دخلت وجلست على مكتبي. كان في حجرة جانبية قريبة من الباب، ووجدت عليه ورقة فيها بقايا طعمية، لا ريب أن عبده اختار مكتبي ليشرفه بتناول العشاء عليه. عبده فراش المجلة وساعيها ومقرض محرريها والمدعي العام بالسياسة وبواطن الأمور ... ما لبث أن ظهر وفوجئ بوجودي حتى لقد وقف مذهولا في مكانه برهة، ثم انفجر يحييني: أهلا وسهلا يا دكتور، أنت فين؟ داحنا فاكرينك عيان. حمد الله على السلامة.
ولحظتها فقط أدركت أني فعلا لم أتردد على المجلة منذ زمن خيل إلي أنه عام، وإن كان لم يتعد أياما ثلاثة أو أربعة. وفي الحال أيضا راودني سبب لهفتي على المجيء في ذلك المساء، النداء الغامض الذي يهيب بي دائما أن أترك أي شيء وأهب نفسي للمجلة، الإحساس الملح بأني مقصر دائما في حقها علي، كالمدين الذي تنهش صدره ذكرى ديون.
وسألت عبده عن الزملاء وأين ذهبوا، فأخبرني أن أحدا لم يحضر ذلك المساء، حتى ولا في أثناء النهار. - الأستاذ أحمد شوقي بس هو اللي جه الصبح شوية وبعدين نزل.
فتحت أدراج المكتب واستخرجت الأوراق والمواد استعدادا لبدء العمل. كان هناك مقال بدأت في كتابته ولم أتمه، ومضيت أقرؤه ، وغريب هذا! خيل إلي أن شخصا غيري هو الذي كتبه؛ فقد أحسست أني غريب على كلمات المقال وموضوعه، وكأني أشترك في مظاهرة صاخبة ثم بعدت عنها فجأة، وأصبح لدوي أصواتها من بعيد وقع غريب على نفسي. شيئا فشيئا بدأ الإحساس بالمسئولية والعمل ينمل في جسدي ويعود للحياة. شيئا فشيئا بدأت أحس أني خلال الأسبوعين الماضيين كنت أحيا في حلم طويل استغرق أياما كثيرة، حلم كنت أعيش فيه مع سانتي بلا عمل ولا مسئولية، أو على وجه أدق أعيش فيه وراء ظهر العمل والمسئولية.
وبدأت أكتب.
وجدت المحاولة صعبة، ووجدتني أسطر كلمات لا حياة فيها. وبدأت أشطب وأعيد الكتابة وأكاد أبكي وأنا أوقن أن علاقتي بسانتي قد استغرقت اهتمامي كله، وأني وهبتها كل نفسي، وأني يجب علي أن أعود مرة أخرى ذلك الشاب المخلص المشتعل حماسة الذي لا يشغل تفكيره إلا الدين الذي في عنقه تجاه شعبه وقضيته.
وبدأت أنفعل وأكتب، وصورة سانتي في نفسي تبتعد وتبتعد. أبعدها بإرادتي وكأني ساخط عليها وعلى نفسي وعلى تلك الأيام الطويلة التي قضيتها عبثا، قضيتها واقفا في طريق جانبي ضيق لا يسع إلا عواطفي وأحلامي.
ولو كان هذا هو الذي حدث بالضبط لسار كل شيء كما أردت، ولكني طوال انفعالي وغضبي وسخطي كان هناك، وفي ركن ما من نفسي، شيء أكاد ألمحه وأراه، عينان صغيرتان متقاربتان لامعتان ساخرتان تؤكدان لي أني أضحك على نفسي وأني أفتعل ثورتي عليها، وأن سانتي لم تبتعد من خيالي ولا حدث لها شيء، إنها موجودة وستظل موجودة، أردت هذا أم أبيت.
هاتان العينان اللامعتان الساخرتان هما اللتان جعلتاني - وقد كنت منهمكا في الكتابة - أبدا أصغي لعبده وحديثه عن الزائرة التي جاءت مع الأستاذ شوقي في الصباح. توقفت عن الكتابة وقد أدركت أنها سانتي، ولم يكن غريبا أن تأتي للمجلة مع شوقي؛ فمفروض أنها تعمل معه، ومع هذا رحت أجهد عقلي لأجد طريقة غير مباشرة أسأل بها عبده عن كل ما أريد دون أن أثير بها حب استطلاعه الذي يثور لأقل هفوة. سألته متى جاءا؟ وأين جلسا؟ وماذا صنع لهما؟ والمدة التي استغرقتها المقابلة؟ وماذا كانت ترتديه؟ ... إلخ، إلخ.
وطبعا لم أكن أشك في شوقي، ولم يكن أحد يستطيع أن يشك فيه؛ فشوقي لم يكن شخصا، كان في الواقع قضية، أو على وجه التحديد كان قضيتنا، لم أحس مرة أن له مزاجا خاصا أو مطلبا خاصا. كان عقله - وبالتالي شخصه - يشبه جهازا دقيقا مضبوطا، عمله أن يفكر في المشاكل ويجد لها حلولا. وعلى ذلك فشوقي هو دائما المشكلة التي يفكر فيها، بطريقة لا بد نعتقد معها أن ليس له وجود خاص أو شخصية مستقلة. كان طويلا أسمر ضخما طيب المظهر، يحمل على الدوام حقيبة تحفل بأوراق وأشياء مختلفة متباينة، بل لا تدهش إذا وجدت فيها بعض ملابسه الداخلية؛ إذ كانت له قدرة عجيبة على العرق، وباستطاعته أن يعرق جردل ماء في الساعة أو حسبما تطلب. كان ذكيا جدا وحساسا وعلميا في إحساسه؛ فلا تستطيع أن تضبطه مرة متلبسا بشطحة من شطحات الفنانين، وكأن مخيلته هي الأخرى تعمل كالجهاز المضبوط الذي لا يخطئ أو يتساهل، وأهم شيء في شوقي أنه يعطيك شعورا بالثقة من أول نظرة. كنت لا أدهش أبدا حين نكون معا في حفلة أو اجتماع أعرفه بشخص ما وأعود بعد دقائق لأجد هذا الشخص قد انتحى به ركنا ومضى يعرض عليه مشكلة خاصة جدا لا يعرضها الإنسان إلا على أخ أو صديق عريق. وشوقي كان متزوجا وله ولدان توأمان، وعمري ما رأيته يتحدث عن مشاكله كزوج أو رب عائلة مع علمي التام بكثرة ما تحفل به حياته مع زوجته من خلافات ومشاكل.
Halaman tidak diketahui