ولعل خديجة كانت أشد الجميع شعورا بالحرج لوقوفها للمرة الثانية عثرة في سبيل أختها، لم تكن تفكر في الحرج وهي تحت المطرقة، ولكن حين نما إليها رأي أبيها الحاسم، وتقهقر الخطر الذي يتهددها، زايلها الحنق والألم وحل محلهما شعور أليم بالخجل والحرج، ومع أن حديث فهمي لم يترك في نفسها أثرا حسنا؛ لأنها طمعت في أعماقها أن تجد من الجميع حماسا لرأي أبيها وأن تبقى هي الوحيدة المعارضة له، إلا أنها قالت معلقة عليه: صدق فهمي فيما قال، وكان هذا رأيي دائما.
فعاد ياسين يؤكد رأيه السابق قائلا: الزواج مصير كل حي ... لا تخافوا ... ولا تجزعوا.
قنع هذه المرة بالكلام العام على ولعه بعائشة وشدة استيائه لما حاق بها من ظلم، ولكنه خاف أن يعلن رأيه صراحة أن تسيء خديجة فهمه أو تظن أن ثمة علاقة بين هذا الرأي وبين ما ينشب بينهما كثيرا من نقار بريء، وإلى هذا وذاك كان إحساسه الباطني بأنه نصف أخ فقط يقعده عند مواجهة الخطير من شئون الأسرة الحساسة عن إبداء الرأي الخليق بجرح أحد من أفرادها ... ولم تكن عائشة قد نبست بكلمة فقسرت نفسها على الكلام قسرا أن يشي صمتها بآلامها التي صممت على إخفائها، والتظاهر بعدم الاكتراث لها مهما سامها ذلك من عذاب وتوتر، بل أجمعت على إعلان الارتياح مجاراة لجو البيت الذي لا يعترف للعواطف بحق من حقوقها ... والذي تدارى فيه أهواء القلوب بأقنعة الزهد والرياء، فقالت: لا يصح أن أتزوج قبل خديجة، والخير كل الخير فيما يرى أبي (ثم مبتسمة) ... لماذا تتعجلون الزواج؟ ... ومن أدراكم بأننا سنحظى في بيوت الأزواج بحياة سعيدة كالتي نحظى بها في بيت أبينا؟!
ولما تواصل الحديث كشأنه كل مساء حول المدفأة لم تمسك عن الاشتراك فيه بما وسعها قوله بالرغم من شرود ذهنها وتشتت نفسها، وكم في الواقع شابهت الدجاجة المذبوحة التي تندفع مبسوطة الجناحين - كأنما تنتفض حيوية ونشاطا - على حين يتدفق الدم من عنقها مستصفيا آخر قطرات الحياة.
على أنها توقعت هذه النتيجة قبل عرض الأمر على أبيها، أن لا ثمة غامض داعب أحلامها كما يداعبنا الأمل في كسب النمرة الأولى في اليانصيب الكبير ... وقد تطوعت أول الأمر للمعارضة في زواجها مدفوعة بأريحية الظفر والسعادة، وبالعطف على شقيقتها السيئة الحظ، الآن خمدت الأريحية ونضب العطف، فلم يبق إلا الامتعاض والسخط واليأس، ليس لها من الأمر شيء. هذه إرادة الأب ولا معقب لها، وما عليها إلا الإذعان والاستسلام، بل عليها أكثر من هذا الرضا والارتياح؛ لأن محض الوجوم ذنب لا يغتفر، أما الاحتجاج فإثم لا يطيقه أدبها وحياؤها. أفاقت من سكرة السعادة الغامرة التي انتشت بها يوما وليلة على يأس مظلم، ما أكثف الظلمة تجيء عقب النور الباهر، في تلك الحال لا يقتصر الألم على الظلمة الراهنة، ولكنه يضاعف مرات ومرات بالحسرة على النور الذاهب، وتسائل نفسها إذا كان ثمة نور أمكن أن يضيء مليا فلماذا لم يواصل الضياء، لماذا لا يخبو، لماذا خبا، فتكون حسرة جديدة تنضم إلى بقية الحسرات التي ينسجها الحزن حول قلبها منتزعا إياها من ذكريات الماضي وواقع الحال وأحلام المستقبل، وعلى إغراقها في التفكير في هذا كله وحضوره - تبعا لذلك - في شعورها، فإنها تعود تتساءل وكأنها تتساءل لأول مرة، وكأن الحقيقة المرة ترتطم بشعورها للمرة الأولى: هل حقا خبا النور؟!
هل تمزقت الأسباب بينها وبين الشاب الذي ملأ قلبها وخيالها؟!
