ومع أن السيد أحمد كان في الدور الأعلى بمفرده إلا أن أمينة لم تدعه في حاجة إلى إنسان. وجد على الخوان طبق فنجان مملوءا حلبة ليغير ريقه عليها، وذهب إلى الحمام فتطاير إلى أنفه عرف البخور الطيب، وألفى على الكرسي ثيابا نظيفة مرتبة في عناية، فاستحم بالماء البارد كعادته كل صباح - عادة لا ينقطع عنها صيفا أو شتاء - ثم عاد إلى حجرته مستجدا حيوية ونشاطا. ثم جاء بسجادة الصلاة - وكانت مطوية على مسند الكنبة - فبسطها وأدى فريضة الصبح، صلى بوجه خاشع، وهو غير الوجه البسام المشرق الذي يلقى به أصحابه، وغير الوجه الحازم الصارم الذي يواجه به آل بيته، هذا وجه خافض الجناح تقطر التقوى والحب والرجاء من قسماته المتراخية التي ألانها التزلف والتودد والاستغفار. لم يكن يصلي صلاة آلية قوامها التلاوة والقيام والسجود، ولكن صلاة عاطفة وشعور وإحساس يؤديها بنفس الحماس الذي ينفضه على ألوان الحياة التي يتقلب فيها جميعا، كما يعمل فيتفانى في عمله، ويصادق فيفرط في مودته، ويعشق فيذوب في عشقه، ويسكر فيغرق في سكره، مخلصا صادقا في كل حال. هكذا كانت الفريضة حجة روحية يطوف فيها برحاب المولى، حتى إذا انفتل من صلاته تربع وبسط راحتيه، وراح يدعو الله أن يكلأه برعايته، ويغفر له ويبارك في ذريته وتجارته.
وفرغت الأم من تجهيز الفطور، فتركت للفتاتين إعداد الصينية، وطلعت إلى حجرة الإخوة، حيث وجدت كمالا ما زال يغط في نومه، فأقبلت عليه باسمة وحطت راحتها على جبينه وتلت الفاتحة، وجعلت تناديه وتهزه برفق، حتى فتح عينيه، ولم تدعه حتى فارق الفراش. ودخل فهمي الحجرة، فلما رآها ابتسم إليها وحياها تحية الصباح، فردت عليه قائلة ونظرة الحب تترقرق في عينيها: صباح النور يا نور العين.
وبنفس الرقة صبحت على ياسين «ابن» زوجها، فرد عليها بمودة خليقة بالمرأة التي تنزل من نفسه منزلة الأم الجديرة بهذا الاسم. ولما عادت خديجة من حجرة الفرن تلقاها فهمي وياسين - وياسين خاصة - بما يغمرانها به عادة من دعابة. وكانت مثار دعابة سواء بصورتها المتنافرة أو بلسانها الحاد، رغم ما لها من نفوذ على الأخوين بما تتعهد من شئونهما بمهارة فائقة يندر أن تجود بمثلها عائشة التي تلوح وسط الأسرة كالرمز الجميل رواء وجاذبية وعدم فائدة. وبادرها ياسين قائلا: كنا نتحدث عنك يا خديجة، وكنا نقول إنه لو كان النساء جميعا على شاكلتك لارتاح الرجال من متاعب القلوب.
فقالت على البداهة: ولو كان الرجال على شاكلتك لارتاحوا جميعا من متاعب الرءوس.
عند ذلك هتفت الأم قائلة: أعد الفطور يا سادة.
