عبء اخضرار بلادنا لسبعة آلاف عام أو تزيد، فهو مهما اشتغل في الغيط لا يتعب، ومهما نام لا يستريح، ومهما أكل لا يشبع، وأبدا لم يرتد في حياته جلبابا، فهو دائما بلباسه وفانلته وفوق الفانلة صديري لم يحل لونه فقط، ولكن انمحى «وجهه» اللامع تماما وبقي على البطانة الدمور، والفانلة متآكلة مثقوبة في أكثر من موضع، واللباس به رقعة غير جيدة الصنع، فقد صنعتها له أمه، وأمه نظرها ضعيف، وتزهق من لضم الإبرة.
ولكن محمد على أية حال شاب، في الثامنة عشرة وإن كان يبدو في الثامنة والثلاثين، وله أيضا كل نزوات الشباب، بل ويعرف البصبصة، ويغني أحيانا، ويلقح بالكلام على البنات إذا عملن معه في الحقل أو ضمته وإياهن ماكينة الطحين، ولكن تجاربه في الحقيقة بدأت مع الحيوانات، كل الحيوانات من الماعز إلى الأبقار والجواميس، وانتهت إلى المشهورات جدا من النساء، أولئك اللائي يقعن بمجرد وقوع النظر، بل أحيانا بالسمع، ولم يكن أبدا في حياته يحلم بما حدث، بله أن يحدث في يوم صيف حار كافر كهذا اليوم، قضى كل صبحه يجري خلف حمار «القنادلة» الذين يعمل عندهم حاملا نقلات السباخ إلى الغيط البعيد، وقد أتم الثلاثين نقلة أي ما يوازي بلغتنا نحن الستين كيلومترا قطع نصفها جريا وراء الحمار، ونصفها الآخر راكبا إياه تكاد سلسلته الظهرية العجفاء البارزة تقسمه إلى نصفين، ركوبة أسهل منها بكثير الجري أو السحل. في ذلك اليوم عطش، واستبد به العطش إلى درجة أصبح يحلم فيها بالماء، ومن شدة ظمئه نفى من خاطره أن يشرب من بيت القنادلة، فالماء لديهم يحتفظون به في البلاليص، وهو دائما ساخن، ودائما فيه عكار، الشربة الحقيقية لا تكون إلا من بيت الشيخ صديق ومن زير أم جاد المولى النظيف، ومائها البارد المقطر الذي تضع فوق فتحة زلعته شاشة بيضاء تمنع الواغش والغبار، ويرد منظرها الروح، هكذا صمم محمد وهو يلكز الحمار الكسول وينخزه ليسرع به إلى أول البيوت حيث بيت أم جاد المولى.
وما يكاد يطل من الباب وتتعود عيناه رؤية ما يغلفه شبه الظلام في الداخل حتى تسمر محمد في وقفته خجلا واحتراما وأدبا، فقد وجد أم جاد المولى تصلي وبالذات تركع، وقد أعرض جسدها بطريقة لم يملك معها محمد إلا أن يقف خجلا واحتراما وأدبا، ولم تطل الصلاة، فسرعان ما جاءت التحيات، وحين التفتت بوجهها لتسلم ذات اليسار أزادت من التفاتتها لترى من الواقف، وعافى عليها محمد وسألها إن كانت تسمح له بشربة ماء، وهزت أم جاد المولى رأسها موافقة دون أن تنطق بحرف فقد كانت تتمتم بختام الصلاة، وأشارت إلى الزير ، الذي كان محمد من فوره قد توجه إليه وأمال الزلعة وملأ الكوز وشرب. شرب كوزين، وارتوى. أحس بجسده يلهث من فرط الري والاكتفاء وأحس أنه مدين لأم جاد المولى أو كما تعودوا تسميتها الشيخة «صابحة»، لا لأنها زوجة الشيخ صديق، ولا لأنها تصلي وتداوم على الصلاة، ولا تسلم عليك مرة إلا وقد أحاطت يدها بثوبها حتى لا تنقض الوضوء، ولكن لأنها دونا عن النساء جميعا كانت تفضل أن تلف رأسها بطرحة بيضاء، أحس أنه مدين للشيخة صابحة بدين كبير، حاول أن يرد بعضه، فسألها وهو في طريقه إلى الباب إن كان باستطاعته أن يؤدي لها خدمة، وقالت الشيخة أم جاد: كتر خيرك يا خويا، كتر ألف خيرك.
وكاد يدلف مسرعا إلى الخارج ليلحق بالحمار الذي تركه ومضى، حين سمع كلمة: بس، والتفت خلفه ليلمح ابتسامة أم جاد المولى المعوجة قليلا، والتي لا تظهر من خلالها سوى أسنان قصيرة، ويجدها تطلب منه في تردد إن كان باستطاعته أن يصنع لها معروفا ويرفع بلاص الماء الاحتياطي ويدلقه في الزير الذي انخفض ماؤه. بس كده. وبجذبة واحدة رفع البلاص ودون حتى أن يسنده على حافة الزير أماله ومضى الماء يخرج من فتحته على دفعات ضخمة هادرة.
