فقطب ياسين ليركز فكره في المسألة، ولكنه وجد نفسه في حال الجمع بين الأضداد أروح لها من التوفيق بينها، فقال مدفوعا بالإعجاب وحده: ليس ثمة مشكلة على الإطلاق، عقلك الرعديد وحده الذي يخلق المشكلة من العدم، أبي حازم ومؤمن ويحب النسوان، شيء بسيط واضح 1 + 1 = 2، ولعلي أشبه الناس به على وجه التقريب؛ لأني مؤمن وأحب النسوان وإن قل نصيبي من الحزم، أنت نفسك مؤمن وحازم وتحب النسوان، ولكن بينا تحقق إيمانك وحزمك إذا بك تنكص عن الثالثة (ثم ضاحكا) والثالثة هي الثابتة!
لعله نسي عند آخر كلامه باعث الإعجاب الذي دفعه إلى الاسترسال فيه، فجاء قوله دفاعا عن أبيه في الظاهر فقط، أما في الحقيقة فلم يكن إلا تعبيرا عن شعور وهاج هاج به دمه المخمور، عن شهوة جامحة ركبته عقب اختفاء الرقباء الذين يحذرهم، شهوة أثارها خيال مكهرب بالشراب، فرغب جسده في الحب رغبة جنونية عجزت إرادته عن شكمها أو ملاطفتها، ولكن أين يجد مطلبه؟ هل يتسع له الوقت؟! ... زنوبة؟! ... ماذا يحول بينه وبينها؟! ... طريق قصير، ضجعة قصيرة، ثم يعود فينام نوما عميقا هادئا، هش للأخيلة المغرية هشاشة شخص لا عقل له يراجعه، فاندفع إلى تحقيقها بلا تردد، وما لبث أن قال لأخيه: الجو حار، سأصعد إلى السطح لأتنسم هواء الليل الرطيب.
وغادر الحجرة إلى الدهليز الخارجي، ومضى يهبط متلمسا طريقه في ظلمة غاشية، محاذرا غاية الحذر أن يند عنه صوت. ترى كيف يستطيع الوصول إلى زنوبة في هذه الساعة من الليل؟ هل يطرق الباب؟ ومن عسى أن يجيء لفتحه؟ وبم يجيبه إذا سأله عن مقصده؟ وإذا لم يستيقظ أحد لفتح الباب؟ أو إذا جاء الخفير ليراقبه بتطفله المعروف؟ عامت هذه الخواطر على سطح مخه كالفقاقيع، ثم انداحت غارقة في تيار الخمر الجارف فلم يتجهم لها كعوائق ينبغي تقدير عواقبها، ولكنه ابتسم لها كدعابات مما قد يؤنس وحشة مغامرته، ثم جاوزها خياله طائرا إلى حجرة زنوبة المطلة على مفرق الغورية والصنادقية، فتخيلها في قميص النوم الأبيض الشفاف، الذي يتقوس مطاوعا فوق النهدين وحول الردفين، وتنحسر حاشيته عن ساقين مدملجتين خمريتين، فجن جنونه وود لو يثب فوق الدرجات لولا الظلمة الغاشية. خرج - بخروجه إلى الفناء - إلى ظلمة أخف قليلا بما نفضته النجوم عليها من أضواء خافتة، بيد أنها بدت لعينيه اللتين كابدتا ظلمة السلم طويلا نورا أو كالنور. وعند خطا خطوتين متجها إلى الباب الخارجي في آخر الفناء جذب عينيه نور ضئيل ينبعث من سراج على وضم أمام حجرة الفرن، فألقى عليه نظرة لا تخلو من استغراب حتى عثر قريبا منه على جسم منطرح على الأرض فتنوره على ضوء السراج، فعرف أم حنفي التي بدت وكأنها استحبت النوم في الهواء الطلق فرارا من جو حجرة الفرن الخانق. وهم بمواصلة السير ولكن ثمة شيء استوقفه، فعطف رأسه مرة أخرى صوب