سؤال جديد رغم تكراره، وصدمة جديدة رغم نفاذها إلى العظام، ذلك أن الحسرة الكاوية لا تنفك يتنازعها اليأس المستقر في الأعماق والآمال المتطايرة في الهواء كلما تطاير منها شعاع الأمل المتطاير، ثم تعود فتستقر في الأعماق، ثم تطفو مرة أخرى، وثالثة، حتى تأوي إلى مستقرها - وقد ودعت النفس آخر آمالها - فلا تغادره إلى الأبد، انتهى كأنه لم يكن، لا سبيل إليه أبدا، ما أهون الأمر عليهم، عالجوه كما يعالجون أمور يومهم العادية مثل ماذا نأكل غدا، أو حلمت ليلة أمس حلما غريبا، أو رائحة الياسمين تملأ جو السطح، كلمة من هنا ... كلمة من هناك ... واقتراح يعلن ورأي يبسط في هدوء وحلم غريبين، ثم تعزية باسمة، وتشجيع كأنه الدعابة، ثم تغير الحديث وتشعب، انتهى كل شيء، وأدرج في التاريخ الذي تنزل عليه الأسرة النسيان. أين قلبها من هذا كله؟! ... لا قلب لها، لا يتصور وجوده أحد، لا وجود له في الواقع، ما أشد غربتها! ضائعة مفقودة، ليسوا منها وليست منهم، وحيدة منبوذة مقطوعة الصلات، ولكن كيف تنسى أن كلمة واحدة لو جاد بها لسان أبيها، كانت تكفي لتغيير وجه الدنيا وخلقها خلقا جديدا؟! ... كلمة واحدة لا أكثر، لا تزيد عن لفظة «نعم» ثم تحدث المعجزة، لم تكن لتكلفه إلا عشر ما تكلف من جهد في المناقشة الطويلة التي انتهت إلى الرفض، ولكن لم تجر بذاك مشيئته، وارتضى لها هذا العذاب كله. ومع أنها كانت متألمة حانقة ساخطة إلا أن ألمها وحنقها وسخطها وقفت عند شخص أبيها وارتدت عنه خائبة ارتداد الوحش الهائج إذا اعترضه مروضه الذي يحبه ويخافه، لم يسعها أن تحمل عليه، ولو في أعماق سريرتها، وظل قلبها على ولائه وحبه فلم تضمر له إلا الإخلاص والوفاء كأنه إله لا يجوز أن تقابل قضاءه إلا بالتسليم والحب والوفاء.
شدت الصغيرة ذاك المساء حبل اليأس حول عنقها الرقيق، فآمن قلبها المتفتح بأنه نضب وأجدب إلى الأبد، وضاعف من توتر أعصابها الدور الذي صممت على أن تمثله بينهم، دور البشر واللامبالاة وما سامته نفسها من المشاركة في سمرهم، حتى ناءت هامتها الذهبية بحمله، وانقلبت الأصوات في أذنيها وقرا، فما جاء وقت الانسحاب إلى حجرة النوم، حتى مضت في إعياء كالمرضى، وهناك في أمن من ظلمة الحجرة تجهم وجهها لأول مرة، وعكس صورة صادقة من قلبها.
بيد أنه لحق بها رقيب - خديجة - أيقنت من بادئ الأمر أن تصنعها لن يجدي معها شيئا، وقد تحامت في المجلس نظراتها، أما الآن - إذ جلست إليها - فلا مهرب منها ولا مفر. وتوقعت أن تهجم الفتاة على الموضوع بعنادها المعروف، وانتظرت تسلل صوتها إلى أذنيها بين لحظة وأخرى، ورحب قلبها بالحديث، لا لأنه سيبعث رجاء جديدا، ولكن لأنها أملت وراء الاعتذار والحرج اللذين ستعلنهما الفتاة صادقة حتما شيئا من العزاء. ولم يطل الانتظار فما لبث أن جاءها الصوت يشق الظلمة قائلا: عائشة، إن حزينة آسفة، ولكن علم الله لا حيلة لي، وكم وددت لو تواتيني الشجاعة فأرجو أبي أن يعدل عن رأيه.
وتساءلت عما وراء هذا الكلام من صدق أو رياء منفعلة بثورة حنق، ثارت بها لدى سماع النبرات الأسيفة مباشرة، ولكنها اضطرت إلى العودة إلى استعارة النبرات التي ظلت تتحدث بها في مجلس أمها، فقالت: فيم الحزن والأسف، ما أخطأ أبي وما ظلم ولا داعي للعجلة! - هذه ثاني مرة يؤجل زواجك بسببي. - لست آسفة مطلقا.
Halaman tidak diketahui