فقالت أمينة متنهدة: زرت سيدنا الحسين في أثناء سفره إلى بورسعيد.
فتفكرت الأم في حزن وكآبة ثم تساءلت: وكيف علم بأمر الزيارة؟
حرصت أمينة من بادئ الأمر على ألا تشير إلى حادث السيارة رحمة بالعجوز من ناحية، وتخففا من المسئولية من ناحية أخرى؛ ولهذا أجابتها بما أعدته سلفا لهذا السؤال قائلة: لعل أحدا رآني فوشى بي عنده.
فقالت العجوز بحدة: لا يعرفك أحد من البشر إلا من اختلط بك داخل بيتك، ألم تشكي في أحد؟ ... هذه المرأة أم حنفي؟! أو ابنه من المرأة الأخرى؟
فبادرتها أمينة قائلة بثقة ويقين: لعل جارة رأتني فأخبرت زوجها بحسن نية، فأعاد الرجل الخبر على مسمع السيد غير مقدر لخطورة عواقبه، ظني ما تشائين إلا الشك في أحد من أهل بيتي.
فهزت العجوز رأسها في حيرة وشك وأنشأت تقول: طول عمرك سليمة الطوية، الله وحده هو المطلع وهو الكفيل برد كيد الكائد، ولكن زوجك؟ ... الرجل العاقل ... الداخل على الخمسين ... ألم يجد وسيلة لإعلان غضبه إلا طرد عشيرة العمر من بين أولاده؟! ... سبحانك يا رب ... الناس تكبر تعقل ونحن نكبر نتهور، هل من الكفر أن تزور امرأة فاضلة سيدنا الحسين! ألا يسمح أصدقاؤه، وهم لا يقلون عنه غيرة ورجولة، لزوجاتهم بالخروج لمختلف الأغراض؟! ... أبوك نفسه الذي كان شيخا من حملة كتاب الله كان يأذن لي في الذهاب إلى بيوت الجيران للتفرج على المحمل.
وغلب الصمت والكآبة مليا، حتى التفتت العجوز ناحية ابنتها وعلى شفتيها ابتسامة عتاب حائرة، ثم تساءلت: أي شيء أغراك بعصيانه بعد ذاك العمر الطويل من الطاعة العمياء؟! ... لشد ما يحيرني هذا ... إذ مهما يكن من حمية طبعه، فهو زوجك ومن السلامة الحرص على طاعته من أجل راحتك وسعادة الأولاد، أليس كذلك يا ابنتي؟ ... أعجب شيء أنني لم أجدك يوما في حاجة إلى نصح ناصح!
فندت عن أمينة ابتسامة ارتسمت على زاوية ثغرها على صورة انحراف خفيف من الارتباك والحياء، وغمغمت: تحكم الشيطان! - عليه لعنة الله، أيزل اللعين قدميك بعد خمسة وعشرين عاما من الوئام والسلام! ... ولكنه هو الذي أخرج أبانا آدم وأمنا حواء من الجنة! .. لشد ما يحزنني يا ابنتي، ولكنها سحابة صيف ثم تنقشع ويعود كل شيء إلى أصله ... (ثم وهي كأنها تحادث نفسها) ماذا كان عليه لو استوصى بالحلم؟! ... ولكنه رجل، ولن يخلو رجل من عيوب تخفي عين الشمس ... (ثم بلهجة ترحيب وسرور متكلفة) اخلعي ملابسك واستريحي، لا تجزعي، ماذا يضيرك من قضاء عطلة قصيرة مع أمك في الحجرة التي ولدت فيها؟!
فجرى بصرها في غير اكتراث على الفراش القديم الذي حال لون عمده، والسجادة البالية التي انجرد وبرها ونسلت أطرافها، وإن بقيت رسوم ورودها حافظة لحمرتها وخضرتها، ولكن صدرها - لما ران عليه من فرقة الأحباب - لم يكن مهيأ لتلقي موجات الذكريات، فلم تهج دعوة أمها في قلبها الحنان الذي تهيجه عادة ذكريات متباعدة لهذه الحجرة، وهي قريرة العين، ولم يسعها إلا أن تتنهد قائلة: ما بي إلا قلق على الأولاد يا أمي. - إنهم في رعاية الله، ولن يطول بعدك عنهم بإذن الرحمن الرحيم.
