فشدت على يده بامتنان، ثم غيرت مجرى الحديث قائلة بترحاب: وعدت إلي أخيرا، لم أجرؤ على دعوتك حتى انتهى بي المرض إلى ما ترى، داخلني شعور بأنني أودع الحياة، فلم أطق أن أفارقها قبل أن أملأ عيني منك، فأرسلت إليك وبي من الخوف من رفضك أكثر مما بي من خوف الموت نفسه، ولكنك رحمت أمك وأقبلت تودعها، فلك الشكر ودعاء أرجو الله أن يتقبله.
اشتد التأثر ولكنه لم يدر كيف يعبر عن شعوره، تثاقلت الكلمات الحنونة في فيه متعثرة فيما يشبه الحياء أو الغرابة حالما أراد توجيهها إلى المرأة التي ألف مجافاتها ونبذها، بيد أنه وجد في يده أداة تعبير طيعة حساسة، فضغط على راحتها مغمغما: ربنا يكتب لك السلامة.
وجعلت تدور حول المعنى الذي أفصحت عنه جملتها الأخيرة، مرددة نفس الألفاظ تارة أو مستبدلة بها غيرها مما يدل على نفس معناها طورا آخر، وراحت تفصل الحديث بازدراد ريقها بجهد ملحوظ، أو بالصمت القصير ريثما تسترد أنفاسها، مما دعاه مرات إلى أن يرجوها بالكف عن الحديث، ولكنها كانت تبتسم لمقاطعته، ثم تعود إلى مواصلة الحديث، حتى توقفت وقد لاح في وجهها اهتمام طارئ كلما تذكرت شيئا ذا بال ... وقالت: تزوجت؟
فرفع حاجبيه في شيء من الضيق وتورد وجهه، ولكنها أخطأت فهمه، فبادرته كالمعتذرة: لا عتاب ... حقا كنت أود أن أرى عروسك وذريتك، ولكن بحسبي أن تكون سعيدا.
فما ملك أن قال باقتضاب: لست متزوجا، طلقت منذ شهر تقريبا.
لأول مرة لاحت آي الانتباه في عينيها، لو كان في الإمكان أن يلتمعا لالتمعا ... ولكن انبعث منهما شبه ضوء كالضوء الحالم الذي تنضح به ستارة كثيفة، وتمتمت: طلقت يا بني! ما أحزنني!
فابتدرها قائلا: لا تحزني، لست حزينا ولا آسفا (ثم باسما) أخذت الشر وراحت.
ولكنها تساءلت بنفس اللهجة: من الذي اختارها لك ... هو أم هي؟!
فقال بلهجة نمت عن رغبته في قفل باب هذا الحديث: اختارها الله، كل شيء قسمة ونصيب! - أعلم هذا، ولكن من الذي اختارها لك؟ امرأة أبيك؟ - كلا أبي الذي اختارها، ولا غبار على اختياره فهي من أسرة كريمة ... ولكنها القسمة والنصيب كما قلت.
فقالت ببرود: القسمة والنصيب واختيار أبيك ... هذه هي!
Halaman tidak diketahui