ثم سمع صوت عائشة وهي تقول في نبرات ناعسة: ما سمع أحد لي شخيرا قط، ولكنها لا تدعني أنام بثرثرتها المتواصلة.
فقالت الأم في عتاب: أين وصيتي لكما بأن تكفا عن هذركما وقت النوم!
وردت الباب وسارت إلى حجرة الاستذكار، فطرقت بابها بخفة ثم فتحته وأدخلت رأسها وهي تقول باسمة: أفي حاجة إلى خدمة يا سيدي الصغير؟
فرفع فهمي رأسه عن الكتاب وشكرها مشرق الوجه بابتسامة لطيفة، فردت الباب وابتعدت عنه، وهي تدعو لفتاها بالفلاح وطول العمر، ثم عبرت الصالة إلى الدهليز الخارجي، وارتقت السلم إلى الدور الأعلى، حيث توجد حجرة نوم السيد وصوتها يسبقها تاليا الآيات.
12
لما غادر ياسين البيت كان يدري بطبيعة الحال وجهته التي يقصد مساء بعد مساء، ولكنه بدا - كعادته دائما إذا مشى في الطريق - وكأنه لا وجهة له. كان شأنه إذا سار أن يسير متمهلا في هوادة ورفق، مختالا في عجب وزهو، كأنه لا يغفل لحظة واحدة عن أنه صاحب هذا الجسم العظيم، وهذا الوجه الفائض حيوية وفحولة، وهذه الملابس الأنيقة الآخذة حظها - وأكثر - من العناية، إلى منشة عاجية لا تفارق يده صيفا أو شتاء، وطربوش طويل مائل يمنة حتى يكاد يمس حاجبه، ومن عادته أيضا إذا سار أنه كان يرفع عينيه - دون رأسه - مستطلعا ما وراء النوافذ لعل وعسى، فلم يكن يقطع طريقا حتى يشعر في نهايته بما يشبه الدوار من كثرة تحريك عينيه، إذ كان ولعه بالتهام النسوة اللاتي يصادفنه داء لا شفاء منه، فهو يتفحصهن مقبلات ويتبع عينيه أرادفهن مدبرات، ويظل في قلقه كثور هائج حتى ينسى نفسه فلا يعود يتدبر مداراة مقاصده، الأمر الذي تنبه له مع الزمن عم حسنين الحلاق والحاج درويش بائع الفول والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي، وأبو سريع صاحب المقلى وغيرهم، فمنهم من حمله محمل الدعابة ومنهم من أخذه مأخذ الانتقاد لولا أن الجيرة ومنزلة السيد أحمد عبد الجواد شفعتا له بالإغفاء والتسامح. كانت حيويته من العنف بحيث ملكت عليه فراغه كله، فلم تدع له وقتا يستريح فيه من استفزازها، وشعر دائما بألسنتها تلهب حواسه ووجدانه، وكأنها عفريت يركبه ويوجهه حيث يشاء، بيد أنه عفريت لم يخفه أو يضق به، ولم يود الخلاص منه، بل لعله رام منه المزيد، ولكن سرعان ما توارى عفريته واستحال ملاكا لطيفا حين اقترب الشاب من دكان أبيه، هناك أغضى طرفه واستقامت مشيته، وتحلى بأدب وحياء، وحث خطاه لا يلوي على شيء، ولما مر بباب الدكان التفت إلى داخله فرأى خلقا كثيرين، ولكنه التقى بعيني أبيه وهو جالس وراء مكتبه فانحنى في إجلال رافعا يده إلى رأسه في أدب، فرد الرجل تحيته مبتسما، ثم استأنف مسيره مسرورا بهذه الابتسامة كأنما حظي بنعمة نادرة المثال. والحق أن عنف أبيه المعهود، ولو أنه اعتوره تغير ملموس منذ أن انخرط الفتى في سلك موظفي الدولة، إلا أنه لم يزل في نظره نوعا من العنف الملطف بالكياسة، فلم يزايل الموظف خوفه القديم الذي ملأ قلبه وهو تلميذ، ولم يفارقه شعوره بأنه ابن وأن الآخر الأب، وما فتئ يتضاءل بمحضره على ضخامته كأنما يستحيل عصفورة يرعشها وقع الحصاة. وما إن ابتعد عن دكان أبيه وصار بمنجى من عينيه حتى استرد