Di Antara Dua Istana

Najib Mahfuz d. 1427 AH
138

Di Antara Dua Istana

بين القصرين

Genre-genre

58

في الصباح الباكر طرق الباب، وكان الطارق شيخ الحارة، فقابل السيد أحمد وأخبره بأنه مكلف من لدن السلطات بإبلاغ سكان الأحياء المحتلة بأن الإنجليز لن يتعرضوا إلا للمتظاهرين، وأن عليه أن يفتح دكانه، وعلى التلميذ أن يذهب إلى مدرسته، والموظف إلى وظيفته، وحذره من حجز التلاميذ أن يظنوا من المضربين لافتا نظره إلى الأوامر المشددة بمنع المظاهرات والإضراب، بذلك استرد البيت نشاطه الذي يستقبل به الصباح. وتنفس رجاله الصعداء لإطلاق سراحهم بعد حبس البارحة، واستروحت النفوس شيئا من الطمأنينة والسلام. قال ياسين لنفسه تعقيبا على زورة شيخ الحارة: «الأحوال خارج البيت تتحسن، أما داخله فهي طين ووحل.» أجل قضت أكثرية أهل البيت ليلة نكراء أحاطت بها الفضيحة، ومزق أوصالها النكد، زينب لم يستطع الصبر الذي تغلق به صدرها على حزنها وتذمرها أن يصمد للمنظر المروع الذي رأته عيناها في حجرة جاريتها، فتفجر صدرها قاذفا بشواظه كل سبيل، تعمدت تعمدا أن يقرع عويلها آذان السيد، فجاءها مهرولا متسائلا ... وكانت الفضيحة ... قصت عليه كل شيء متشجعة بانفعالها الجنوني الذي لعلها لولاه ما واتتها شجاعتها على مواجهته بما قصت لما باتت تجد نحوه من تهيب لم تجد مثله حيال أحد من الناس، انتقمت بذاك لكرامتها الذبيحة، وللصبر الذي تجرعته حينا مختارة، وحملت عليه في أكثر الأحايين: «جارية! خادمة! في سن أمه! وفي بيتي! ماذا عساه أن يفعل في الخارج إذن؟» لم تكن تبكي غيرة، أو لعل الغيرة توارت إلى حين وراء حجب كثيفة من التقزز والغضب، كما تتوارى النار وراء سحب الدخان، وكأنما غدت تؤثر الموت على أن تبقى معه تحت سقف واحد، ولو يوما واحدا بعد ما كان، أجل هجرت مخدعها فقضت الليل في حجرة الاستقبال يقظى أكثره تهذي هذيان المحمومين، ونائمة أقله نوما ثقيلا مريضا مزعجا. أصبحت وهي مصممة على هجر البيت. لعل هذا التصميم وحده الذي وجدت فيه مسكنا لأوجاعها. ماذا بوسع حميها نفسه أن يفعل؟ ... لن يستطيع أن يمنع المنكر بعد أن وقع، ولن يسعه مهما يكن جبروته أن ينزل بزوجها العقاب الذي يستحقه حتى يستشفي صدرها، أقصى ما يراه أن يزجره ، أن يصب عليه غضبه، وسينصت - الفاسق - خافض الرأس كي يواصل فيما بعد سيرته الخبيثة! ... هيهات. لقد رجاها السيد أن تدع الأمر بين يديه، ونصحها طويلا بأن تعرض عن زلته مستوصية بصبر الفضليات من مثيلاتها، ولكنها لم تعد تحتمل الصبر أو العفو. جارية سوداء فوق الأربعين! ... كلا، ستهجره هذه المرة بلا تردد، ستفضي إلى أبيها ببثها كله، وستبقى في كنفه حتى يثوب إلى رشده، فإذا جاءها بعد ذلك نادما، وغير من سلوكه أو فلتذهب هذه الحياة كلها - بخيرها وشرها - إلى الشيطان، أخطأ ياسين حين ظنها قد طوت صدرها على كربها عقلا وحكمة، الحق أنه غلبها الجزع من بادئ الأمر، فبثت همها إلى أمها، ولكن الأم أثبتت أنها امرأة حكيمة، فلم تدع الشكوى تتسرب إلى الأب، وأوصت ابنتها بالصبر قائلة: إن الرجال يسهرون - كوالدها مثلا - وإنهم أيضا يشربون، وإنه حسبها أن بيتها عامر بالخير، وأن زوجها يعود إليها مهما سهر ومهما سكر. أصغت الفتاة إلى النصيحة على مضض، وجاهدت نفسها أيما جهاد متجملة بالصبر، ولم تأل أن تحمل نفسها على الرضا بالواقع والقناعة من أحلامها العريضة بما سمحت به الحقيقة، خصوصا وقد دب الجنين في بطنها مبشرا بالأمومة المرموقة. ربما كمن التذمر في أعماقها بيد أنها راضت نفسها على التسليم متأسية بأمها تارة، وطورا بامرأة سيدها الكبير، ثم لم يخل الحال من ريبة تختلج في صدرها بين حين وآخر عما يمكن أن يفعل زوجها في سهراته الخمرية، وحدث أن أفضت إلى أمها بمخاوفها، بل لم تخف عنها ما لحق بالرجل من فتور في عواطفه، ولكن الأم الحكيمة أفهمتها أن ذاك الفتور ليس حتما نتيجة لما يقع في خاطرها، إنه «شيء طبيعي» وإن الرجال جميعا لديه سواء، وأنها سوف تقتنع به بنفسها كلما تقدمت بها تجارب العمر .. على أنه لو صدقت وساوسها فماذا تراها فاعلة؟ ... هل ترضى بهجر بيتها؛ لأن زوجها يلم بغيرها من النساء؟ ... كلا، وألف مرة كلا، لو تخلت امرأة عن مكانها لسبب كهذا لأقفرت البيوت من الفضليات، والرجل قد يطمح طرفه إلى امرأة أو أخرى، ولكنه يعود دائما إلى بيته ما دامت زوجه خليقة بأن تبقى عنده المرجع الأخير والمأوى الثابت، والعاقبة للصابرات. ومضت تذكرها بالمطلقات بلا ذنب واللائي يشركهن في أزواجهن أخريات، أليس طيش زوجها - إن صح - خطبا أخف من سلوك أولئك؟! ثم إنه لم يجاوز الثانية والعشرين من عمره، ومصيره يعقل فيثوب إلى بيته، ويشغل بذريته عن الدنيا جميعا، ومعنى هذا أنه ينبغي لها الصبر، حتى لو صدقت وساوسها فما بالها والوساوس لم تصدق؟! رددت المرأة هذا، وغيره مما يجري مجراه، حتى سلس جماح الفتاة، وآمنت بالصبر، وراضت نفسها عليه. بيد أن واقعة السطح قضت على كل ما وطنت النفس عليه بضربة قاضية، فانهار البنيان جميعا كأن لم يكن.