4
كانت حجرة الطعام بالدور الأعلى حيث توجد حجرة نوم الوالدين، وكان بنفس الدور غير هاتين الحجرتين أخرى للجلوس وأربع خالية إلا من بعض أدوات اللعب التي يلهو بها كمال في أوقات فراغه. وكان السماط قد أعد وصفت حوله الشلت، ثم جاء السيد فتصدره متربعا، ودخل الإخوة الثلاثة تباعا فجلس ياسين إلى يمين أبيه، وفهمي إلى يساره، وكمال قبالته. جلس الإخوة في أدب وخشوع، خافضي الرءوس كأنهم في صلاة جامعة، يستوي في هذا كاتب مدرسة النحاسين وطالب مدرسة الحقوق وتلميذ خليل أغا، فلم يكن أحد منهم ليجترئ على التحديق في وجه أبيه. وأكثر من هذا كانوا يتجنبون في محضره تبادل النظر أن يغلب أحدهم الابتسام لسبب أو لآخر، فيعرض نفسه لزجرة مخيفة لا قبل له بها. ولم يكن يجمعهم بأبيهم إلا مجلس الفطور؛ لأنهم يعودون إلى البيت عصرا بعد أن يكون السيد قد غادره إلى دكانه عقب تناول الغداء والقيلولة، ثم لا يعود إليه إلا بعد منتصف الليل، وكانت الجلسة على قصر مدتها شديدة الوطأة على نفوسهم بما يلتزمون فيها من أدب عسكري إلى ما يركبهم من رهبة تضاعف من حساسيتهم، وتجعلهم عرضة للهفوات بطول تفكيرهم في تحاميها، فضلا عن أن الفطور نفسه يتم في جو يفسد عليهم تذوقه واستلذاذه، ولم يكن غريبا أن يقطع السيد الفترة القصيرة التي تسبق مجيء الأم بصينية الطعام في تفحص أبنائه بعين ناقدة، حتى إذا عثر على خلل ولو تافها في هيئة أحدهم، أو بقعة في ثوبه انهال عليه نهرا وتأنيبا، وربما سأل كمال بغلطة: «غسلت يديك؟» فإذا أجابه بالإيجاب قال له آمرا: «أرنيهما» فيبسط الغلام كفيه، وهو يزدرد ريقه فرقا، وبدلا من أن يشجعه على نظافته يقول له مهددا: «إذا نسيت مرة أن تغسلهما قبل الأكل قطعتهما وأرحتك منهما.» أو يسأل فهمي قائلا: «أيذاكر ابن الكلب دروسه أم لا؟» ويعرف فهمي بالبداهة من يعني لأن «ابن الكلب» عند السيد كناية عن كمال، فيجيب بأنه يحفظ دروسه جيدا. والحق أن شطارة الغلام - التي استوجب عليها حنق أبيه - لم تقعد به عند الجد والاجتهاد كما يدل عليهما نجاحه وتفوقه، ولكن السيد كان يطالب أبناءه بالطاعة العمياء الأمر الذي لا يطيقه غلام اللعب أحب إليه من الطعام؛ ولهذا يعلق على إجابة فهمي قائلا بامتعاض: «الأدب مفضل عن العلم.» ثم يلتفت إلى كمال ويستطرد بحدة: «سامع يا بن الكلب!»
وجاءت الأم حاملة صينية الطعام الكبيرة فوضعتها فوق السماط وتقهقرت إلى جدار الحجرة على كثب من خوان وضعت عليه «قلة»، ووقفت متأهبة لتلبية أية إشارة. وكان يتوسط الصينية النحاسية اللامعة طبق كبير بيضاوي امتلأ بالمدمس المقلي بالسمن والبيض، وفي أحد طرفيها تراكمت الأرغفة الساخنة، وفي الطرف الآخر صفت أطباق صغيرة بالجبن، والليمون والفلفل المخللين، والشطة والملح والفلفل الأسود، فهاجت بطون الإخوة بشهوة الطعام، ولكنهم حافظوا على جمودهم متجاهلين المنظر البهيج الذي أنزل عليهم كأنه لم يحرك فيهم ساكنا، حتى مد السيد يده إلى رغيف فتناوله ثم شطره وهو يتمتم: «كلوا»، فامتدت الأيدي إلى الأرغفة في ترتيب يتبع السن؛ ياسين ففهمي ثم كمال، وأقبلوا