كنت أود في تلك اللحظة - حتى وأنا لا أفكر - أن أقول كلاما جميلا، حوارا من النوع الذكي المنمق الجميل الذي نقرؤه في الكتب ونراه في الروايات، ولكني لم أكن أجد شيئا أقوله سوى أن أردد: أحبك يا سانتي، أحبك.
وأخذتها تحت إبطي فطاوعتني ووقفت معي، وقبلتها في عنقها وأنا أرتجف؛ إذ كنت قد بدأت أرتجف، وأنا خجل أريد أن أداري ارتجافي عنها، وكلما حاولت هذا ازدادت حدة رجفتي ومشيت وأنا أدفعها أمامي برفق ولين، حتى صرنا أمام الكنبة، وجلست وجذبتها معي فجلست بجواري، ولم تجلس كما تعودت أن تجلس، خلعت حذاءها وألصقت ركبتيها بصدرها وأنا بجوارها وذراعي ملتف حولها وأحتويها ولا أزال أرتجف، اللحظة التي انتظرتها سنين طويلة وسنين، آلاف السنين، خيل إلي أني حتى قبل أن أولد كنت أنتظرها، ها هي ذي قد جاءت، ها هي ذي سانتي أمامي، ساكنة مستسلمة كالعجينة، أستطيع أن أفعل بها ما أشاء.
وقبلتها في فمها، ولأول مرة أحسست بنشوة عارمة حين وجدتها لا تشيح بفمها عن فمي وأنها تسلمني فمها، ولكني لم أحس أنها قبلتني، فقبلتها مرة أخرى وأخرى.
وازدادت بكاء وقالت: لا تفعلها يا يحيى، أرجوك لا تفعلها.
ودق قلبي بعنف جديد أشد، وبدأت أسناني من الارتجاف تصطك، إنها تطلب مني أن أدعها، مستسلمة وتطلب مني أن أدعها وتبكي، أحتويها بذراعي وهي مستسلمة إلى صدري وتطلب مني ألا أفعلها وتبكي.
قلت: لماذا يا سانتي؟
قالت: لأنني لا أريد.
ما زالت كل دقيقة من دقائق المشهد حاضرة محفورة في ذاكرتي لا تنمحي: سانتي منكمشة على نفسها في ركن الكنبة، وأنا بجوارها أحتضنها بذراع، وبيدي الأخرى أرفع وجهها وأقربه من فمي ووجهي، والشمس تغرب، والحجرة غير مضاءة، والمكتب والكراسي والستارة الرقيقة المسدلة على النافذة، والدنيا كلها تمر بلحظة سكون لا أعرف سببه، ربما كانت كلها واجمة تنتظر نتيجة ما يدور، ودوي ما حدث في الورش في الصباح ووجوه العمال الراسخة في ذاكرتي تنتظر أيضا وتترقب، بل كان واضحا أن سانتي هي الأخرى تنتظر النتيجة، وتنتظر مني أن أفعل شيئا، أو لا أفعل شيئا بالمرة.
وفيما تلا هذا من أحداث، ربما لو لم تحدث بالطريقة التي حدثت بها لما كان ما كان، ربما لو تقدم حدث عن حدث أو استبدلت كلمة بكلمة لتغير المشهد، ولتغير مصيري ومصير سانتي، ولخطت لنا الحياة مصيرا آخر. أحداث صغيرة قد تبدو تافهة كل التفاهة، ولكنها في أوقات، في وقت كهذا كانت مهمة عظيمة الأهمية إلى درجة قد لا يصدقها العقل، بل لم أصدقها أنا نفسي حين رحت أستعرض ما حدث فيما تلا هذا من أيام، وأعوام.
للحظة خاطفة ألقيت نظرة على نفسي وعلى أعماقي فروعت للنتيجة. لم أجد لدي أية رغبة في سانتي، بل لم أستطع أن أفكر فيها لثانية واحدة - وكمجرد تفكير - وهي أمامي امرأة مستسلمة تبكي، وكأنها امرأة حرن بي تفكيري كما كان يحرن خيالي. وكم قضيت الساعات الطويلة أفكر في الأحداث القليلة التي احتواها المشهد، وأحاول تحليلها وتعليلها، ووصلت إلى نتائج ولكنها أبدا لم تستطع أن تشفي غليلي، لم أستطع أن أعثر على سبب وجيه يفسر لي كل ما حدث. أحيانا كنت أقول إن السبب هو أن سانتي - حتى تلك اللحظة - لم تكن قد قامت بأي تصرف يدل على رغبتها في، وكان السؤال إذن لا يزال يلح: هل تريدني مثلما أريدها؟ هل تحبني سانتي؟ ذلك هو السؤال، تلك هي المأساة التي كانت تشلني.
Halaman tidak diketahui