ومع أن السيد لم يفطن إلى هذه الحقيقة المؤسفة، فظن الفتاة قد امتثلت لنصيحته، إلا أن غضبته كانت أشد من أن تمر بسلام، وقد أحسنت الجارية صنعا بفرارها، أما ياسين فلم يبرح السطح، لبث يفكر منزعجا في العاصفة التي تتربص به، حتى ترامى إلى أذنيه صوت أبيه وهو يناديه بنبرات كفرقعة السياط فدق قلبه، ولكنه لم يجب ولم يستجب، وتسمر يائسا في مكانه، وما يدري إلا والرجل يقتحم عليه السطح، ثم يقف مدمدما لحظات، وهو يتفحص المكان حتى يعثر على شبحه، فيتجه إليه ويقف على كثب منه شابكا ذراعيه على صدره مصوبا نحوه رأسا متصلبا متعجرفا، ملتزما الصمت ومطيله كي يطيل له به العذاب والإرهاب، كأنما أراد بصمته أن يعبر له عما يجد نحوه مما يعيي الألفاظ حمله، أو أنه أراد أن يرمز به إلى ما كان يود أن يؤدبه به من مبرح الركل واللكم، فمنعه منه استواؤه رجلا وزوجا، ثم لم يعد يستطيع مع الصمت صبرا، فانهال عليه سبا وتعنيفا وهو ينتفض غضبا وهياجا: «أنت تتحداني تحت سمعي وبصري! ... فلتذهب أنت وخزيك إلى جهنم ... دنست بيتي يا وغد، هيهات أن يتطهر هذا البيت ما دمت فيه ... كان لك قبل الزواج عذر واه، فأي عذر لك الآن؟!» ... «لو أصاب كلامي حيوانا لأدبه، ولكنه ينصب على حجر .. إن بيتا يضمك خليق بأن تستنزل عليه اللعنات» ... نفس عن صدره المستعر بكلمات كالرصاص المنصهر، وياسين بين يديه ساكن صامت خافض الرأس كأنه يوشك أن يذوب في الظلام، حتى أجهد الرجل الزعق فولاه ظهره وغادر المكان وهو يلعنه ويلعن أباه وأمه، ومضى إلى حجرته يفور بالغضب فورا. في ثورة الغضب رأى زلة ياسين جريمة تستحق الإبادة، وفي ثورة الغضب لم يعد يذكر أن ماضيه كله صورة مطولة متكررة من زلة ياسين، وأنه لا يزال دائبا على سلوكه، وقد انتصف به العقد الخامس وشب أبناؤه، فصار منهم الأزواج والزوجات. لا لأنه في ثورة الغضب ينسى حقا، ولكن لأنه يحل لنفسه ما لا يحل لأحد من ذويه، له أن يفعل ما يشاء، وعليهم التزام الحدود التي يريدهم على أن يلتزموها، فلعل غضبه على ما في ذنب ياسين من «تحد» لإرادته، و«استهانة» بوجوده، و«تشويه» للصورة التي يحب أن يتصوره بها أبناؤه، كان أضعاف غضبه على الذنب نفسه، على أن غضبه - كما هي عادته - لم يستمر طويلا، ما لبث أن خبا لظاه وخمد توقده، فعاوده الهدوء رويدا وإن شاب مظهره - مظهره فقط - الوجوم والأسى، عند ذاك أمكنه أن ينظر إلى «جريمة» ياسين من أكثر من زاوية واحدة، أمكنه أن يتأملها بعقل مستقر، فانجلى له قتامها عن مواضع شتى ساخرة تسلى بها عن وحدته الاضطرارية. أول ما ابتدر ذهنه أن يلتمس للمذنب عذرا، لا حبا في التسامح؛ فإنه يكره التسامح في بيته، ولكن ليتخذ من ذاك العذر المرجى «مبررا» لخروجه عن إرادته، كأنما يقول لنفسه: «إن ابني لم يشق عصا الطاعة ... هيهات، ولكن عذره كيت وكيت» ... ولكن هل يلتمس له العذر عند شبابه باعتباره عهد طيش ونزق؟ ... كلا، إن الشباب عذر عن الذنب، وليس عذرا عن خروجه على إرادته، وإلا لجاز لفهمي بل لكمال أن يتماديا في الاستهانة بتعاليمه، ليلتمس العذر إذن عند رجولته، هذه الرجولة التي تحل له أن يستقل بنفسه عن إرادته، ولو شيئا ما، وتعفيه هو - السيد - من تحمل مسئولية فعاله، كأنما يقول لنفسه: «إنه لم يخرج على إرادتي، هيهات، ولكنه بلغ السن التي لا يعد فيها ذنبه خروجا على إرادتي» ... وغني عن القول أنه يأبى أن يعترف أمامه بهذا الحق، ولن يعفو عنه ولو تجاسر على المطالبة به، بل إنه لا يعترف له به فيما بينه وبين نفسه إلا في حال الوقوع في معصية تستوجب مبررا للخروج على إرادته، ولم ينس حتى في تلك الحال أن يذكر نفسه - التماسا للمزيد من الطمأنينة - بأنه أدبه تأديبا غليظا نادرا قل من يستبيحه من الآباء، فقوبل بخضوع كامل قليل من يتحمله من الأبناء ... وعرج خاطره إلى زينب متفكرا ولكنه لم يجد نحوها أي عطف، لقد واساها إكراما لأبيها العزيز الحبيب، ولكنه لا يظن أن الفتاة جديرة بأبيها حقا. ما كان يخلق بزوجة كريمة أن تفضح زوجها - مهما تكن الظروف - على النحو الذي فضحت به ياسين! ... لشد ما أعولت! ... لشد ما صرخت! ... ماذا كان يصنع هو - السيد - لو أن أمينة فجأته يوما بمثل هذا التصرف؟! ... ولكن أين هي من أمينة؟! ... ثم كيف قصت عليه ما رأت دون حياء! ... أف! ... أف! لو لم تكن هذه الفتاة كريمة محمد عفت لحق لياسين أن يؤدبها، بل لما رضي هو أن تمر هذه الواقعة دون عقاب زاجر، لقد أخطأ ياسين ولكنها أخطأت خطأ أكبر. ثم عاد إلى ياسين سريعا فراح يفكر - بباطن مبتسم - في الطبيعة الواحدة التي تجمع بينهما، تلك الطبيعة الموروثة عن الجد بلا ريب، ومن يدري لعلها تضطرم الآن في صدر فهمي تحت قناع التهذيب والاستقامة، بل ألا يذكر كيف عاد يوما إلى البيت على غير انتظار، فترامى إلى سمعه صوت كمال وهو يغني «يا طير يا للي على الشجر»؟! ... تأخر لحظتذاك وراء الباب - لا ليتظاهر بأنه وصل بعد انتهاء الغناء فحسب - ولكن ليتابع الصوت متذوقا معدنه، سابرا طول نفسه، حتى إذا ما ختم الغلام النغمة صفق الباب بقوة وهو يسعل، ومضى إلى الداخل طاويا صدره على ابتهاج لم يفطن إليه أحد، كم يلذه أن يرى نفسه مترعرعة من جديد في حياة أبنائه على الأقل في ساعات الهدوء والصفاء، ولكن رويدا ... إن لياسين طبيعة خاصة به لا يشركه هو فيها، أو أنه لا تجمع بينهما طبيعة واحدة إذا روعي المعنى الدقيق لهذه الكلمة، ياسين حيوان أعمى ... ينقض مرة على أم حنفي، ويضبط أخرى مع نور، يتمرغ في التراب دون مبالاة، وما هكذا هو! أجل إنه يدرك مقدار الضيق الذي ألم بياسين لاضطراره إلى قضاء الليلة في شبه سجن، يدرك لأنه كابده هو أيضا كئيبا محزونا كمن فقد عزيزا، ولكن هبه كان يتنزه في بستان السطح - كما فعل الفتى - فصادف جارية - ولنفترض أنها تكون ملبية لذوقه - أكان يقدم على المغامرة؟ ... كلا. مؤكد كلا، ولكن أي وازع كان يشكمه؟ ... لعله المكان؟ الأسرة! ولعله العمر الرشيد. آه، لقد تضايق عند ورود الوازع الأخير على ذهنه، وخيل إليه أنه يغبط ياسين على ريق شبابه وجنون زلته معا! ... مهما يكن من أمر فالطبيعتان مختلفتان، لم يكن السيد - كابنه - مغرما بالمرأة بلا قيد ولا شرط، امتازت شهوته دائما بالرفاهية وحداها الانتخاب الرفيع، بل أثرت في ميزاتها ميزات اجتماعية ضمت إلى الميزات الطبيعية المألوفة، كان مغرما بالجمال الأنثوي في لحمه وتبختره وأناقته، فلم تخل جليلة أو زبيدة أو أم مريم وعشرات غيرهن من ميزة أو أكثر من هذه الميزات، وفضلا عن هذا كله فلم يكن مزاجه ليصفو ويطيب إلا بالمنظر البهيج، وبالمجلس الأنيس، وما يتبعهما من شراب وسمر وغناء، فلا يكاد يمضي طويل وقت على عشيقة جديدة حتى تفطن إلى هواه، فتهيئ له ما تهفو إليه نفسه من جو عذب يعبق فيه الورود والبخور والمسك، وكما كان يعشق الجمال مجردا كان يعشقه كذلك في هالاته الاجتماعية اللألاءة. تجذبه المكانة المرموقة والصيت البعيد، ويلذ له أن ينوه خاصته بعشقه ومعشوقاته، إلا فيما ندر من أحوال توجب التستر والكتمان كحال أم مريم، على أن هذا الحب «الاجتماعي» لم يكن ليفرض عليه تضحية بالجمال؛ فالجمال والصيت - في هذا المجال - يسيران جنبا لجنب كالشيء وظله، وغالبا ما يكون الجمال اليد الساحرة التي تشق السبيل إلى الصيت والمكانة المرموقة، وقد عشق أشهر عوالم عصره، فلم تخيب إحداهن نزوعه إلى الجمال وولعه بالحسن. هذا ما جعله يذكر نزوات ياسين بازدراء وهو يردد مستنكرا: «أم حنفي! نور! ... يا له من حيوان.» إنه بريء من هذا الشذوذ، بيد أنه ليس في حاجة إلى أن يتساءل طويلا عن مصدره، فإنه لم ينس بعد ذلك المرأة التي أنجبت ياسين، فأودعته طبيعتها المولعة بالقذارة، إنه مسئول عن قوة شهوته، أما هي فمسئولة عن نوع هذه الشهوة النزاعة إلى الحضيض. وقد عاوده في الصباح التفكير «الجدي» في المسألة، فكاد يدعو الزوجين إليه كي يصفي ما بينهما - وما بينه وبين كليهما - من حساب، ولكن أرجأ ذلك إلى متسع من الوقت أنسب من الصباح، ولما ساءل فهمي ياسين عما دعاه إلى التخلف عن المائدة، أجابه مقتضبا: «شيء تافه سوف أحدثك عنه فيما بعد.» وظل فهمي جاهلا سر غضب أبيه على أخيه، حتى علم باختفاء الجارية نور، فحدس الأمر كله. شهد الصباح الأسرة على غير مألوفها، فقد غادر ياسين البيت مبكرا، ولزمت زينب حجرتها، ثم غادر الرجال البيت واجفين متحاشين أن يرفعوا بصرا صوب الجنود، والأم من وراء خصاص المشربية تدعو الله أن يقيهم من كل سوء. ولم تشأ أمينة أن تقحم نفسها في «واقعة» السطح، فنزلت إلى حجرة الفرن وانتظرت بين حين وآخر أن تلحق بها زينب كالعادة. لم تكن تقرها على غضبتها لكرامتها، فعدتها تدليلا أثار استياءها، وجعلت تتساءل: «كيف تدعي لنفسها من الحقوق ما لم تدعه امرأة قط؟»

