وفي الصباح لم أذهب إلى المكتب. أبلغتهم أني مريض وطلبت إجازة يوما ورقدت في الفراش أدخن وأفكر وأتحسر.
في الحقيقة كنت أحس فعلا بأعراض مرض لا يمت إلى الأمراض الجسمية أو النفسية، مرض ثالث يصيب أفكارنا ونحس معه أن أجسامنا صحيحة حقيقة، وكذلك حالتنا النفسية، ولكن عقولنا لا تعمل كما يجب، بل لا تريد أن تعمل بالمرة، ولا تستطيع حتى أن تنجز الأعمال الروتينية.
كنت ممددا أشعل السيجارة من السيجارة أكاد لا أصدق أن سانتي التي كانت هنا بالأمس أقرب ما تكون إلي، قد أصبحت الآن أبعد ما تكون عني.
ودق الباب.
وقمت وفتحت، كان شوقي.
وقلت لنفسي: لا بد أنها ذهبت وقصت عليه كل شيء.
وحتى هذا الاحتمال الخطير لم يستطع أن يحرك عقلي الهامد الخامد؛ فقد تصورته وأنا فاقد الحماس، ولم أجد لدي الرغبة حتى في إطالة تصوره.
غير أني وإن كنت لم أتحمس للخاطر، إلا أني تحمست لقدوم شوقي؛ فقد سرني أنه ظل يحتفظ بالعنوان الذي أعطيته له، وأنه جاء، وجاء في اللحظة التي كنت قد بدأت أحتاج فيها لصديق لمجرد وجود صديق، وصداقتي لشوقي كانت متينة عميقة الجذور، أعمق من كل رباط فكري أو ثوري جمعنا حتى إنها - أي تلك الصداقة - كانت تعتبر تهمة وانحرافا في نظر جماعة تحرير المستعمرات. أيام الإضرابات التي كنا نقلب فيها الأوتوبيسات وعربات الترام ونحرقها أمام كلية الطب، خطر لي مرة أن أدخن سيجارة تاريخية وذلك بأن أشعلها من أوتوبيس كنا قد انتهينا لتونا من إحراقه، ورغم صراخ الطلبة وتحذيرهم بأن العربة ستنفجر فقد ذهبت وأشعلت السيجارة، وحين عدت وقد حققت أمنيتي وجدت طالبا واقفا عند باب الكلية قد أخرج من جيبه سيجارة «فرط»، وذهب هو الآخر وأشعلها من العربة، وأعجبني منه أن نفس النزوة انتابته ولم يتردد في تنفيذها، وتعارفنا وتحادثنا ووقفنا ندخن.
ومن يومها صرنا أصدقاء برغم أنه كان في كلية الهندسة وكنت أنا في الطب، وصداقة غريبة تلك التي جمعتنا؛ فقد كنا لا نلتقي إلا بمظاهرة أو بإضراب أو في مؤتمر، وما لبثنا أن اكتشفنا ميلنا نحن الاثنين إلى الصحافة، بل دفعنا هذا الميل لأن نشتغل ونحن طلبة في جريدة «النداء» ثم نتركها وقد أدركنا أن المجال الحقيقي لطاقتنا هو الكتابة والأدب والفن، ومنذ أيامها لم نفترق، انضممنا لجماعة تحرير المستعمرات معا، ودخلنا معتقل 48 معا، وعملنا في القنال معا، وتخرجنا في سنوات متقاربة وضمتنا المجلة بعد التخرج.
دخل شوقي من الباب، ولم يكن يبتسم حين يجيء ولا يهش لك إذا قابلك، ولكنك أنت الذي كنت دائما تبتسم له إذا جاء، وتهش له إذا قابلك، ومهما تكن حالتك كنت تحب أن تراه، إذا كنت في مأساة أردته، وإذا كنت في فرح يسعدك أن يشاركك.
Halaman tidak diketahui