خيلاءه وعادت عيناه إلى الذبذبة غير مفرقة بين الهوانم وبائعات الدوم أو البرتقال؛ إذ كان العفريت الذي يركبه مولعا بالنساء كافة، متواضعا يستوي عنده الرفيع والوضيع منهن؛ فبائعات الدوم والبرتقال - على سبيل المثال - وإن شابهن الأرض التي يقتعدنها لونا وقذارة لا يخلين أحيانا من ميزة حسن، كثديين ناهدين أو عينين مكحولتين. وماذا يروم غير هذا؟! ... ثم اتجه صوب الصاغة ومنها إلى الغورية، ومال إلى قهوة سي علي على ناصية الصنادقية، وكانت شبه دكان متوسطة الحجم يفتح بابها على الصنادقية وتطل بكوة ذات قضبان على الغورية، وقد اصطف بأركانها الأرائك. واتخذ مجلسه على أريكة تحت الكوة - مجلسه المختار منذ أسابيع - وطلب الشاي. جلس بحيث يوجه بصره في يسر ودون إثارة ظن إلى الكوة، ومنها يصعده كلما يشاء إلى نافذة صغيرة في بيت على الجانب الآخر للطريق، لعلها كانت الوحيدة بين النوافذ المغلقة التي لم يعن بإحكام إغلاق خصاصها، ولا عجب فقد كانت تابعة لمسكن زبيدة «العالمة»، ولم تكن «العالمة» مطمحه فدون هذا مراحل من المجون عليه أن يجتازها في صبر وأناة، ولكنه راح يرصد ظهور زنوبة العوادة ربيبة «العالمة» ونجمة تختها اللامعة، وكانت فترة توظفه بالحكومة عهدا حافلا بالذكريات جاءه بعد طول تقشف إجباري عاناه محاذرا في ظل أبيه الرهيب، فانطلق من ثمة كالشلال يتحدر في مهاوي الأزبكية على ما لاقى من مضايقات الجنود الذين قذفتهم عجلة الحرب إلى القاهرة، ثم ظهر في الميدان الأستراليون فاضطر إلى التخلي عن مغاني العبث فرارا من وحشيتهم، وضاقت به السبل فمضى يتقلب في أزقة حية كالمجنون، وأقصى ما يطمع فيه من لذة بائعة برتقال أو غجرية ممن يقرأن الطالع، حتى رأى يوما زنوبة فتبعها مذهولا إلى موطنها، ثم تعرض لها مرة بعد مرة ولا يكاد يظفر منها بما يبل صدره. كانت امرأة وكل امرأة عنده رغيبة، بيد أنها كانت إلى هذا ذات حسن فهوسته، وليس الحب لديه إلا تلك الشهوة العمياء أو هذه الشهوة المبصرة وهي أسمى ما عرف من ألوانه، وجعل يمد بصره خلال القضبان إلى النافذة الخالية في جزع وقلق أنسياه نفسه، فحسا الشاي الساخن دون أن ينتبه إلى سخونته إلا وهو يزدرده وراح ينفخ متألما، ثم أعاد القدح إلى الصينية الصفراء مسترقا النظر إلى السمار الذين أزعجته أصواتهم المرتفعة كأنما هي المسئولة عن لسعته، أو أنها السبب في عدم ظهور زنوبة بالنافذة ... «ترى أين الملعونة؟ ... أتتعمد الاختفاء! ... من المحقق أنها تعلم بوجودي هنا ... ولعلها رأتني قادما ... فإذا اصطنعت التدلل إلى النهاية ألحقت هذا اليوم بأيامي المحرقة.» وعاود استراق النظر إلى الجلوس ليرى هل يلاحظه أحد منهم، ولكنه وجدهم جميعا منهمكين في أحاديثهم التي لا تنتهي، فداخله ارتياح وأرجع بصره إلى الهدف المرموق، بيد أنه اعترضت تيار أفكاره ذكريات عن متاعب اليوم التي صادفته في المدرسة؛ إذ شك الناظر في أمانة متعهد اللحوم فقام بتحقيق اشترك هو فيه بوصفه كاتب المدرسة، ثم بدا منه شيء من التراخي في عمله حمل الناظر على نهره مما نغص عليه صفوه بقية اليوم، وجعله يفكر في أن يشكو الناظر إلى أبيه - وهما صديقان قديمان - لولا