لا ريب أن ياسين قد أخطأ، فدنس البيت الطاهر، ولكنه أخطأ في حق أبيه وحرمته لا في حقها هي ... ألست ملاكا بالقياس إلى هذه الفتاة؟! ... ولكن لما طال بها الانتظار لم تعد تستطيع تجاهلها، وأقنعت نفسها بوجوب الذهاب إليها مواسية، فصعدت إلى شقتها ونادتها، ثم دخلت الحجرة فلم تعثر لها على أثر، ومضت من حجرة إلى حجرة وهي تنادي حتى فتشت البيت ركنا ركنا، ثم ضربت كفا بكف وهي تقول: «رباه ... هل ارتضت زينب أن تهجر بيتها؟!»

59

لم تنج أمينة سحابة النهار من قلق، فإن احتمال تعرض الجنود لأحد من رجالها في ذهابه أو إيابه لم يكد يفارق رأسها. وكان فهمي أول العائدين، فتخففت لدى رؤيته من بعض آثار قلقها، ولكنها رأته متجهما، فسألته: ماذا بك يا بني؟

فهتف فهمي متأففا: أكره أن أرى هؤلاء الجنود.

فقالت المرأة بإشفاق: لا تبد لهم الكراهية، إن كنت تحبني لا تفعل.

ولكنه لم يفعل بغير استعطافها، لم يتجاسر على أن يتحداهم ولو بالنظر وهو يتلمس سبيله تحت رحمتهم، تحاشى أن ينحرف بصره إلى أحدهم، ومضى إلى البيت متسائلا في سخرية عما كانوا يفعلونه لو أنهم علموا بأنه راجع من مظاهرة اشتبكت مع جنودهم في شبه معركة، أو أنه وزع في مطلع اليوم عشرات المنشورات التي تحرض على قتالهم. جلس يستعرض ما لاقاه في يومه مستحضرا أقله كما وقع، وأكثره كما كان يتمنى أن يكون. هكذا كان رأيه أن يعمل نهارا، وأن يحلم مساء. تحدوه في الحالين أسمى العواطف وأفظعها، حب قومه من ناحية والرغبة في التقتيل والإبادة من ناحية أخرى، أحلام يسكر بها وقتا يطول أو يقصر، ثم يفيق منها على حسرة لاستحالتها وفتور لسخافة تصوراتها، أحلام تنسج لحمتها وسداها من معارك يتقدم صفوفها كجان دارك، واستيلاء على سلاح العدو، ثم الهجوم عليه، هزيمة الإنجليز، خطبة خالدة في ميدان الأوبرا، اضطرار الإنجليز إلى إعلان استقلال مصر، عودة سعد من المنفى ظافرا، لقاء بينه وبين الزعيم وكلمة الزعيم، مريم بين شهود الافتتاح التاريخي. أجل كانت أحلامه تتوج دائما بصورة مريم رغم انزوائها - طوال تلك الأيام - في ركن قصي من قلبه الذي شغلته الشواغل كما ينزوي القمر وراء السحب إبان العاصفة. وما يدري إلا وأمه تقول له وهي تشد المنديل حول رأسها في ارتباك: ذهبت زينب إلى بيت أبيها غضبانة.

آه ... كاد ينسى ما ألم بأخيه وأسرته في الصباح، الآن تأكد إليه ما حدسه حين علم باختفاء الجارية نور، وتحاشى عيني أمه حياء أن تقرأ ما يدور بخلده، خصوصا وأنه أيقن باطلاعها على جلية الأمر، ولم يستبعد أن تفطن إلى إدراكه له، أو في الأقل أن ترجحه، فلم يدر ما يقول لا سيما أنه لم يعتد في محادثتها أن يبدي خلاف ما يبطن، ولم يكن أبغض لديه من أن يقوم المكر مقام الصراحة بينهما، فقنع بأن يتمتم قائلا: ربنا يصلح الحال.

Halaman tidak diketahui