فقالت الأم التي لم تكن في الحق دون ابنتها قلقا: لا يتقدم أمر أو يتأخر إلا بإذن الله.
وقالت عائشة في صدق: ربنا يفرحنا بك قريبا يا خديجة.
فلحظتها خديجة بريبة وذكرت كيف طلبت إحدى جاراتهم يدها لابنها، فرفض الأب أن يزوج الصغرى قبل الكبرى، وتساءلت: أتودين حقا أن أتزوج أم تتمنين أن يخلو لك السبيل فتتزوجي؟!
فقالت عائشة ضاحكة: الاثنين معا.
6
ولما فرغن من الفطور قالت الأم: عليك يا عائشة الغسيل اليوم، وعلى خديجة تنظيف البيت، ثم تلحقان بي في حجرة الفرن.
كانت أمينة توزع بينهما العمل عقب الفطور مباشرة، ومع أنهما ترضيان بحكمها، وترضى به عائشة بلا مناقشة، إلا أن خديجة تكلف بتوجيه الملاحظات على سبيل الاستعلاء أو على سبيل المشاكسة؛ فلهذا قالت: أنزل لك عن التنظيف إذا كنت تستثقلين الغسيل، أما التمحك بالغسيل للبقاء في الحمام حتى ينتهي العمل في المطبخ فعذر مرفوض مقدما.
وتجاهلت الفتاة ملحوظتها ومضت إلى الحمام، وهي تدندن فقالت خديجة متهكمة: يا بختك بالحمام يرن فيه الصوت كما يرن في نفير الفونوغراف، فغني وسمعي الجيران.
وغادرت الأم الحجرة إلى الدهليز، ثم إلى السلم ورقته إلى السطح لتجول فوقه جولتها الصباحية قبل أن تنزل إلى حجرة الفرن. لم يكن التشاحن بين الفتاتين بالجديد عليها بعد أن انقلب مع الأيام عادة مألوفة في غير الأوقات التي يوجد فيها الأب في البيت، أو التي يطيب فيها السمر بين أفراد الأسرة، وجعلت تعالجه بالرجاء والدعابة والرقة البالغة، وهي السياسة الوحيدة التي تنتهجها إزاء أبنائها؛ لأنها صادرة عن طبع لا يطيق سواها، أما ما تقتضيه التربية أحيانا من الحزم فشيء لم تعرفه، ربما تمنته دون أن تقدر عليه، وربما حاولت تجربته فغلبها التأثر والضعف، وكأنها لا تحتمل أن يقوم بينها وبين أبنائها غير أسباب المودة والحب، تاركة للأب - أو لشخصيته التي تسيطر من بعيد - تقويم المعوج وإلزام كل حدوده. لهذا لم يضعف النقار السخيف من إعجابها بفتاتيها ورضائها عنهما، حتى عائشة المولعة لحد الهوس بالغناء والوقوف أمام المرآة، لم تكن دون خديجة مهارة وتدبيرا بالرغم من تكاسلها. وكان هذا حريا بأن يمد لها في أوقات الراحة لولا ما طبعت عليه من وسوسة بالداء أشبه؛ فهي تأبى إلا أن تشرف على كل صغيرة وكبيرة بالبيت. وإذا فرغت الفتاتان من عملهما نشطت هي بالمكنسة في يد والمنفضة في يد، وراحت تتفقد الحجرات والصالات والدهاليز، متفحصة الأركان والجدران والستائر وسائر العفش، عسى أن تزيل نقطة غبار منسية، واجدة لذة وارتياحا كأنما تزيل قذى من عينيها، ومن وسوستها تلك أنها كانت تفحص الثياب المعدة للغسيل قبل غسلها، فإذا عثرت على قطعة منها قد خرقت قذارتها المألوف لم تترك صاحبها دون أن تتلطف في تنبيهه إلى واجبه، من كمال الذي يناهز العاشرة إلى ياسين الذي كان ذا ذوقين متناقضين في العناية بنفسه يتجليان في تأنقه المفرط في مظهره من البدلة والطربوش والقميص ورباط الرقبة والحذاء، وإهماله المعيب لثيابه الداخلية. ومن الطبيعي ألا تغفل هذه العناية الشاملة السطح وسكانه من الحمام والدجاج، بل كانت ساعة السطح حافلة بالحب والسرور، فيها من أغراض العمل ما فيها إلى ما تجده من فرحة اللهو والمرح. ولا عجب فالسطح هو الدنيا الجديدة التي لم يكن للبيت الكبير بها عهد قبل انضمامها إليه، خلقته بروحها خلقا جديدا على حين ظل البيت محافظا على الهيئة التي شيد عليها منذ عهد سحيق. هذه الأقفاص المثبتة في بعض جدرانه العالية يهدل عليها الحمام من وضعها، وهذه الأكواخ الخشبية يقوقئ الدجاج في مسارحها من تركيبها، وكم يملكها الفرح وهي ترمي الحب أو تضع على الأرض آنية السقيا، فيستبق إليها الدجاج وراء ديكها، وتنهال مناقيرها على الحب في سرعة وانتظام كإبر آلة الخياطة، مخلفة في الأرض التربة بعد حين ثغرات دقيقات كآثار الرذاذ. وكم ينشرح صدرها إذ تنظر فتراها رانية إليها بأعين دقيقة صافية، مستطلعة متسائلة، ناقة مقوقئة، في مودة متبادلة ينز لها قلبها الحنون. أحبت الدجاج والحمام كما تحب مخلوقات الله