خوفه أن يجد أباه أشد عليه من الناظر ... «اطرح عنك هذه الأفكار السخيفة .. انتهينا من المدرسة والناظر عليهما اللعنة ... حسبي الآن ما ألاقي من القارحة بنت القارحة التي تبخل علينا بنظرة.» وإذا بأحلام عارية تنثال على خياله، أحلام كثيرا ما تمثل على مسرح أوهامه وهو يرنو إلى امرأة أو يستعيد ذكراها، تخلقها عاطفة هوجاء تنزع عن الأجساد أغطيتها وتجلوها عارية كما خلقها الله غير مستثنية جسده هو، ثم تمضي في فنون من العبث لا عاصم لها، ولكنه ما كاد يستنيم إلى هذه الأحلام حتى انتبه على صوت حوذي وهو يصيح على حماره «يس»، فرمى ببصره ناحية الصوت فرأى عربة كارو تقف أمام بيت العالمة. وتساءل: ترى أجاءت العربة لتحمل أفراد التخت إلى فرح من الأفراح؟ ... ونادى صبي القهوة ودفع إليه الحساب متأهبا لمغادرة المكان في أية لحظة إذا دعا داع. ومضت فترة انتظار وترقب ثم فتح باب البيت وبرزت امرأة من نسوة التخت وهي تجر رجلا أعمى مرتديا جلبابا ومعطفا وعوينات سوداء ومتأبطا القانون، وصعدت المرأة إلى العربة وتناولت القانون ثم أخذت بيد الأعمى، وأعانه الحوذي من ناحية أخرى حتى لحق بالمرأة، وجلسا متجاورين في مقدمة العربة، وتبعتهما على الأثر امرأة ثانية تحمل دفا ثم ثالثة متأبطة صرة، وقد تبدين في ملاءاتهن اللف سافرات، كاسيات - بدلا من البراقع - بأقنعة من زواق فاقع الألوان جعلهن بعرائس المولد أشبه. ثم ما هذا؟ ... رأى ببصر شيق وقلب خافق العود وهو يبرز من الباب في جرابه الأحمر ... وأخيرا بدت زنوبة وقد انحسر طرف ملاءتها عند أعلى الرأس عن منديل قرمزي ذي أهداب منمنمة. لمعت تحته عينان سوداوان ضاحكتان تنفث نظرتهما لعبا وشيطنة. واقتربت من العربة ومدت يدها بالعود فتناولته امرأة، ثم رفعت قدما إلى أعلى العجلة فاشرأب ياسين بعنقه وهو يزدرد ريقه، فلمح ثنية الجورب معقودة فوق الركبة على أديم بدا منه صفاء عذب خلال أهداب فستان برتقالي ... «آه لو تغوص بي الأريكة في الأرض مترا ... رباه ... إن وجهها أسمر، ولكن لحمها المكنون أبيض ... أو شديد الميل للبياض ... فكيف يكون الورك! ... وكيف يكون البطن! ... البطن يا هوه ...» وثبتت زنوبة راحتيها على سطح العربة وتحاملت عليها، حتى حطت ركبتيها على حافة العربة، ثم مضت تتحرك رويدا على أربع ... «يا لطيف ... يا لطيف، آه لو كنت على باب البيت ... أو حتى في دكان محمد الطرابيشي ... انظر إلى ابن الكلب كيف يحملق في الطابية بعينيه ... ما أجدر أن يسمي نفسه منذ اليوم محمد الفاتح ... يا لطيف ... يا منقذ ...» وأخذ ظهرها يستقيم حتى نهضت واقفة على سطح العربة، وفتحت الملاءة وقبضت على طرفيها وجعلت تهزها بيديها هزات متتابعات كأنها طائر يخفق بجناحيه، ثم لفتها حول جسمها لفة محكمة وشت بدقائق تقاطيعه وتفاصيله، وأبرزت - خاصة - عجيزة مدملجة رقراقة، ثم جلست عند مؤخرة العربة فتكور ردفها تحت الضغط متبلورا ذات اليمين وذات اليسار، فنعم الوسادة ... ونهض ياسين وغادر القهوة فوجد العربة قد تحركت فتبعها متمهلا وهو يلهث، ويصر على أسنانه من شدة الانفعال. وراحت العربة تسير سيرتها المتمهلة المتمايلة والنسوة على سطحها