على الطعام ملتزمين أدبهم وحياءهم. ومع أن السيد كان يلتهم طعامه في وفرة وعجلة وكأن فكيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة وبلا توقف، ومع أنه كان يجمع في لقمة كبيرة واحدة من شتى الألوان المقدمة - الفول والبيض والجبن والفلفل والليمون المخللين - ثم يأخذ في طحنها بقوة وسرعة وأصابعه تعد اللقمة التالية، إلا أنهم كانوا يأكلون متمهلين في أناة بالرغم مما يحملهم تمهلهم من صبر لا يتفق وطبيعتهم الحامية، فلم يكن ليغيب عن أحدهم ما قد يتعرض له من ملاحظة شديدة أو نظرة قاسية إذا تهاون أو ضعف، فنسي نفسه وغفل بالتالي عما يأخذها به من التأني والأدب. وكان كمال أشدهم تبرما؛ لأنه كان أعظمهم تخوفا من أبيه، وإذا كان أكثر ما يتعرض له أحد أخويه نهرة أو زجرة، فأقل ما يتعرض له هو ركلة أو لكمة؛ فلذلك كان يتناول طعامه في حذر وضيق، مسترقا النظر بين آونة وأخرى إلى المتبقي من الطعام الذي يتناقص سريعا، وكلما تناقص اشتد قلقه، وانتظر في جزع أن يصدر عن أبيه ما يدل على فراغه من طعامه فيخلو له الجو ليملأ بطنه. وعلى رغم سرعة أبيه في الالتهام وضخامة لقمته وتشبعها بشتى الأصناف، كان يعلم بالتجربة أن ما يتهدد الطعام - وما يتهدده هو بالتالي - من ناحية أخويه أشد وأنكى؛ لأن السيد كان سريع الأكل سريع الشبع، أما أخواه فكانا يبدآن المعركة حقا عقب جلاء السيد عن السفرة، ثم لا يتخليان عنها حتى تخلو الأطباق من كل شيء شهي يؤكل؛ ولهذا فما كاد السيد ينهض قائما ويفارق الحجرة حتى شمر عن ساعديه وهجم على الطبق كالمجنون مستغلا يديه الاثنتين؛ يدا للطبق الكبير، ويدا للأطباق الصغيرة، بيد أن اجتهاده بدا قليل الجدوى فيما انبعث من نشاط الأخوين، فلجأ إلى الحيلة التي يستغيث بها كلما هدد سلامته مهدد في مثل هذه الحال، وهي أن يعطس في الطبق عامدا متعمدا، وعطس فتراجع الأخوان ونظرا إليه حانقين، ثم غادرا المائدة وهما يغرقان في الضحك، فتحقق له حلم الصباح، وهو أن يجد نفسه وحيدا في الميدان.
وعاد السيد إلى حجرته بعد أن غسل يديه، فلحقت به أمينة وبيدها قدح مزجت به ثلاث بيضات نيئة بقليل من اللبن وقدمته له، فتجرعه ثم جلس ليحسو قهوة الصبح، وهذا القدح الدسم خاتمة فطوره، وهو «وصفة» من وصفات يداوم عليها بعد الوجبات أو فيما بينها - كزيت السمك، والجوز واللوز والبندق المسكرة - رعاية لصحة بدنه الضخم، وتعويضا له عما تستهلكه منه الأهواء، إلى اقتصاره على اللحوم بأنواعها والأغذية المشهورة بدسمها، حتى ليعد الأكلة الخفيفة بل والعادية «لعبا» و«تضييع وقت» لا يجملان بمثله. وقد وصف له الحشيش كفاتح للشهية - إلى فوائده الأخرى - فجربه، ولكنه لم يألفه وانصرف عنه غير آسف، وقد ساء به ظنه لما يورث من ذهول وقور مشبع بالهدوء ميال للصمت مشعر بالانفراد ولو بين الصفوة من الأصدقاء، فنفر من أعراضه تلك التي تتجافى مع سجيته المولعة بصبوات المرح ونشوات الهياج ولذات الاندماج في النفوس ووثبات المزاح والقهقهة، ولكيلا يفقد مزاياه الضرورية لفحول العشاق اعتاض عنه بنوع نفيس من المنزول