النائمة، فأمكنه أن يتبينها من موقفه، الذي لم يفصله عنها إلا بضعة أمتار، بوضوح غير منتظر، رآها مستلقية على ظهرها ثانية ساقها اليمنى التي رسمت في الهواء بحافة الجلباب الملتصقة بالركبة هرما قائما، وكشفت في نفس الوقت عن فخذها اليسرى التي لاحت عارية فيما يلي الركبة، ثم غرقت في ظلمة الفرجة التي انحسر عنها الجلباب بين الساق القائمة والأخرى الممدودة، ومع أن إحساسه بضيق الوقت ووجوب البدار إلى غايته لم يهن، إلا أنه لم يسترد بصره عن الجسم الملقى غير بعيد منه، أو لعله لم يستطع استرداده وانساق وهو لا يدري إلى تفرسه بإمعان بدا في يقظة عينيه المحمرتين، وانفراج شفتيه الممتلئتين، فاستحالت يقظة العين - وهي تتفحص الجسم اللحيم الذي شغل فراغا كبيرا كأنه جاموسة مسمنة - رغبة مريبة، حتى استقر البصر على الفرجة المعتمة ما بين الساق القائمة والساق الممدودة، ثم تحول التيار المضطرم في شرايينه من التطلع صوب باب الخروج إلى حجرة الفرن، وكأنه يكتشف لأول مرة المرأة التي خالطها أعواما طويلة بغير مبالاة. على أن أم حنفي لم تحظ بسمة واحدة من سمات الحسن، وبدا وجهها الجهم أكبر من سنها الحقيقية التي لم تكد تجاوز الأربعين، حتى اكتنازها باللحم والدهن كان - لتنافره وسوء تنسيقه - بالانتفاخ الغليظ أشبه؛ ولذلك وربما أيضا لطول انزوائها في حجرة الفرن، وقديم معاشرته لها التي بدأت مع صباه، لم يلتفت إليها قط. بيد أنه كان وقتذاك على حال من الهيجان فقد معها أية قدرة على التمييز فأعمته الشهوة، وأي شهوة؟ شهوة مولعة بالمرأة لذاتها لا لمعانيها ولا لألوانها، تعشق الحسن ولا تعزف عن القبح، والكل عندها في «الأزمات» سواء كالكلب يلتهم بلا تردد ما يصادفه في القمامة، عند ذاك بدت له مغامرته الأولى - زنوبة - محفوفة بالمتاعب مجهولة بالعواقب، ولم يعد «الوصول إليها في هذه الساعة من الليل، وطرق الباب، وما يقول لفاتحه والخفير» دعابات يبسم لها، ولكن عوائق حقا يجدر به أن يتفادى منها. تقدم في خفة وحذر فاغرا فاه، ذاهلا عن كل شيء إلا قنطار اللحم المنطرح عند قدميه الذي بدا لعينيه النهمتين وكأنه أخذ أهبته لاستقباله، حتى توقف بين الساق القائمة والأخرى الممدودة، ثم انحنى عليها قليلا قليلا بلا وعي تقريبا، وبإغراء شديد من الداخل والخارج معا، وما يدري إلا وهو ينبطح فوقها . لعله لم يتعمد الذهاب إلى هذا الحد دفعة واحدة، ولعله هم بشيء من التمهيد كان لا ينبغي أن يسبق الحركة العنيفة الأخيرة، ولكن الجسم الذي انبطح عليه اضطرب اضطرابة فزع شديدة، وندت عنه صرخة مدوية - سبقت يده التي رامت كتمها - فمزقت السكون الشامل ولطمت مخه لطمة قوية ردت إليه وعيه، فأطبق راحته على فمها، وهو يهمس في أذنها بقلق وخوف بالغين: أنا ياسين، أنا ياسين يا أم حنفي، لا تخافي.