يتأرجحن معها يمنة ويسرة، فركز الشاب عينيه في وسادة العوادة، يذهب معها ويجيء حتى خالها بعد حين ترقص. وكانت الظلمة قد بدأت تغشى الطريق الضيق، وأخذت كثرة من الدكاكين تغلق أبوابها، إلا أن غالبية المارة كانت من جمهور العاملين العائدين إلى بيوتهم منهوكي القوى، فوجد ياسين بين الظلمة والجمهور المتعب متسعا لإنعام النظر والأحلام في أمن ودعة ... «اللهم لا تجعل لهذا الطريق من نهاية، ولا لهذه الحركة الراقصة من ختام ... يا لها من عجيزة سلطانية جمعت بين العجرفة واللطف يكاد البائس مثلي يحس بطراوتها وشدتها معا بالنظر المجرد ... وهذا المفرق العجيب الذي يشطرها تكاد تنطق الملاءة عنده ... وما خفي كان أعظم .. إني أدرك الآن لماذا يصلي بعض الناس ركعتين قبل أن يبني بعروسه ... أليست هذه قبة؟ ... بلى وتحت القبة شيخ ... وإني لمجذوب من مجاذيب هذا الشيخ ... يا هوه ... يا عدوي ...» وتنحنح والعربة تقترب من بوابة المتولي، فالتفتت زنوبة وراءها ورأته. ثم خيل إليه وهي تعيد رأسها أنه لمح على شفتيها بشير ابتسامة، فدق قلبه في عنف وسرت في وجدانه سكرة سرور ملتهب، ومرقت العربة من بوابة المتولي ثم مالت إلى اليسار، وهناك اضطر الشاب إلى التوقف عن متابعتها؛ لأنه رأى عن كثب معالم زينات وأنوار وجمهورا مهللا، فتراجع قليلا وبصره لا يفارق العوادة، وجعل يراقبها بنهم وهي تنزل على الأرض، وهي ترمي ناحيته بنظرة عابثة، ثم وهي تتجه إلى بيت العروس حتى واراها الباب في ضجة من الزغاريد. وتنهد تنهدة حامية، ولفته حيرة حانقة فبدا قلقا كأنه لا يدري أي وجهة يقصد ... «لعنة الله على الأستراليين! ... أين أنت يا أزبكية لأبثك همي وأشجاني، وأتزود منك بشيء من الصبر.» ثم دار على عقبيه وهو يتمتم «إلى العزاء الباقي .. إلى كستاكي.» وما كاد ينطق باسم البدال اليوناني حتى تندى رأسه حنينا إلى حميا الشراب .. كانت المرأة والخمر في حياته متلازمتين متكاملتين، ففي مجلس المرأة عاقر الخمر لأول مرة، ثم صارت بحكم العادة من مقومات لذته وبواعثها، بيد أنه لم يتح لهما - المرأة والخمر - أن يتلازما دائما، وخلت ليال كثيرات من النساء، فلم يجد بدا من أن يخفف لوعته بالشراب، ولكرور الأيام واستحكام العادة بات وكأنه المولع بالخمر لذاتها. وعاد من نفس الطريق الذي جاء منه، وقصد بدالة كستاكي عند رأس السكة الجديدة - حانوت كبير ظاهره بدالة وباطنه حانة يفصل بينهما باب صغير - ووقف عند مدخلها مختلطا بالزبائن ريثما يتفحص الطريق أن يكون أبوه هنا أو هناك، ثم اتجه صوب الباب الصغير الداخلي، ولكن ما كاد يتقدم خطوة حتى لمح في طريقه رجلا واقفا أمام الميزان والخواجة كستاكي نفسه يزن له لفة كبيرة، فانجذب رأسه إليه بلا إرادة، وسرعان ما اكفهر وجهه وسرت في بدنه رجفة قاسية تقبض لها قلبه خوفا واشمئزازا. لم يكن في مظهر الرجل ما يسبغ هذه العواطف العدائية. كان في الحلقة السادسة، مرتديا جلبابا فضفاضا وعمامة، وقد ابيض شاربه وعلاه الكبر والوداعة، إلا أن ياسين واصل سيره مضطربا كأنما يفر قبل أن تقع عليه عينا الرجل، ودفع باب الحانة بشيء من القوة ثم دخل تكاد تميد به الأرض ...
