فدقت خديجة صدرها بيدها وهتفت: يا نهارنا الأسود.
على حين بهتت عائشة فحملقت في وجه أمها دون أن تنبس بكلمة، ولكن الأم ابتسمت فيما يشبه الزهو المقرون بالحياء، وتورد وجهها الشاحب وهي تستعيد ذكرى العطف الذي شملها به حين لم تكن تتوقع منه إلا غضبا كاسحا يعصف بها وبمستقبلها ... أجل شعرت بزهو وحياء وهي تتهيأ للحديث عن عطف السيد عليها في محنتها، وكيف نسي غضبه فيما اعتراه من تأثر وإشفاق، ثم غمغمت بصوت لا يكاد يسمع: كان بي رحيما أطال الله عمره، أنصت إلى قصتي صامتا، ثم سألني عن رأي الطبيب في خطورة الكسر، وغادرني وهو يشير علي أن ألزم الفراش حتى يأخذ الله بيدي.
وتبادلت الفتاتان النظرات في دهشة وعدم تصديق، ولكن زايلهما الخوف سريعا فتنهدتا في ارتياح عميق وأضاء وجهاهما بالبشر، وهتفت خديجة: أرأيت بركة الحسين؟
وقالت عائشة بخيلاء: لكل شيء حدود حتى غضب بابا، ما كان يسعه أن يغضب وهو يراها على هذه الحال، الآن عرفنا قيمتها عنده ... (ثم مخاطبة أمها في دعابة) يا لك من أم محظوظة، هنيئا لك التكريم والعطف!
فعاود وجه الأم التورد وقالت بتلعثم وحياء: أطال الله عمره ... (ثم متنهدة) والحمد لله على النجاة!
وتذكرت أمرا فالتفتت إلى خديجة وقالت باهتمام: يجب أن تلحقي به؛ لأنه سيحتاج إلى خدمتك حتما.
وشعرت الفتاة - لما يركبها في محضر أبيها من الارتباك والاضطراب - كأنها وقعت في شرك فقالت محتدة: ولماذا لا تذهب عائشة؟!
ولكن الأم قالت في عتاب: أنت أقدر على خدمته، لا تتلكئي يا شابة؛ إذ ربما يكون في حاجة إليك الآن.
وكانت تعلم أن احتجاجها لن يغني عنها شيئا، كما لا يغني عنها عادة كلما دعيت إلى أداء واجب ترى الأم أنها أقدر عليه من أختها، ولكنها أصرت على إعلانه كما تصر عادة على إعلانه في أمثاله من المواقف، مدفوعة بأعصابها السريعة الالتهاب، وجريا مع نزعتها العدوانية التي تجد من لسانها أطوع أداة وأحدها، ثم لتحمل أمها على إعادة القول بأنها «أقدر على كيت وكيت من عائشة» كإقرار من أمها وإنذار لشقيقتها وعزاء لها هي نفسها، والحق أنه لو حدث أن عهدت بواجب من هذه الواجبات «الخطيرة» لعائشة دونها لثارت ثورة أشد ولحالت بينها وبينه، ما دامت تجد - في أعماق قلبها - أن القيام بهذه الواجبات حق من حقوقها وامتياز لها كامرأة جديرة بالمكانة التالية لأمها في البيت، ولكنها أبت في الوقت نفسه أن تعترف جهارا بأنها تمارس - بالقيام بها - حقا من حقوقها، ولكن واجبا ثقيلا تقبله مضطرة، حتى تدعى إليه - إذا دعيت - في حرج من الداعي، ولتحتج عليه - إذا احتجت - في غضب يروح عن نفسها، ولتسمع بالمناسبة التعليق الذي تود، ثم ليحسب لها بعد ذلك كله جميلا تستحق من أجله الشكر! ... ولذلك غادرت الحجرة، وهي تقول: في كل مأزق تنادين خديجة، كأنه لا يوجد أمامك غير خديجة، ماذا تصنعين لو لم أكن موجودة!
ولكن خيلاءها تخلى عنها بمجرد مغادرتها للحجرة، وحلت محله رهبة واضطراب، فعجبت كيف يتأتى لها أن تمثل بين يدي الرجل، وكيف تقوم على خدمته، وماذا تلقى منه إذا تلجلجت أو أبطأت أو أخطأت؟! على أن السيد كان قد خلع ملابسه وارتدى جلبابه بنفسه، ولما وقفت بالباب تسأله عما هو في حاجة إليه أمرها بأن تصنع له فنجان قهوة، فبادرت تعدها ثم قدمتها له خافضة العينين خفيفة الخطى من الخوف والحياء ... ورجعت إلى الصالة فمكثت بها لتكون رهن إشارته إذا دعاها، فلم يفارقها إحساس الرهبة حتى تساءلت كيف يا ترى يمكنها أن تواصل خدمته طوال الساعات التي يقضيها في البيت يوما بعد يوم حتى تنقضي الأسابيع الثلاثة؟! ... وبدا لها الأمر شاقا حقا وأدركت لأول مرة خطورة الفراغ الذي تسده أمها في البيت فدعت لها بالشفاء؛ حبا فيها من ناحية ورحمة بنفسها من ناحية أخرى.
Halaman tidak diketahui