وكان اليوم التالي يوم سبت فقصدت بيت فركنباك نحو الساعة الرابعة، ولما دخلت أعلمها الخادم بقدومي، فخرجت لملاقاتي وهي تتيه عجبا، فشممت منها رائحة طيب ممزوجة برائحة الزهور التي كانت على صدرها وشعرها، وكان عندها امرأتان من نساء الأعيان؛ إحداهما شابة صغيرة السن شقراء، بديعة بالجمال، جالسة على كرسي من الخيزران، والأخرى كبيرة ذات شعر مبيض وصحة تامة، فعرفتني إياهما، ثم التفتت إلي وقالت همسا: سأنفرد لك، وقالت لهما: إن المسيو مكسيم جوشران من أحد كتبتنا، ومع أن له زمنا يسيرا عندنا، فقد برع في العمل، والبارون مسرور منه جدا، فقالت لي الصغيرة: أهنئك بهذا النجاح، وأتمنى أن يدوم رضى البارون عليك، فشكرتها على تلطفها.
إن المركيزة دي سيمين وهي الصغيرة، كانت أحب الصديقات إلى البارونة ريتا، وكانت مثلها عاقرا لا تحبل ولا تلد، وهذا هو السبب الذي جعل البارونة تحبها، وتجتمع بها في أكثر الأحيان؛ لأن حالتهما كانت واحدة من حيث الاحتياج إلى الملاهي والمسرات، والفرق بينهما أن المركيزة كانت تحب اللهو، فلا تضيع نزهة ولا فرصة سرور بخلاف البارونة ريتا؛ فإنها كانت أميل إلى العزلة والسكينة، فقالت المركيزة للبارونة: إن حياة المرأة في الدنيا عناء، يلعب بها القدر، وتعبث بها ألوف من الأمور الجائرة، فإذا هي لم ترد لتتسلى برؤية الناس والمناظر الجميلة والملاهي تخسر وجدانها الثمين، وملاهي المرأة كثيرة من بعضها التحلي، والتحسن، وسماع الموسيقى، والأصوات الشجية ... - أتعرف الموسيقى يا مكسيم؟ - كنت أضرب الكمنجة في صغري، والآن أظن أني نسيت. - إذن راجع ما نسيته، وأنا أدلك على المسيو ليكرم الموسيقي الشهير، فإنك تسمع منه ألحانا عجيبة.
ثم همت الكبيرة بالذهاب فودعناها وعدنا، فنظرت البارونة من النافذة وقالت للمركيزة: آه ما أجمل السماء! أظنك تذهبين إليها عن قريب دون أن تمري على المطهر، فضحكت المركيزة ضحكة كبيرة وأجابت من فورها: حيث أجتمع بك تحت أقدام أمور «إله الغرام»، ثم همت بالذهاب أيضا وقبل أن تخرج قالت: إنك جميل رقيق الحديث، فيجب أن تزورني في كل ثلاثاء وهو يوم موعد مقابلاتي، وإن أنت لم تأت آمر بقتلك.
وبعد انصراف المركيزة أخرجت كتاب عمي وقرأته عليها فاضطربت، وتغيرت ملامح وجهها، وجعلت تنظر إلي كأنها تستطلع ما إذا كانت نصائح عمي غيرت أفكاري وصرفتني عن حبها، وإذ لم تر على وجهي دليلا لذلك، اقتربت مني وقالت همسا: سأذهب غدا إلى كنيسة القديس اغوسطينوس فلاقني إلى هناك فودعتها، وذهبت مستغربا أفكر في كيف أن امرأة مثل البارونة معروفة في باريس بجمالها وذكائها ولباقتها، تضرب لي موعدا لم أطلبه منها؟ مع أني مستجد في خدمة زوجها، وملزم أن أعتبرها وأجلها ... وما معنى ذلك الموعد؟ وما المقصود منه؟ ... على أنه أحدث عندي روح الكبرياء والتغطرس، وأوهمني أني شيء عظيم في الدنيا.
وعندما استلقيت على فراش النوم أخذت تتجاذبني الأفكار، وتقلبني الأوهام، فأسمع تارة أقوال عمي، وتارة أنظر الأخطار التي تنجم عن حب هذه المرأة ... وطورا أنظرها تبتسم لي، وتقبل فمي بحب وشوق، فأنسى كل شيء، وبينا أنا أخاف على مصلحتي أن تفقد مني، وعلى كرامتي أن تشان، كنت أشعر بميل عظيم لحب تلك المرأة وضمها إلى صدري، وأقول: إن جميع الأخطار هينة بجانب وصلها، ثم أرجع فأذكر قول من قال: «إن أول الحب ميل، وثانيه هيام، وثالثه قتل» ... ثم قلت: لا بد أن الوصل يضعف قوة الحب، ولكن قد قال العلماء: إن الهواء يطفئ النار إذا كانت خادمة، أما إذا كانت مشبوبة قوية فإنه يصليها.