13
ارتمى على أول مقعد صادفه غير بعيد من الباب، وقد بدا خائر القوى ساهما، ثم دعا النادل وطلب دورق كونياك بنبرات نمت على نفاد صبره. وكانت الحانة بالحجرة أشبه، تدلى من سقفها فانوس كبير، وصفت بجنباتها موائد خشبية وكراسي خيزران جلس إليها نفر من أهل البلد والعمال والأفندية، وتوسط المكان تحت الفانوس مباشرة مجموعة من أصص القرنفل. من عجيب أنه لم ينس الرجل، وأنه عرفه من النظرة الأولى، متى رآه آخر مرة؟ ... لا يستطيع أن يجزم، ولكن من المحقق أنه لم تقع عليه عيناه في مدى اثنتي عشرة سنة، إلا مرتين إحداهما التي زلزلته الآن. وقد تغير الرجل ما في ذلك من شك فغدا شيخا هادئا وقورا! ... ألا سحق الله المصادفة العمياء التي ألقت به في سبيله. والتوت شفتاه تقززا وامتعاضا وشعر بمرارة الهوان تجري في ريقه. يا له من هوان مذل ما يكاد يفيق من دواره القديم بالعناء والعناد، حتى ترده إليه ذكرى من الذكريات المعتمة أو مصادفة لعينة كالتي حدثت اليوم فينقلب ذليلا منكسرا ... ضائعا. وعلى رغمه حملقت عيناه في الماضي البغيض، بقوة الهياج المثار في رأسه وقلبه، فانشق الظلام عن أشباح شائهة طالما ناوشته كرموز للعذاب والكراهية، فميز من بينها دكان فاكهة يقوم على رأس عطفة قصر الشوق، وطالعته صورة غامضة المعالم، هي صورته وهو صبي، فرآه وهو يحث خطواته المتقاربة إلى ذلك الدكان حيث استقبله ذلك الرجل، ثم حمله قرطاسا مليئا بالبرتقال والتفاح، فتناوله مسرورا وعاد به إلى المرأة التي بعثته وانتظرت، إلى أمه دون غيرها وا أسفاه! وانعكست الذكرى على جبينه عبوسة حنق وضيق، ثم استعادت مخيلته صورة الرجل فتساءل جزعا: ترى أكان يعرفه لو وقعت عليه عيناه؟ ... أكان يذكر فيه الصبي الصغير الذي عرفه قديما ابنا لتلك المرأة؟ ... وقرصته قشعريرة فزع فتخاذل جسمه البادن الفارع وتضاءل في حسه حتى استحال لا شيء، وجيء عند ذاك بالدورق والقدح فصب ونهل في نهم وعصبية متعجلا حظ الشاربين من الانتعاش والنسيان، ولكن فجأة تراءى له من أعماق الماضي وجه أمه، فلم يتمالك من أن يبصق. أيهما يلعن: الحظ الذي جعلها أمه أم جمالها الذي شغف كثيرين حبا وأحاطه بالكوارث؟! ... والحق أنه لم يكن بوسعه أن يغير أمرا مما قدر عليه، ولم يكن بوسعه إلا أن يذعن للقضاء الذي هرس عزة نفسه، أفليس من الظلم أن يكفر بعد ذلك عن حكم القضاء كأنه هو الجاني الأثيم؟! ... ولم يدر لم استحق اللعنة، فالأطفال الذين استقبلوا الدنيا في حضانة أمهات مطلقات مثله غير قليلين، وعلى خلاف أكثرهم وجد من أمه حنانا غير مشوب وحبا لا يعرف الحدود وتدليلا سابغا لا تشكمه رقابة أب، فتمتع بطفولة سعيدة قوامها الحب واللين والدماثة. ولا تزال ذاكرته تحتفظ بالكثير من ذكريات البيت القديم بقصر الشوق، كسطحه الذي يشرف على أسطح لا عداد لها