ومع أن قولها السابق لم يستثر غيظها؛ لأنه كان بين الدعابة إلا أن كلامها الأخير استثاره؛ لأنه كان واضح الحق، ولأنها تنفس عليها جمال صوتها فيما تنفس عليها من مزايا، فقالت في تهجم: اسمعي يا ست هانم ... هذا بيت رجل شريف لا يعيب بناته أن تكون أصواتهن كصوت الحمير، ولكن يعيبهن أن يكن كالصورة لا فائدة منهن ولا نفع. - لو كان صوتك جميلا كصوتي ما قلت هذا! - طبعا! ... كنت تغنين وأرد عليك، تقولين يا بو الشريط الأحمر يا للي ... فأقول لك أسرتني ارحم ذلي، ونترك للست (مشيرة إلى أمها) الكنس والمسح والطبخ.
وكانت الأم - التي ألفت هذا النقار - قد اتخذت مجلسها، فقالت برجاء: أمسكا بالله، واجلسا لنأكل فطورنا بسلام.
وأقبلتا على السماط وجلستا وخديجة تقول: أنت يا نينة لا تصلحين لتربية أحد.
فتمتمت الأم في هدوء: سامحك الله، سأترك لك أمر التربية على ألا تنسي نفسك ... (ثم مدت يدها إلى الطبق) بسم الله الرحمن الرحيم.
كانت خديجة في العشرين من عمرها، فهي كبرى إخوتها فيما عدا ياسين - أخاها من الأب - الذي ناهز عامه الواحد والعشرين، وكانت قوية ممتلئة - والفضل لأم حنفي - مع ميل إلى القصر، أما وجهها فقد قبس من قسمات الوالدين على نهج لم يراع فيه الانسجام، ورثت عن أمها عينيها الصغيرتين الجميلتين، وعن أبيها أنفه العظيم، أو صورة مصغرة منه، ولكن ليس إلى القدر الذي يغتفر له، ومهما يكن من شأن هذا الأنف في وجه الأب الذي يناسبه ويكسبه جلالا ملحوظا، فقد لعب في وجه الفتاة دورا مختلفا.
أما عائشة فكانت في السادسة عشرة من ربيعها، صورة من بديع الحسن، رشيقة القد والقوام - وإن عد هذا في محيط أسرتها من العيوب المتروك علاجها لأم حنفي - ووجه بدري تزينه بشرة بيضاء مشربة بحمرة، وعينان زرقاوان أحسنت اختيارهما من الأب مع أنف الأم الصغير، إلى شعر ذهبي دللها به قانون الوراثة فخصها به وحدها من ميراث جدتها لأبيها. وطبيعي أن تدرك خديجة ما يقوم بينها وبين شقيقتها من فوارق، ولم تكن براعتها الفائقة في التدبير المنزلي والتطريز ولا نشاطها الدائب الذي لا يكل ولا يمل بمغنيين عنها شيئا، فوجدت على الغالب نحوها غيرة لم تراع إخفاءها مما حمل الفتاة الحسناء على البرم بها في كثير من الأحايين. ولكن من سوء الحظ أن هذه الغيرة الطبيعية لم تترك رواسب سوداء في النفس، وكفاها أن تروح عن حدتها بسخرية اللسان وسلاطته. وأكثر من هذا أن كانت الفتاة رغم مشكلتها الطبيعية أما بالفطرة عامرة القلب بالحنو نحو الأسرة التي لا تعفي أفرادها من مرارة تهكمها، فلم تكن غيرتها إلا نوبات تطول أو تقصر، ولكنها لم تنحرف بسجيتها إلى الحقد أو البغضاء، بيد أن دأبها على السخرية - الذي اقتصر في الأسرة على الدعابة - خلق منها فيما وراء ذلك من الجيران والمعارف عيابة من الدرجة الأولى، لا تقع عيناها من الناس إلا على مناقصهم كعقرب البوصلة المنجذب إلى القطب أبدا، وإذا توارت المناقص تمحلت في الكشف عنها وتكبيرها، ثم راحت تطلق على ضحاياها أوصافا تناسب عيوبهم كادت تغلب عليهم في محيط أسرتها، فهذه حرم المرحوم شوكت أقدم صديقة لوالديها تدعوها «المدفع الرشاش» لتناثر ريقها أثناء الحديث، وهذه الست أم مريم جارتهم بالبيت الملاصق لبيتهم تسميها «لله يا أسيادي» لاستعارتها بعض الأدوات المنزلية من بيتهم بين حين وآخر، كما تدعو شيخ كتاب بين القصرين «شر ما خلق» لترديده هذه الآية ضمن سورتها كثيرا بحكم وظيفته مع قبح وجهه، وبائع الفول «الأقرع» لصلعه، واللبان «الأعور» لضعف بصره، إلى تسميات مخففة بعض الشيء خصت بها أسرتها، فأمها «لمؤذن» لتبكيرها في الاستيقاظ، وفهمي «عمود السرير» لنحافته، وعائشة «البوصة» للسبب نفسه، وياسين «بمبة كشر» لسمنته وأناقته. ولم تكن سلاطة لسانها من وحي السخرية فحسب، فالحق أنها لم تخل من قسوة على من عدا أهلها من الخلق، وهكذا اتسم نقدها للناس بالعنف، وتجافى عن التسامح والعفو، كما غلب عليها عدم الاكتراث للأحزان التي تلم بالناس يوما بعد يوم، وتبدت هذه الغلظة في البيت في معاملة أم حنفي معاملة لا تلقاها من أحد سواها، بل في معاملة الحيوان الأليف كالقطط التي تحظى من عائشة بإعزاز يفوق الوصف. وكانت معاملتها لأم حنفي مثار خلاف بينها وبين أمها؛ فالأم تعامل الخدم كما تعامل أهل بيتها سواء بسواء، وكان ظنها بالناس أنهم ملائكة فلم تدر كيف تسيء الظن بأحد، على حين دأبت خديجة على سوء الظن بالمرأة تمشيا مع طبيعتها التي تسيء الظن بالناس جميعا، ولم تخف تخوفها من بياتها غير بعيد من غرفة الخزين فقالت لأمها: «من أين تجيئها هذه السمنة المفرطة؟! ... من الوصفات التي تصنعها؟! كلنا نتعاطى وصفاتها فلا نسمن سمنتها، ولكنه السمن والعسل اللذان تطفح منهما بغير حساب، ونحن نيام.»
لكن الأم دافعت عن أم حنفي ما وسعها الدفاع، ولما ضاقت بإلحاح ابنتها قالت: «فلتأكل ما تشاء، الخير كثير، وبطنها له حد لا يتعداه فلن نجوع على أي حال.» ولم يعجبها قولها وراحت تفحص صفائح السمن وبلاليص العسل كل صباح وأم حنفي ترى هذا باسمة؛ لأنها كانت تحب الأسرة كلها إكراما لستها الطيبة. وعلى النقيض من هذا كان حنان الفتاة حيال أهلها جميعا، فلم يكن يهدأ لها بال إذا أصابت أحدهم وعكة، ولما مرض كمال بالحصبة أبت إلا أن تشاركه فراشه، حتى عائشة نفسها لم تكن تطيق أن يلم بها أهون سوء، فلم يكن مثل قلبها لا في بروده ولا في رحمته.
وباتخاذها مجلسها من السماط تناست ما نشب بينها وبين عائشة من نقار، وأقبلت على الفول والبيض بشهية كانت مضرب الأمثال في الأسرة. وكان للطعام بينهن - إلى فائدته الغذائية - غاية جمالية عليا بصفته الدعامة الطبيعية للسمنة، فكن يتناولنه في تؤدة واهتمام، ويبالغن في سحقه وطحنه، فإذا شبعن لم يمسكن ولكن يستزدن منه حتى يمتلئن، على تفاوت لطاقاتهن، فكانت الأم أسرعهن إلى الانتهاء، تليها عائشة، ثم تنفرد خديجة ببقايا المائدة، فلا تتخلى عنها إلا وهي أطباق مغسولة. ولم تكن نحافة عائشة لتتناسب مع اجتهادها في الأكل فضلا عن عصيانها لسحر البلابيع، مما دعا خديجة للسخرية منها والقول بأن المكر السيئ هو الذي يجعلها تربة غير صالحة للبذور الطيبة التي تلقى فيها، كما كان يطيب لها أن تعلل نحافتها بضعف دينها، فتقول لها: «كلنا نصوم رمضان إلا أنت، تتظاهرين بالصوم، وتندسين في حجرة الخزين كالفأرة وتملئين بطنك بالجوز واللوز والبندق، ثم تفطرين معنا بنهم يحسدك عليه الصائمون، ولكن الله لا يبارك لك.» وكانت ساعة الفطور من الأوقات النادرة التي يختلين فيها إلى أنفسهن، فكانت أخلق الأوقات بالمكاشفة ونفض السرائر خاصة في الأمور التي يدعو إلى كتمانها عادة الحياء البالغ الذي تتسم به مجالس الأسرة الحاوية للجنسين. وكان لدى خديجة ما تقوله رغم انهماكها في الأكل، فقالت بصوت هادئ يختلف كل اختلاف عن الصوت الذي كانت تزعق به منذ حين قصير: نينة ... حلمت حلما غريبا.
فقالت الأم قبل أن تزدرد لقمتها مبالغة في إكرام ابنتها المخيفة: خير يا بنتي إن شاء الله.
فقالت خديجة باهتمام مضاعف: رأيت كأني أمشي على سور سطح، ربما كان سطح بيتنا أو غيره، وإذا بشخص مجهول يدفعني فأهوي صارخة.
Halaman tidak diketahui