جميعا، فهي تناغيها مناغاة رقيقة تحسب أنها تفهمها وتتأثر لها، ذلك أن خيالها يخلع الحياة الشاعرة العاقلة على الحيوان، وأحيانا الجماد نفسه. وعندها بمنزلة اليقين أن هذه الكائنات تسبح بحمد ربها وتتصل بعالم الروح بأسباب، فعالمها بأرضه وسمائه، حيوانه ونباته، عالم حي عاقل. ثم لا تقتصر مزاياه على نعمة الحياة فيكملها بالعبادة. لم يكن غريبا بعد هذا أن تكثر معاتيقها من الديوك والدجاج معتلة بسبب أو آخر، هذه لأنها معمرة وتلك لأنها بياضة وهذا لأنها تستيقظ على صياحه، ولعلها لو تركت وشأنها ما ارتضت أن تعمل سكينها في رقابها، وإذا دعتها الظروف إلى الذبح تخيرت الدجاج أو الحمام فيما يشبه الضيق، ثم تسقيها وتترحم عليها وتبسمل وتستغفر، وتذبحها وعزاؤها أنها تستمتع بحق منحه الله المنان وأوسع به على عباده. أما أعجب ما في السطح فكان نصفه الجنوبي المشرف على النحاسين؛ حيث غرست يداها في الأعوام الخالية حديقة فريدة لا نظير لها في أسطح الحي كله التي تغطى عادة بطبقة من قاذورات الدواجن، بدأت أول ما بدأت بعدد قليل من أصص القرنفل والورد، وراحت تستكثر منها عاما بعد عام حتى نضدت صفوفا بحذاء أجنحة السور ونمت نموا بهيجا، وخطر لخيالها أن تقيم فوق حديقتها سقيفة، فاستدعت نجارا فأقامها، ثم غرست شجرتي ياسمين ولبلاب ثم أنشبت سيقانها في السقيفة وحول قوائمها، فاستطالت وانتشرت حتى استحال المكان بستانا معروشا ذا سماء خضراء ينبثق منها الياسمين ويتضوع في أرجائها عرف طيب ساحر. هذا السطح بسكانه من الدجاج والحمام، وبستانه المعروش، هو دنياها الجميلة المحبوبة، وملهاها الأثير في هذا العالم الكبير الذي لا تعرف عنه شيئا، وكشأنها في مثل هذه الساعة مضت تتعهده برعايتها فكنسته، وسقت زرعه، وأطعمت الدجاج والحمام، ثم تملت طويلا المنظر المحيط بها بثغر باسم وعينين حالمتين، ثم ذهبت إلى نهاية البستان ووقفت وراء السيقان الملتفة المتشابكة تمد بصرها من ثغراتها إلى ما يليها من فضاء لا تحده حدود.
كم تروعها المآذن التي تنطلق انطلاقا ذا إيحاء عميق، تارة عن قرب حتى لترى مصابيحها وهلالها في وضوح كمآذن قلاوون وبرقوق، وتارة عن بعد غير بعيد فتبدو لها جملة بلا تفصيل كمآذن الحسين والغوري والأزهر، وثالثة من أفق سحيق فتتراءى أطيافا كمآذن القلعة والرفاعي، وتقلب وجهها فيها بولاء وافتتان، وحب وإيمان، وشكر ورجاء، وتحلق روحها فوق ذراها أقرب ما تكون إلى السماء، ثم تستقر منها العينان على مئذنة الحسين، أحبها - لحب صاحبها - إلى نفسها، فتنفض نظرتها حنانا وأشواقا، مشوبة بحزن يطوف بها كلما ذكرت حرمانها من زيارة ابن بنت رسول الله وهي على مسير دقائق من مثواه. وتنهدت نهدة مسموعة، استردتها من استغراقها فتابت إلى نفسها، وراحت تتسلى بالنظر إلى الأسطح والطرقات فلم تزايلها الأشواق، ثم استدبرت السور وقد فاض بها التطلع إلى المجهول، المجهول بالقياس إلى الناس جميعا وهو عالم الغيب، والمجهول بالقياس إليها وحدها وهو القاهرة. بل الأحياء المتاخمة التي تترامى إليها أصواتها. ترى ما هذه الدنيا التي لم تر منها إلا المآذن والأسطح القريبة؟! ربع قرن من الزمان خلا وهي حبيسة هذا البيت لا تفارقه إلا مرات متباعدة لزيارة أمها بالخرنفش، وعند كل زيارة يصطحبها السيد في حنطور؛ لأنه كان لا يحتمل أن تقع عين على حرمه سواء وحدها أو بصحبته، لم تكن ساخطة ولا متذمرة، إنها أبعد ما تكون عن هذا. بيد أنها ما تكاد تنفذ ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء والمآذن والأسطح، حتى تعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامة حنان وأحلام. ترى أين تقع مدرسة الحقوق حيث يجلس فهمي في هذه اللحظة؟ وأين مدرسة خليل أغا التي يؤكد كمال أنها على مسير دقيقة من الحسين؟ ... وقبل أن تغادر السطح بسطت كفيها ودعت ربها قائلة: «اللهم أسألك الرعاية لسيدي وأبنائي، وأمي وياسين، والناس جميعا مسلمين ونصارى، حتى الإنجليز يا ربي وأن تخرجهم من ديارنا إكراما لفهمي الذي لا يحبهم.»
Halaman tidak diketahui