ويرى مآذن وقبابا من نواحيه الأربع، ومشربيته التي تطل على الجمالية حيث تمر ليلة بعد أخرى مواكب الزفاف تضيئها الشموع ويكتنفها الفتوات، فينجلي أكثرها عن معارك تشتجر فيها النبابيت وتسيل الدماء. في ذاك البيت أحب أمه حبا لا مزيد عليه وفيه شاعت في قلبه الريبة الغامضة، وفيه رمى إلى صدره بالبذور الأولى لنفور غريب - نفور ابن من أمه - التي قدر لها أن تنمو وتستفحل حتى انقلبت مع الزمن كراهية كالداء العضال، وكثيرا ما قال لنفسه إنه ربما كان في وسع الإرادة القوية أن تتيح لنا أكثر من مستقبل واحد، ولكننا لن يكون لنا - مهما أوتينا من إرادة - إلا ماض واحد لا مفر منه ولا مهرب. والآن يتساءل - كما تساءل من قبل كثيرا - متى فطن إلى أن أمه لم تكن الشخص الوحيد في حياته؟! ... بعيد جدا أن يعرف هذا على وجه اليقين، وما يذكر إلا أنه في فترة ما من طفولته وعت حواسه شخصا جديدا كان يطرأ على البيت من حين لآخر، ولعله - ياسين - كان يتطلع إليه بغرابة وشيء من الخوف، ولعل الآخر بذل ما في وسعه لإيناسه وإرضائه، إنه يحملق في الماضي على استكراه ونفور شديدين، ولكنه وجد المقاومة لا تجدي، كأنما ذاك الماضي دمل يود لو يتجاهله على حين لا تمسك يده عن جسه من آن لآخر. ثم إن هناك أمورا لا يمكن أن تنسى ... ففي مكان ما ووقت بين النور والظلمة، وتحت أعلى نافذة أو باب مطعم بمثلثات من الزجاج الأزرق والأحمر ... في ذاك المكان يذكر أنه اطلع فجأة - في ظروف فرضها النسيان - على ذلك الشخص الطارئ وهو كأنه يفترس أمه، فما تمالك أن صرخ من أعماق قلبه وولول باكيا حتى أقبلت المرأة عليه في اضطراب باد وراحت تطيب خاطره وتسكن ثائره، وانقطعت من شدة الامتعاض عند ذاك سلسلة خواطره فقلب عينيه فيما حوله واجما، ثم صب من الدورق في القدح وشرب، وقد لمح وهو يعيد القدح إلى موضعه نقطة من سائل منداحة فوق طرف جاكيتته، فظنها خمرا وأخرج منديله وأنشأ يدلكها، ثم خطر له خاطر فتفحص ظاهر القدح فرأى قطرات من الماء عالقة بأسفله، فرجح عنده أن ما سقط على سترته ماء لا خمر واسترد طمأنينته ... ولكن أي طمأنينة خادعة! لقد رجعت عيناه إلى مرآة الماضي البغيض. لا يذكر متى وقعت الواقعة السالفة، ولا كم كان عمره حين وقوعها، ولكنه يذكر بلا ريب أن الشخص المفترس لم ينقطع عن البيت القديم، وأنه كثيرا ما تودد إليه بما لذ وطاب من ألوان الفاكهة، ثم كان يراه بعد ذلك في دكان الفاكهة عند رأس العطفة إذا استصحبته أمه معها في مشوار، وبسذاجة الأطفال كان يلفت نظرها إليه، فكانت تجذبه في عنف بعيدا عنه وتمنعه من الإيماء إليه، حتى تعلم أن يتجاهله وهو في صحبتها بالطريق، وازداد الشخص في نظره إبهاما وغموضا، ثم حذرته من أن يعود إلى ذكره أمام خال عجوز كان وقتذاك على قيد الحياة، ويزورهم من حين لآخر فاتبع