فالصيف أحب فصول العام إلي، وآثرها عندي، وأخفها على نفسي ظلا؛ لأن قمم الجبال تضفيني من القيظ، فتردني إلى نفسي وترد نفسي إلي، وأنا مقبل على القراءة في نهم لا أعرف له نظيرا في الفصول الأخرى. وإذا القراءة خصبة أي خصب، لا أكاد أقرأ الجملة أو الفصل حتى تتفتح لي أبواب من التفكير والحس والشعور، وإذا أنا في حاجة إلى أن أتحدث حتى أشق على أصحابي، وإذا أنا في حاجة إلى أن أملي حتى أشق على الذين يكتبون عني؛ والصيف يفتح لي خارج مصر فنونا من التجارب: يدعوني إلى المشي حتى أتعب وأتعب من معي، ويغريني بالانتقال من مكان إلى مكان، ومن مصطاف إلى مصطاف، ويحبب إلي شهود التمثيل والاستماع للغناء والموسيقى، ولست أبغض في مصر شيئا كما أبغض الخروج من داري والاختلاف إلى الأندية والجلوس في القهوات. ولست أحب خارج مصر شيئا كما أحب الخروج من الفندق وشرب القهوة هنا أو هناك. •••
فالصيف عندي إذا خرجت من مصر فصل الحياة الكاملة الحافلة المليئة، حياة العقل وحياة الحس وحياة الشعور، والصيف عندي إذا أقمت في مصر فصل الحياة الراكدة الخامدة التي لا تغني عني ولا عن الناس شيئا. ولست أعرف عاما خرجت فيه من مصر أثناء الصيف وعدت فيه إلى مصر فارغ اليدين؛ وإنما أنا أخرج من مصر فلا أكاد أستقر هنا أو هناك حتى يفتح الله علي بكتاب أمليه، أو بكتاب أعده في نفسي لأمليه إذا رجعت، ذلك إلا أن تحول الخطوب الثقال بيني وبين ما تعودت. والذين ينظرون فيما نشرت من الكتب يجدون أكثرها قد أرخ من قمة جبل أو مدينة في السهل الأوروبي.
أكثر كتبي بدئ أو أتم في جبال الألب، أو في لبنان، وأقلها بدئ وأتم في القاهرة. ولو استطعت لتمنيت أن تكون الحياة كلها صيفا، وأن أقضيها مطوفا في أقطار الأرض، وأن ألم بمصر بين حين وحين لألقى الأصدقاء والأخلاء، وأدفع إلى الناشر هذا الكتاب وذاك، وأكلف من الأصدقاء من يقوم على تصحيحه حتى تتم إذاعته في الناس. ولكن هيهات أن تكون الحياة كلها صيفا، وهيهات أن أنفقها كلها متنقلا بين الجبال والربى والسهول، إنما الحياة شتاء وربيع، وعلينا أن ننفقهما حيث يجتمع المجمع اللغوي والمجمع العلمي المصري، وحيث يلتقي الناس ليقول بعضهم لبعض ويسمع بعضهم من بعض، دون أن ينتفع أحد بما يسمع أو يقال، وحيث نلقي المحاضرات أو نستمع للمحاضرات، فلا نكاد نفيد ولا نكاد نستفيد. ثم صيف وخريف نفر فيهما من أنفسنا إلى أنفسنا، ومن أنفسنا الفارغة إلى أنفسنا العاملة، ومن حياتنا التي تقوم على اللغو والعبث إلى حياتنا التي تقوم على الجد والنشاط. •••
قلت هذا كله لصاحبي، فابتسم في سخرية، وقال في فتور: أقم ما طابت لك الإقامة، وارحل ما طاب لك الرحيل، فأنت رجل بدوي تكره على الحضارة إكراها، وأنا رجل حضري لا أحب النقلة ولا الارتحال. وكل ميسر لما خلق له، فأحبب صيفك، ودعني أبغض صيفي، فلن تغيرني، ولن أغيرك.
1948
دين
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
كذلك قال أبو الطيب حين أهدى إليه فاتك ما أهدى إليه من المعروف، فلم يكافئه إلا بالحمد والثناء.
وكذلك هممت أن أقول حين أهدى إلي لبنان ما أهدى من المعروف، ولكن لم ألبث أن تبينت أن بين أبي الطيب وبيني فرق ما بين الشاعر والكاتب، أحدهما يقول فتحفظ الكتب وتروي الأيام. والآخر يملي فيقرأ الناس ثم ينسون، وتسمع الأيام ثم تنسى، ويظل ما أملى دفينا في الصحف والأسفار كأن أحدا لم يمله، وكأن أحدا لم يقرأه، وكأن أحدا لم يلتفت إليه. ومع ذلك فالمعروف الذي أهداه إلي لبنان أبقى بقاء، وأعظم نماء، وأبعد أثرا، وأرفع ذكرا من ذلك الذي أهداه فاتك إلى أبي الطيب.
Halaman tidak diketahui