وقامت أمينة لتخلع ملاءتها على حين انسحبت صديقة - حزينة أسيفة لما سمعت - من موقفها عند مدخل الحجرة الذي لزمته أثناء الحديث، ثم عادت المرأة إلى مجلسها جنب أمها ، وما لبثتا أن قلبتا الحديث ظهرا لبطن وهما تبدآن وتعيدان، وكأن في تقابلهما جنبا لجنب ما يدعو إلى تأمل قوانين الوراثة العجيبة وقانون الزمن الصارم، كأنهما شخص واحد وصورته المنعكسة في مرآة المستقبل، أو نفس الشخص وصورته المنعكسة في مرآة الماضي وبين الأصل والصورة على الحالين ما يشير إلى الصراع الرهيب الناشب بين قوانين الوراثة التي تعمل على التشابه والبقاء من ناحية وبين قانون الزمن الذي يدفع إلى التغير والنهاية من ناحية أخرى، ذاك الصراع الذي ينجلي عادة عن سلسلة من الهزائم تلحق تباعا بقوانين الوراثة حتى يغدو قصاراها أن تؤدي وظيفة متواضعة في نطاق قانون الزمن الصارم. في نطاق ذاك القانون استحالت الأم العجوز جسما نحيلا، ووجها ذابلا وعينين لا تبصران إلى تطورات باطنية لا تنالها الحواس، حتى لم يبق لها من بهجة الحياة إلا ما يدعونه بجمال الشيخوخة أي السمت الهادئ والوقار المكتسب الحزين والرأس المرصع بالبياض، بيد أنها كنت تنحدر من جيل معمر عرف بصلابة المقاومة، فلم يكن طعنها فيما بعد الخامسة والسبعين بمقعدها عن أن تنهض في الصباح كعادتها منذ نصف قرن فتتحسس سبيلها - بدون إرشاد الجارية - إلى الحمام فتتوضأ، ثم تعود إلى حجرتها فتصلي، أما بقية النهار فتقطعها في التسبيح والتأمل الصامت الذي لا يدري به أحد طالما كانت الجارية مشغولة بأعمال البيت، أو مستأنسة إلى حديث المرأة إذا فرغت لمجالستها، حتى الصفات التي تلازم عادة وفرة النشاط للعمل وحدة الحماس للحياة لم تزايلها بحال، مثال هذا شدة محاسبتها للجارية على كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالمصروفات، وتنظيف البيت وترتيبه وتلكؤها إذا تلكأت في مهمة، وتأخرها إذا تأخرت في مشوار، ولم يكن بالنادر أن تحلفها على المصحف لتطمئن إلى صحة تقاريرها عن غسل الحمام والأواني وتنفيض النوافذ، دقة بالوسوسة أشبه، ومن الجائز أن تكون مثابرتها عليها استمرارا لعادة تأصلت في صدر الشباب، كما أنه من الجائز أن تكون نكسة مما يعتري الشيخوخة، ويلحق بطباعها المتطرفة استمساكها بالبقاء في بيتها في شبه وحدة كاملة بعد وفاة بعلها، ثم إصرارها على البقاء فيه حتى بعد فقدانها لبصرها، متصامتة عن دعوات السيد المتكررة لها بالانتقال إلى بيته لتعيش في رعاية ابنتها وأحفادها، مما عرضها لتهمة الخرف وجعل السيد يعرض عن دعوتها نهائيا، ولكن الحق أنها كرهت هجر بيتها لتعلقها الشديد به، ولتحاميها ما عسى أن تلقى في البيت الجديد من إهمال غير مقصود أو ما يستوجبه وجودها من إلقاء أعباء جديدة على عاتق ابنتها المثقل بالواجبات، ولنفورها من الزج بنفسها في بيت اشتهر صاحبه بين آله بالشراسة والغضب أن تنزلق وهي لا تدري إلى ملاحظاته الأمر الذي تشفق من عواقبه على سعادة ابنتها، وأخيرا لما تنطوي عليه في قرارة نفسها من حياء وكبرياء حببا إليها الحياة في البيت الذي تملك معتمدة - بعد الله - على المعاش الذي تركه لها زوجها الراحل، على أن ثمة أسبابا أخرى لإصرارها على البقاء في بيتها لا يمكن تبريرها برهافة الحساسية أو سداد البصيرة، كخوفها - إذا أخلت البيت - من أن تجد نفسها مضطرة إلى اختيار أمر من اثنين؛ فإما أن تسمح للغرباء بأن يسكنوه، وهو أعز شيء لديها بعد ابنتها وأحفادها، وإما أن تتركه مهجورا فتتخذه العفاريت ملعبا بعد أن ظل طوال عمره مقاما لشيخ من حملة كتاب الله هو زوجها، إلا أن انتقالها إلى بيت السيد كان خليقا بأن يخلق لها مشاكل معقدة لا تفض في نظرها بميسور الحلول؛ لأنها ما انفكت تسائل نفسها وقتذاك أتقبل ضيافته بدون مقابل، وهو ما لا ترتاح إليه بحال، أم تنزل له عن معاشها لقاء إقامتها في بيته وهو ما يقلق غريزتها في الامتلاك التي أضحت - مع الكبر - عنصرا جوهريا من عناصر «وسوستها» العامة؟!
Halaman tidak diketahui