تحذيرها وما يزداد إلا حيرة. ولم يقنع الحظ منه بذاك القدر، فكانت أمه - إذا غاب الرجل عن البيت أياما - يكون مبعوثا إليه ليدعوه إلى أن يحضر «الليلة»! وكان الرجل يستقبله بلطف ويملأ قرطاسا من التفاح والموز، ويحمله موافقته أو اعتذاره كيفما اتفق. ثم بلغ به الحال أنه إذا اشتاق إلى لذيذ الفاكهة استأذن أمه في أن يذهب إلى الرجل ليدعوه «الليلة»، ذكر هذا وجبينه يندى خزيا ثم نفخ في قهر، ثم صب وجرع. ورويدا انبعثت الحميا في دمه، وبدأت تلعب دورها الساحر في معاونته على حمل متاعبه ... «قلت ألف مرة إنه يجب أن أدع الماضي مدفونا في قبره ... لا فائدة ... لا أم لي وحسبي امرأة أبي الرقيقة الطيبة ... كل شيء طيب ما عدا ذكرى قديمة بيدي أن أميتها ... ترى لم أجاري إلحافها علي فأبعثها من قبرها حينا بعد حين! ... لم؟! ... سوء الطالع وحده الذي رمى بالرجل في طريقي اليوم ولكن مصيره أن يموت يوما ... أود أن يموت كثيرون ... لم يكن الرجل الوحيد ...» بيد أن خياله الثائر واصل إسراءه في ظلمات الماضي رغم مقاومته النظرية، ولكن على حال أخف توترا. أجل لم يعد في تلك القصة بالذات من بقية طويلة، ولعلها - هذه البقية - تمتاز بما يضيئها من نور نسبي بعد عبور طور الطفولة المعتم. كان هذا في السنوات القلائل التي سبقت انتقاله إلى حضانة أبيه، وقد وجدت أمه الشجاعة لتصارحه بأن ذاك «الفكهاني» يتردد عليها طلبا ليدها، وأنها مترددة في قبوله، وأنها غالبا سترفض إكراما له! ترى أصدق ما قيل له؟ ... هيهات أن يستوثق من تفاصيل ذكرياته، ولكنه كان بلا ريب يشرئب للإدراك والفهم، ويعاني نوعا من الريبة الغامضة التي تتكشف للقلب دون العقل، ويكابد ألوانا من القلق أطار عن هامته حمامة السلام، فتهيأت في نفسه تربة لتلقي بذرة النفور التي صارت مع الأيام إلى ما صارت إليه. ثم انتقل في التاسعة من عمره إلى حضانة أبيه الذي لم يكن رآه إلا مرات معدودة تحاميا للاحتكاك بأمه. انتقل إليه غلاما على الفطرة لم يتلقن من مبادئ العلم كلمة واحدة، ومضى يكفر عن سيئات التدليل الذي غلته به أمه فتلقى التعليم بنفس كارهة وإرادة خائرة، ولولا شدة السيد وطيبة جو البيت الجديد ما دفع إلى النجاح في الابتدائية بعد أن نيف على التاسعة عشرة من عمره. وبنمو عمره وإدراكه حقائق الأشياء، استعرض حياته الماضية في بيت أمه وقلبها على وجوهها ملقيا عليها من خبرته الجديدة أنوارا فاضحة، فتكشفت له الحقائق ببشاعتها ومرارتها، وكلما تقدم في الحياة خطوة بدا له الماضي سلاحا مسموما منغرسا في صميم نفسه وكرامته، وقد دأب أبوه بادئ الأمر على أن يسأله عن حياته في بيت أمه، ولكنه على حداثة سنه، تحاشى نبش الذكريات المحزنة وغلب كبرياءه الجريح على الرغبة في استثارة اهتمام أبيه، وحب الثرثرة الذي يستهوي أمثاله من الغلمان، ولزم