فتطلعت إليه الأعين باهتمام لم يشذ عنه أحد؛ لأن ما عرف به الشاب من اتزان، جعل الجميع ينتظرون خبرا هاما حقا كما قال، أما فهمي فاستطرد قائلا: الخبر هو أن حسن أفندي إبراهيم ضابط قسم الجمالية - وهو من معارفي كما تعلمون - قابلني ورجاني أن أبلغ والدي رغبته في خطبة عائشة!
وأحدث الخبر - كما قدر فهمي من قبل ما دعاه إلى التردد وطول التفكير - آثارا جد متباينة، فتطلعت الأم إليه باهتمام شديد، على حين صفر ياسين وهو يرمق عائشة بنظرة مداعبة ويهز رأسه، وخفضت الفتاة الصغيرة رأسها حياء ولتخفي وجهها من الأعين أن تفضحها أساريرها، فتعلن للناظرين ما يضطرب في قلبها الخافق، أما خديجة فقد تلقت الخبر بدهشة بادئ الأمر لم تلبث أن انقلبت خوفا وتشاؤما لم تدر لهما سببا واضحا، ولكنها كانت كتلميذ يتوقع بين آونة وأخرى ظهور نتيجة الامتحان، إذا تناهى إليه نجاح زميل له بلغته النتيجة من مصدر خاص، وتساءلت الأم في ارتباك لا يتناسب ومناسبة الفرح الراهنة: أهذا كل ما قال؟
فقال فهمي وهو يتحاشى النظر ناحية خديجة: بدأني بقوله إنه يود أن يتشرف بطلب يد شقيقتي الصغرى. - وماذا قلت له؟ - شكرت له حسن ظنه بطبيعة الحال.
لم تطرح عليه السؤال تلو السؤال في رغبة استطلاع شيء تود معرفته، ولكن لتداري ارتباكها، وتنتزع من المفاجأة مهلة للتروي، ثم راحت تتساءل ترى هل لهذا الطلب علاقة بالزائرات اللاتي جئنها منذ أيام؟! وذكرت عند ذاك كيف قالت إحداهن - قبل ظهور خديجة - وهي بمعرض الحديث عن أسرة السيد أحمد إنهن سمعن أن للسيد كريمتين، فأدركت وقتها أنهن جئن لرؤية الفتاتين، ولكنها تصامت عن الإشارة، وقد انتسبت الزائرات إلى أسرة تاجر بالدرب الأحمر - غير والد الضابط الذي قال فهمي عنه مرة إنه موظف بوزارة الأشغال - ولكن هذا لا ينفي نفيا قاطعا العلاقة بين الأسرتين؛ لأنه المألوف أن تبعث الأسر بخاطبات من بعض فروعها دون الأصل على سبيل الحرص، وكم ودت أن تسأل فهمي عن هذه النقطة بالذات، وكأنها أشفقت من أن يجيء الجواب مصداقا لمخاوفها فيقضي على آمال ابنتها الكبرى، ويسيمها خيبة جديدة، بيد أن خديجة نابت عن أمها - اتفاقا - بطرح ما يعتلج في صدرها خارجا حين دارت هبوطها بضحكة فاترة وقالت متسائلة: لعله هو الذي بعث بالزائرات اللاتي زرننا منذ أيام.
ولكن فهمي بادر قائلا: كلا، فقد قال لي إنه سيرسل أمه إلينا في حالة الموافقة على طلبه.
ولكنه بخلاف لهجته الموحية بالصدق، لم يكن صادقا فيما قال، فقد فهم من حديث الضابط أن السيدات اللاتي زرن والدته قريباته، بيد أنه أشفق من إيلام شقيقته الكبرى التي كان - على حبه عائشة واقتناعه بجدارة صديقة الضابط - يعطف عليها عطفا أخويا، ويألم أشد الألم لسوء حظها، ولعله كان لما مني به هو من خيبة أثر قوي في البلوغ بهذا العطف ذروته. وضحك ياسين ضحكة غليظة وقال بجذل صبياني: يبدو أننا سنجمع قريبا بين فرحتين.
فهتفت الأم في فرح صادق: ربنا يسمع منك. - هل تخاطبين أبي نيابة عني؟
ند عنه السؤال وهو مشغول بمسألة الخطبة عما عداها، ولكنه - عقب النطق به - وقع من أذنيه موقعا غريبا، فكأنه ألقي عليه من حافظة ذكرياته لا من طرف لسانه، أو كأنه حين ألقي على سمعه لم يقف عند أذنيه، ولكنه غاص إلى أعماقه ثم طفا عالقا به ما علق من ذكرياته، وللحال ذكر سؤالا مماثلا لهذا السؤال توجه به إلى أمه في ظروف مشابهة فانقبض قلبه، وهاجت آلامه، وعاوده إحساسه بالظلم الذي وأد أمله، وجعل يقول لنفسه كما قال لها مرارا في الأيام الأخيرة؛ كم كان يكون سعيدا بيومه مستبشرا بغده راضيا عن الحياة كلها، لولا إرادة أبيه القاسية، وانتزعته الذكرى من الاهتمام بشئون غيره، فاستسلم للحزن الذي يقرض شغاف قلبه، أما الأم ففكرت مليا ثم تساءلت: ألا يحسن بنا أن نفكر فيما عسى أن أجيب أباك إذا سألني عما دعا الضابط إلى طلب عائشة بالذات، ولماذا لم يطلب يد خديجة، ما دام لم ير هذه ولا تلك؟
وانتبهت الفتاتان إلى ملاحظة أمهما معا، ولعلهما ذكرتا موقفهما وراء النافذة في وقت واحد، بيد أن خديجة تلقت الذكرى بامتعاض ضاعف من امتعاضها الراهن، واحتج قلبها على الحظ الأعمى الذي يأبى إلا أن يجزي النزق والاستهتار بالإحسان، أما عائشة فقد اعترضت تيار سرورها ملاحظة أمها، كما تعترض الحلق - وهو نشوان بازدراد أكلة لذيذة شهية - شوكة حادة مدسوسة في الطعام، وسرعان ما امتص الخوف حرارة الفرح التي كان ينتفض بها روحها. فهمي وحده الذي ثار على قول أمه، لا دفاعا كما بدا عن عائشة - فإنه ما كان يجيز الدفاع عن عائشة تحت سمع خديجة في هذه النقطة الحساسة بالذات - ولكن غضبا لحزنه الكظيم الذي لم يسعه الجهر بالدفاع عنه حيال أبيه، فقال محتدا يخاطب أباه في شخص أمه، وهو لا يدري: هذا تعسف ظالم لا مبرر له من عقل أو حكمة، ألا يعرف الرجال أشياء كثيرة عن نساء مخدرات عن طريق الفضليات من قريباتهم اللاتي لا يقصدن بحديثهن إلا الجمع بين رجل وامرأة في الحلال.
ولكن الأم لم تقصد باعتراضها إلا تواريا وراء أبيه، حتى تجد مخرجا من المأزق الذي وجدت فيه نفسها بين عائشة وخديجة. فلما صارحها فهمي باحتجاجه لم تجد بدا من مصارحته بما يدور: ألا ترى أنه من الأفضل أن ننتظر حتى يأتينا نبأ الزائرات؟!
Halaman tidak diketahui