في ذلك الوقت لم يلحظ محمد أن الشيخة صابحة ترمقه للمرة الأولى منذ أن دخل البيت، وفي الحقيقة لم تكن ترمقه كله، كان بصرها مستقرا على ساقيه السوداوين المجرحتين بالشقاء والملبدتين بالشعر، وليس على ساقيه بالذات، بالدقة على ذلك الشيء الذي انتفخ فجأة في سمانة كل من ساقيه وهو يشب ليسيطر على البلاص ويصبه، شيء بدا صلبا وكأنه كتلة حديد قد تكونت من تلقاء نفسها تحت الجلد، شيء لا يمكن أن يحدث أبدا إلا من جسد رجل، وهو شيء ليس غريبا على أم جاد المولى، فلزوجها الشيخ صديق شيء مثله، ولكن سيقان زوجها هزيلة رفيعة كالبوصة، إذا شب أو سار تصلبت سمانتاه أيضا ولكنه تصلب لا ينتج إلا كتلة صغيرة مفرطحة لا تكاد تظهر من الجلد، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تعقد فيها أم جاد المولى مقارنة بين زوجها وبين أي رجل تراه أو تلقاه، فلها سنين وهي تعقد تلك المقارنات، بالضبط أربع سنوات، منذ هذه الطوفة التي جاءته وجعلته يبدأ يغالي في التدين وصلاة الضحى والتراويح ويسهر الليالي في الموالد يذكر ويجعل من نفسه إماما للذاكرين ويؤمن بتلك الطريقة الدمرداشية، ويتروحن ويحدثها عن الوصول، والسادة والأولياء والإمام الغزالي وكبار الواصلين ويفرض عليها الطرحة البيضاء والسبحة.
في الحقيقة لم تدهش أم جاد المولى لهذا التحول، فالشيخ صديق طول عمره نحيف ضعيف خفيض الصوت شاحب اللون قليل الطعام كثير نوبات حرقان القلب والمغص، لا يقطع فرضا، ولا يؤذي نملة، حتى في صباه، كان الشبان جميعا يكتفون بارتداء طواقيهم وهو وحده الذي ينفرد بالتعمم عليها، ولكنه كان فلاحا خبيرا بالفلاحة يحب الأرض والزرع ويجن شغفا بالمواشي ويفرح بولادتها ربما أكثر من فرحه بولادة الابن، والقراريط التي يزرعها دائما فيها خضرة أو شيء لا يزرعه الناس، ولكن تلك الروحنة لم تأته إلا من أربع سنين، لكأنما كانت و«بلوغ» ابنهم إسماعيل على ميعاد، وكأنما جاءت ليصب هو نقمته عليها لأنها لا تصلي، فإذا صلت ظل يواصل نقاره حتى تصوم «الستة» ولم يتركها إلا وقد ألبسها الطرحة البيضاء، وهي قابلة على مضض الضيق أول الأمر بكل الهلوسة التي اجتاحته وعلى تركه للأرض مهملة لا تجد من يعتني بها ويسقيها، وعلى إهماله لها وللدار ولكل شيء وتفرغه تماما لنوبات العبادة التي تبدأ مع العشاء ولا تنتهي إلا بعد الفجر حيث يصلي وينام للضحى، ويروح منهم «دور» الماء في الساقية، ويعطش القمح وتفضى سنابله، ولا يصح لهم من الفدان إلا إردبان.
قابلة على مضض الضيق أول الأمر، ثم على مضض الصابر، ثم على يأس المستسلم، ثم على محاولة للتروض وللوصول إلى عزاء لا أكثر وطلبا للسلوى، ولكن نوبات النقاش والمناكفة ومحاولة تذكيره بترك المسبحة جانبا وإمساك الفأس كثيرا ما كانت تراودها وتجعلها تعقد بينه وبين غيره من الرجال المقارنات أمامه وخلفه، ولكنها المرة الأولى التي تعقد مقارنة بين سمانة رجله وسمانة أي رجل آخر.
كل هذا لم يلاحظه محمد، وحتى لو كان قد لاحظه لما فهمه، كل الذي لاحظه حقيقة أنه وجد أم جاد تقوم فجأة وتأتي لتقف بجواره أمام الزير وتمد يدها تريد انتزاع البلاص منه وهي تقول: عنك أنت يا خويا بقي، كفاية عليك، زمانك تعبت.
وهو يجذب البلاص ناحيته ويتشبث به: والله أكبر كلمة لا يمكن، تعبت إيه هو ده اسمه كلام. - والنبي يا محمد إلهي يخليك لشبابك، هاود بس. - واللي نبى النبي لا يمكن.
وجذبة إلى هنا وجذبة إلى هناك احتك كوعه بطرحتها البيضاء فأزاحها قليلا، واحتك ذراعه بذراعها وفانلته بثوبها، وبالذات سمانة ساقه بجانب ساقها.
Halaman tidak diketahui