ورأيت في الليل حلما أني بين شياطين كثيرة، هذا يحاول قص لساني، وذاك يضغط علي، وآخرون يقفزون من فوقي، ورأيت بين أولئك الشياطين امرأة مجردة من ثيابها، ذات جمال بديع، مفتوحة اليدين تدعوني إليها، ثم استيقظت فلم أر أحدا.
ولما قربت ساعة الميعاد جعلت أفرق بين الأخطار المحدقة بي، وبين السعادة المهيأة لي، وبينما كنت كذلك ذكرت الشعر الذي يقول فيه هوراس: إن الحكيم ينتفع من كل شيء بحكمته، وحكمت أن ذهابي إلى الكنيسة واجب، وفتحت شباك غرفتي فرأيت السماء ملأى بالغيوم الكثيفة، ومدامعها تنهال طورا طلا وطورا وبلا، والأسواق سائلة بالمياه والحوانيت مقفلة، والناس مختبئون إلا نفرا مشمري الذيول في أيديهم المظال يمشون مسرعين، ورأيت الحدائق خالية يسقيها الله من فيضه العميم، فظننت أنه يكون لي عذر إذا لم أذهب في مثل هذا الوقت، وقلت من المحتمل أن تكون البارونة قد عادت إلى بيتها؛ لعدم صفاء النهار، فإذا ذهبت أكون حللت هذه المشكلة على طريقة مستحسنة.
فركبت عربة من العربات المقفلة وسرت إلى الكنيسة، وقبل أن أصل إليها أمرت السائق بالوقوف فوقف، فذهبت ماشيا، ولما دخلتها كانت النجوم الذهبية التي تضيء أمام الهيكل تنطفئ واحدة بعد واحدة، والكهنة ينصرفون بالتتابع تاركين الكنيسة كمغارة مهيبة، بل كقبر مخيف، فتقدمت قليلا وإذا بها على بعد عشر خطوات راكعة تتأمل، ولما رأتني أتت إلي وقالت بثغر باسم وهي تكاد تقبلني في الكنيسة: هل معك عربة؟ قلت: نعم، فقالت: إذن اسبقني فأتبعك للحال، كل ذلك كان بوقت وبشكل غريبين، بحيث لم يلحظ أحد ما كان منا، فقالت للسائق سر بنا إلى حديقة منسو، ثم إلى كورسيل، ومنه إلى شارع قبة النصر، ثم جلست إلى جانبي وأحنت رأسها أمامي مثل جلستها في الكنيسة وانحنائها رأسها، وكان العطر يفوح من ثيابها، وفمها، وشعرها، فرفعت الخمار عن وجهها، وبينا كنت أفكر في حديث أفاتحها به، افتتحت الحديث بشجاعة وقالت: الآن أنا آمنة من أن لا أرى وأن لا تسمعني جدران بيتي ونوافذه، فتفهم هاتين الكلمتين، لا بد أنك استغربت كيف أني استقبلتك منذ يوم معرفتي بك، كمن عرفتك من زمن بعيد، وكيف أني لاطفتك وأظهرت لك التودد والميل، كمن اختبرتك وعرفت أنك تقدرها قدرها فلأي شيء تنسب تلك الجاذبية التي جعلتك تمتلك قلبي؟ وجعلتني أكبر حبك؟ ... هذا لغز أترك لك حله يا حبيبي، قد استوليت على قلبي وقيدته بهواك، ولأول مرة رأيتك شعرت بشيء لم أشعر بمثله قبل، وحدثتني نفسي بأنك أنت الحبيب المنتظر.
ثم ألقت رأسها إلى ذراعي وأمسكت يدي، فاستنشقت أنفاس فمها العطرة، وقرأت في عينيها شوقا عظيما لتقبيلي، وشعرت بمثل هذا الشوق لتقبيلها، فهاجني الغرام، وأقامني وأقعدني وحبذا لو أغمي علي؛ لكنت تخلصت من تنازع الخوف والهوى، ولكن سلطان الهوى تغلب على سلطان الخطر فقلت: إذ قد حصل لي الشرف بأن أستحق حبك وهواك، فاسمحي لي أن أثني عليك، وبما أن الغرام هكذا اقتضى فإني أسلم إليه قياد نفسي، وهنا ذكرت نصائح عمي، فتوقفت بغتة، وقلت لها من فوري: ولكن يا سيدتي أنت أرفع منزلة من هذا الغرام، وأرقى عقلا من اتباع هذا الهوى ويجب علي أن أحترمك لا أن أحبك، ثم ماذا يكون من الحب يا ترى غير عذاب وغيرة وإهمال للواجبات؟ فأرى أن نتجنب هذه الأضحوكة السيئة العواقب ونهرب منها، فذلك أشرف لنا وأبقى.
فلما سمعت هذا الكلام نفرت مني وبرد جسمها وقالت لي: قل للسائق أن يعود إلى شارع جبرائيل، ولما بلغناه هممت أن أعينها على النزول، فأبت وابتعدت عني قائلة: كفاك تتعب لأجلي ...؟ ما أقسى قلبك وما أجبن أرباب العقول! قالت هذا بغضب ومضت.
Halaman tidak diketahui