وللكتاب الفرنسيين فنون في تصوير هذا الفصل من الأدب الصيفي تلقاها في صحفهم على اختلافها، تلقاها في صحفهم الهازلة، كما تلقاها في صحفهم الجادة. ثم لهم فصول يصفون فيها السواحل وحياة المستحمين، وأخرى يصفون فيها مدن الماء، وأخرى يصفون فيها مصايف التلاميذ الفقراء، ولهم بعد هذا فصول يصفون فيها هذه الألوان من اللهو الذي يبتكره المصطافون ابتكارا؛ ليستعينوا به على الوقت والفراغ، وليستعين به بعضهم على بعض.
وهناك طائفة من الكتاب إذا أقبل الصيف ولم يجدوا ما يكتبون عن بلادهم كتبوا عن البلاد الأخرى، يسعون إلى ذلك، ويبلغونه بالسفر وبالقراءة، فهذا الناقد من نقاد التمثيل ينظر، فيرى الملاعب قد أقفلت أو أعرضت عن التجديد أثناء الصيف، فينتهز الفرصة، ويتحدث إلى قرائه عن الأدب التمثيلي الأجنبي في فصول ظريفة من أجمل ما يقرأه الناس، فإذا لاحظت أن المثقفين من الأوروبيين - وما أكثرهم - يشغلون بالعمل في أكثر السنة، ولا يجدون من الوقت ما يحتاجون إليه ليقرءوا كل ما يحبون أن يقرءوا من آثار الكتاب والشعراء والعلماء التي تظهر في فصل الإنتاج العقلي، وأنهم يجمعون هذه الآثار ويضمون بعضها إلى بعض، وينتظرون بها فصل الإجازات؛ ليعكفوا عليها إذا ظفروا بقسطهم من الراحة، أقول، إذا لاحظت هذا، عرفت أن القراء من المثقفين الأوروبيين يشقون على أنفسهم في حقيقة الأمر؛ لأنهم يقرءون ما ادخروا لأنفسهم أثناء العام، وهم لذلك في حاجة إلى أن يرفق بهم الكتاب، فلا يكلفوهم جهد القراءة العنيفة الفنية الدسمة - إن صح هذا التعبير الذي لا أحبه وإنما أضطر إليه.
هذا هو الذي يكون، أو هو بعض الذي يكون في أوروبا إذا أقبل الصيف. فما الذي يكون في مصر حين يقبل هذا الفصل من كل عام؟ أما أن الطلاب والتلاميذ يتفرقون ويعودون إلى أسرهم ويصطاف القادرون منهم على الاصطياف؛ فشيء ليس فيه شك، وأما أن المصريين أنفسهم يرحلون عن مدنهم وقراهم، بل عن قريتهم الكبيرة التي نسميها القاهرة؛ ليصطافوا في مصر وفي غير مصر؛ فهذا شيء ليس فيه شك أيضا، بل ليس من شك في أن كثيرا من أهل القاهرة يهجرون مدينتهم إذا كان الصيف، وفي أن كثيرا من أهل الأقاليم يتخذون هذه المدينة الجميلة الثقيلة مصطافا؛ لأنها أقل حرا من أقصى الصعيد ومن كثير من قرى الريف، وفي أن كثيرا من أهل القاهرة يعجزون عن الرحلة، ويضطرون إلى المقام، فيكرهون ذلك ويضيقون به، ويلتمسون لأنفسهم منه المعاذير، ولكن الغريب أن شيئا من هذا كله لا يلهم كتابنا وأدباءنا حديثا من أحاديث الصيف هذه التي تمتلئ بها الصحف الأوروبية في هذا الفصل من كل عام.
شيئان اثنان يعني بهما الكتاب المصريون إذا كان هذا الفصل، أحدهما: موسم الامتحانات وما يثير من ضجيج وعجيج، ومن شكاة واستعطاف، ومن نقد للأسئلة ولوم للسائلين. والثاني: مصايف البحر وما تثير من هذا السخط الذي تمتلئ به نفوس جماعة من المتحرجين، يغضبون للحياء والأخلاق، ويكتبون الفصول الطوال يستعدون بها الحكومة على حماية الحياء والأخلاق، وما أظن أن كتابنا يعنون بغير هذين الأمرين من أمور الصيف خاصة.
هم إذن لا يرفقون بأنفسهم، ولا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعا، وصدوا عنها صدودا، وأراحوا أنفسهم من الكد، واستمتعوا بفترة قصيرة من الهدوء الذي هم أهل له. ولكن الصحف لا بد من أن تظهر، ولا بد من أن تظهر ممتلئة الأنهار، وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء كل العناء، أولئك يريدون أن يملئوا الصحف فلا يجدوا ما يملئونها به، وهؤلاء يريدون أن يقرءوا فلا يجدون ما يقرءون. وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي العام، ومع ذلك فما أبعد الصيف عن أن يكون فصلا من فصول الكساد لو عرفنا كيف نستقبله ونحتمله ونعاشره ونفارقه، كما يفعل غيرنا من الناس، على أني مجتهد منذ الآن في أن أغير للقراء من أحاديث الصيف؛ لعلي أعينهم وأعين نفسي على احتماله حتى تنجلي عنا غمرته، ولهم علي ألا أحدثهم في موضوع واحد مرتين حتى تنقضي هذه الأشهر الطوال.
يونيو 1935
حوار في الأدب
لم يرفع لي رأسه حين دخلت عليه، ولم يردد علي التحية حين أهديتها إليه، وإنما ظل مطرقا ممعنا في إطراقه، صامتا مغرقا في صمته، تمضي عينه رفيقة في كتاب قد وضعه أمامه على المائدة، وتعبث يده عبثا منتظما بقلم قد أخذت تضرب به صحفا منتثرة على المائدة على يمينه كأنما يداعب به هذه الصحف.
وليس من شك في أنه كان يقرأ ما يقرأه في عناية شديدة، وقد أخذ قلمه ونثر هذه الصحف ليسجل ما يخطر له من الملاحظات، وكنت خليقا أن أضيق بهذا الإعراض الذي لقيني به، وأنكر هذا الانصراف الذي ألح فيه، لولا أن الكلفة بينه وبيني مرفوعة، والألفة بينه وبيني متصلة، ولولا أني أعرف منه هذا النبو عما تعود الناس فيما بينهم من صلات قد يكون حظها من التكلف والنفاق أعظم من حظها من السذاجة واليسر، ومن هذه الصراحة التي لا تدع بين النفوس حجبا ولا أستارا.
وقد كان من الممكن أن أدخل عليه فلا ألقي إليه تحية ولا أنتظر منه جوابا، وإنما أعمد إلى هذا المكان الذي ألفته من غرفة عمله فأستقر فيه هادئا منتظرا أن يفرغ لي، أو أستقر فيه نشيطا لبعض ما أنشط له من العمل حين أدخل هذه الغرفة المغرية بالقراءة والجد لكثرة ما اشتملت عليه من الكتب المتنوعة في الفن والأدب والعلم. ولكني في ذلك الصباح دخلت عليه كما أدخل على غيره من الناس، وأهديت إليه التحية كما أهديها إلى غيره من الناس، فلما آنست منه هذا الإعراض ذكرت أني أزوره هو لا غيره من ذوي المودة والمعرفة، فعدت إلى ما ألفت من الأمر عند لقائه، وأقبلت على ما أردت أن أقبل عليه من عمل، وتركته لكتابه وقلمه يقرأ في أحدهما بعناية، ويعبث بأحدهما الآخر في نظام واطراد.
Halaman tidak diketahui