ونزور الأجزجي، ونسلم على الحانوتي، ونشرب قهوة عند المعلم «سمبو» صاحب القهوة المقابلة، وأجد نفسي فجأة قد بدأت أحيا - بفتح العيادة - وسط مجموعة كبيرة حافلة من الناس لا أعرفهم ولا خبرة لي في معاملتهم أو استجلاب رضائهم، وعنتر لا يصلح أبدا كدليل ألجأ إليه عند الحاجة؛ فلم يكن يستطيع أن ينفي شيئا أو يؤكد شيئا له، أقول له: أمين صندوق النقابة حرامي. فيقول: أيوه، ما فيش مانع، دا طول عمره بيسرق، بس ما بيسرقشي كتير، دا حتى باينه ما بيسرقشي خالص.
وكنت أحيانا أضيق بعنتر وملازمته الدائمة لي وملحقه كيرلس أو عبلة هذا. الزبائن كان هو الذي يجلبهم، وهو الذي يقابلهم ويوصي عليهم، والبيت ملكه وصاحب الأجزخانة صديقه، وحتى التومرجي هو الذي أحضره واتفق معه، وهو الذي يتولى محاسبته ومراقبته. كنت أضيق به في تلك اللحظات التي أتلفت فيها فأجد نفسي في عيادتي وأدرك أنها عيادتي، وأنني أعالج فيها وأشفي وأحقق بها حلما قديما صاحبني منذ دخلت كلية الطب، ويملؤني الإدراك بفرحة كفرحة الطفل حين ينفرد أخيرا بلعبة محببة خاصة. ساعتها أبدأ التفكير في المشاريع للعيادة، وأحلم بمستشفى كبير وحجرة عمليات ضخمة، واكتشاف علاج ناجح للسرطان، والحصول على جائزة نوبل.
ولا أستطيع أن أضع حدا فاصلا لما حدث. فجأة بدأت أحس أني لم أعد شديد الحماس للعيادة ومشاكلها ومشاريعي لها، ولم تعد لمواعيدها تلك القدسية التي أخاف أن أخدشها، وليست العيادة فقط، المجلة هي الأخرى ندر ذهابي إليها، حتى إن شوقي اضطر أن يسحب مني باب بريد القراء ويعهد به إلى فتحي سالم، ولم أغضب أو أنفعل، ولو حدث هذا في أي وقت آخر لثرت ثورة عارمة. وعملي في الورشة أصبحت أزاوله بغثيان، والدراسات العليا التي التحقت بها، وهواية الكرة، وزيارات أهلي وأصدقائي بدأت أحس أن كل شيء آخر في حياتي أصبح مجرد مضايقة لا غنى عنها، ومشاكل علي أن أتخلص منها لأتفرغ لسانتي.
لا أستطيع أن أضع حدا فاصلا لما حدث؛ فقد وجدت نفسي ذات يوم أعدي كوبري أبو العلا وأجوب الشوارع الواقعة في الزمالك بحثا عن شقة أو حجرة أو أي مكان في ذلك الحي الهادئ المهيب يصلح سكنا لي.
ولم أختر الزمالك لأسباب تتعلق بالأرستقراطية والرغبة في السكن في حي راق، اخترتها لأني كنت قد وصلت إلى درجة أصبح فيها الهدوء بالنسبة لي هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحول بيني وبين الجنون.
وأقرب مكان هادئ لعملي في بولاق كان الزمالك، وراعيت أن أبحث في الشوارع الضيقة والبيوت المحتملة الإيجار. وعدت من بحثي أول يوم وأنا يائس تماما من العثور على بغيتي؛ فمرتبي كان بالضبط ستة وعشرين جنيها، وأقل شقة رأيتها كانت بمبلغ وقدره.
ولاحظ عنتر وجومي في ذلك اليوم، وحين أخبرته بالمشكلة قال: ولا تزعل، بكرة نسكنك في الزمالك.
وانطلق من فوره يتبعه عبلة.
ولم تكد تمضي بضع ساعات حتى كنت أوقع العقد مع وكيل صاحب البيت، ولولا هذا ما صدقت عنتر أبدا حين جاءني ليلتها وقال: خلاص لقينا الطلب.
وتبدت لي بذلك خاصية أخرى لم أكن أعرفها عن عنتر؛ فقد كان يعرف عددا هائلا من الناس موزعين في جميع أنحاء القاهرة وحتى في الأقاليم، الواحد منهم تجده عاملا في الترسانة مثلا وله ورشة صغيرة يعمل فيها بعد الظهر، أو تجده صاحب محل عجلات ويتاجر في العربات المستعملة، أو «كيسير» في مخزن أدوية وسمسار عقارات. أفراد متناثرون في كل حي وشارع، ولكنهم يكونون مجتمعا متعاونا شعاره: نفعني وأنفعك، ويعرفون بعضهم بالاسم والعنوان. وأطلب من أحدهم أي شيء يحضره لك في الحال، أو إن لم يستطع فعلى الأقل يدلك على من يحضره.
Halaman tidak diketahui