وطفق يكرر قوله حتى اطمأن إلى وعيها إياه فاسترد راحته، ولكن المرأة - التي لم تمسك عن المقاومة قط - تمكنت أخيرا من تنحيته عنها، فاستوت جالسة وهي تلهث من الجهد والانفعال، ثم سألته بصوت أزعجه أيما إزعاج: ماذا تريد يا سي ياسين؟
فقال لها بلهجة هامسة ملؤها الرجاء: لا ترفعي صوتك هكذا، قلت لك لا تخافي، ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف بتاتا.
فعادت تسأله بجفاء وإن خفضت من صوتها قليلا: ماذا جاء بك؟
فجعل يربت على يدها متوددا وهو يتنهد في شبه ارتياح لم يخل من عصبية كأنما رأى في خفضها لصوتها أمارة مشجعة وقال لها: ماذا أغضبك؟ لم أرد بك سوءا (مبتسما ابتسامة وشت بها نبراته) هلمي إلى حجرة الفرن.
فقالت المرأة بصوت مضطرب، ولكنه ذو دلالة حازمة: كلا يا سيدي، اذهب إلى حجرتك، اذهب، الله يلعن الشيطان.
لم تزن أم حنفي كلماتها بميزان، ولكنها ندت عنها كما اقتضى الحال. لعلها لم تعبر أصدق التعبير عن رغباتها، ولكنها عبرت تماما وبغير شعور منها عن شدة المفاجأة، مفاجأة لم تسبق يوما بتمهيد من أي نوع كان، التي انقضت عليها في نومها كما تنقض الحدأة على الفرخ، فصدت الشاب وزجرته بلا أدنى تفكير حقيقي في الصد أو الزجر، بيد أنه أساء فهمها فامتلأ حنقا وثارت برأسه الخواطر ... «ما العمل مع بنت الكلب هذه! لا يمكن أن أتراجع بعد أن كشفت نفسي، وتماديت إلى حد الفضيحة، لا بد مما أريد ولو لجأت إلى القوة.» وفكر بعجلة في أنجع وسيلة للتغلب على ما تراءى له من مقاومة، ولكنه - قبل أن يتخذ قرارا - سمع حركة غريبة، لعلها أقدام، آتية من باب السلم، فوثب قائما وهو من الفزع في نهايته، مزدردا شهوته كما يزدرد اللص فص الماس المسروق إذا بوغت في مكمنه، واستدار صوب الباب ليعاين ما هنالك، فرأى والده وهو يجتاز العتبة مادا ذراعه بالمصباح. تسمر في مكانه مختطف الدم مستسلما ذاهلا يائسا. أدرك من توه أن صرخة أم حنفي لم تضع هباء، وأن النافذة الخلفية لحجرة الأب كانت له بالمرصاد، ولكن ما جدوى الإدراك المتأخر؟ ... لقد وقع في فخ القضاء والقدر. وجعل السيد يتفرس في وجهه بقسوة صامتا، مطيلا الصمت، وهو ينتفض غضبا، ودون أن يحول عنه عينيه القاسيتين أشار بيده إلى الباب يأمره بالدخول، ومع أن الاختفاء كان أحب إليه في تلك اللحظة من الحياة نفسها، إلا أنه من الخوف والارتباك لم يستطع أن يحرك ساكنا، فضاق صدر الأب ولاحت في عبوسته بوادر الانفجار، ثم زمجر صائحا وعيناه - اللتان انعكس عليهما ضوء المصباح المرتعش بارتعاش اليد القابضة عليه - ترسلان شررا: اطلع يا مجرم يا بن الكلب.
فما ازداد إلا استمساكا بجموده حتى هجم عليه السيد، فقبض على ذراعه بيمناه وشد عليها بغلظة، ثم جذبه بشدة نحو الباب، فاندفع بقوة الجذبة الخارقة، فكاد يقع على وجهه، وتمالك توازنه وهو يلتفت وراءه فزعا، وفر بنفسه وثبا لا يبالي ظلمة.
Halaman tidak diketahui