اشتهر به محمد العجمي بائع الكسكسي عند مطلع الصالحية بالصاغة، وكان يعده خاصة لصفوة زبائنه من التجار والأعيان، ولم يكن السيد من مدمني المنزول ولكنه كان يلم به بين حين وآخر كلما استقبل هوى جديدا خاصة إذا كانت المعشوقة امرأة خبيرة بالرجال وأحوالهم. فرغ السيد من حسو قهوته ثم نهض إلى المرآة وراح يرتدي ملابسه التي قدمتها إليه أمينة قطعة قطعة، وألقى على صورة هندامه نظرة متفحصة، ومشط شعره الأسود المرسل على صفحتي رأسه، ثم سوى شاربه وفتله، وتفرس في هيئة وجهه ثم عطفه رويدا إلى اليمين ليرى جانبه الأيسر، ثم إلى اليسار ليرى جانبه الأيمن، حتى إذا ارتاح إلى منظره مد يده إلى زوجه فناولته زجاجة الكولونيا التي عبأها له عم حسين الحلاق، فغسل يديه ووجهه ونضح صدر قفطانه ومنديله، ثم وضع الطربوش على رأسه وأخذ عصاه وغادر الحجرة ناشرا بين يديه ومن خلفه عرفا طيبا. ذلك العرف المقطر من شتى الأزهار يعرفه أهل البيت جميعا، وإذا تنشقه أحدهم تمثل لعينيه السيد بوجهه الوقور الحازم، فينبعث في قلبه - مع الحب - الإجلال والخوف. إلا أن انتشاره في هذه الساعة من الصباح كان إيذانا بذهاب السيد، فالنفوس تتلقاه بارتياح غير منكور على براءته، كارتياح الأسير إلى صليل السلاسل وهي تنفك عن يديه وقدميه، ويعلم كل بأنه سيسترد حريته عما قليل في الكلام والضحك والغناء والحركة دون ثمة خطر. وكان ياسين وفهمي قد فرغا من ارتداء ملابسهما، أما كمال فقد هرع إلى الحجرة عقب خروج أبيه مباشرة ليشبع رغبته في محاكاة حركاته التي يختلس النظر إليها من زيق الباب الموارب، فوقف أمام المرآة ينظر إلى صورته بإمعان وارتياح، ثم قال مخاطبا أمه بلهجة آمرة وهو يغلظ نبرات صوته: «زجاجة الكولونيا يا أمينة.» وكان يعلم أنها لا تلبي هذا النداء ولكنه جعل يمسح على وجهه وجاكيتته وبنطلونه القصير بيديه كأنه يبلها بالكولونيا، ومع أن أمه كانت تغالب الضحك إلا أنه ثابر على التظاهر بالجد والصرامة، وراح يستعرض وجهه في المرآة من جانبه الأيمن إلى الأيسر، ثم مضى يسوي شاربه الوهمي ويفتل طرفيه، ثم تحول عن المرآة وتجشأ، ونظر صوب أمه، ولما لم يجد منها إلا الضحك قال لها محتجا: «لماذا لا تقولين لي صحة وعافية؟» فغمغمت المرأة ضاحكة: «صحة وعافية يا سيدي.» هنالك غادر الحجرة مقلدا مشية أبيه محركا يمناه كأنه يتوكأ على عصاه.
وبادرت الأم والفتاتان إلى المشربية، ووقفن وراء شباكها المطل على النحاسين ليرين من ثقوبه رجال الأسرة في الطريق، وبدا السيد وهو يسير في تؤدة ووقار يحف به الجلال والجمال رافعا يديه بالتحية بين حين وآخر، وقد وقف له عم حسنين الحلاق والحاج درويش بائع الفول والفولي اللبان وبيومي الشربتلي، فأتبعنه أعينا مترعة بالحب والزهو، وتلاه فهمي في مشيته المتعجلة، ثم ياسين في جسم الثور وأناقة الطاوس، وأخيرا ظهر كمال فلم يكد يخطو خطوتين حتى استدار ورفع بصره إلى الشباك الذي يعلم أن أمه وشقيقتيه مستخفيات وراءه، وابتسم، ثم واصل سيره متأبطا حقيبة كتبه منقبا في الأرض عن زلطة ليركلها.
Halaman tidak diketahui