الصمت حتى ترامى إليه نبأ غريب عن زواج أمه من تاجر فحم بالمبيضة فبكى الغلام طويلا، واشتد ضغط السخط على صدره حتى فضفض، فانطلق يحدث أباه عن «الفكهاني» الذي زعمت يوما أنها رفضت الزواج منه إكراما له! ... وانقطعت صلته بها من ذاك العهد - منذ إحدى عشرة سنة - فلم يعد يدري عنها شيئا إلا ما ينقله إليه أبوه من حين لآخر كطلاقها من الفحام بعد انقضاء عامين على زواجها منه، ثم زواجها من باشجاويش في العام التالي لطلاقها، ثم طلاقها مرة أخرى بعد حوالي عامين إلخ ... إلخ ... وفي فترة قطيعتها الطويلة سعت المرأة كثيرا إلى رؤيته، فكانت ترسل إلى أبيه من يستأذنه في السماح له بالذهاب إليها، ولكن ياسين صد عن دعوتها بإباء ونفور شديدين رغم نصح أبيه له بالتسامح والعفو. والحق أنه وجد عليها موجدة حامية نابعة من صميم قلب جريح، فأغلق دونها باب العفو والغفران، وأقام وراءه متاريس حنق وكراهية مؤمنا إلى هذا بأنه لم يظلمها، ولكن أنزلها بحيث أنزلتها فعالها ... «امرأة. أجل ما هي إلا امرأة ... وكل امرأة لعنة قذرة ... لا تدري امرأة ما العفة إلا حين تنتفي أسباب الزنا ... حتى امرأة أبي الطيبة، الله وحده يعلم ماذا كان يمكن أن تكون لولا أبي!» وقطع عليه أفكاره صوت رجل علا قائلا: «الخمر كلها فوائد، ومن يقل غير هذا أقطع رأسه ... الحشيش والمنزول والأفيون كثيرة الضرر ... أما الخمر فكلها فوائد ...» فتساءل صاحبه: «وما فوائدها؟» فقال الرجل مستنكرا: «وما فوائدها! ما أعجب سؤالك! ... كلها فوائد كما قلت ... وأنت تعلم هذا وتؤمن به ...» فقال صاحبه: «ولكن الحشيش والأفيون والمنزول مفيدة كذلك، فيجب أن تعلم هذا وتؤمن به ... الناس جميعا يقولون هذا فهل تخالف الإجماع؟!» وتريث الرجل قليلا، ثم قال: «كلها مفيدة إذن، الكل، الخمر والحشيش والأفيون والمنزول وما يستجد!» فعاد صاحبه يقول بلهجة تنم عن ظفر: «ولكن الخمر حرام!» فقال الرجل محتدا: «وهل ضاقت السبل! زك ... حج ... أطعم المساكين ... أبواب التكفير واسعة والحسنة بعشر أمثالها ...»
وابتسم ياسين في شيء من الارتياح، أجل أمكنه أخيرا أن يبتسم في شيء من الارتياح: «لتذهب إلى الجحيم، ولتأخذ الماضي معها ... لست عن شيء مسئولا ... كل إنسان ملوث في هذه الحياة ومن يزح الستار ير عجبا ... شيء واحد يهمني جدا هو عقارها، دكان الحمزاوي وربع الغورية والبيت القديم بقصر الشوق ... وإني أعد أمام الله إذا ورثته كاملا يوما أن أترحم عليها بلا أسف ... آه ... زنوبة ... كدت أنساك وما أنسانيك إلا الشيطان. امرأة عذبتني وامرأة ألتمس عندها العزاء ... آه يا زنوبة ما علمت قبل اليوم أن باطنك بهذا اللون الرائق ... أف ينبغي أن أمحو الفكر من رأسي ... الحق أن أمي كالضرس الثائر، لا يسكن حتى ينخلع ...»
14
Halaman tidak diketahui