بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد الله مصرف الأقدار ومحيي الآثار والمتعالي عن الأشباه والأنظار، المتنزه عن تمثيل الأوهام وتكييف الأذكار الذي احتجب بحجاب عزته وقدرته فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار الذي خضعت لهيبته وعظمته رقاب الأكاسرة والجبابرة والأشرار، العالم بالكونين على اختلافها والحوادث مع تشتيت أوصافها، وكل شيء عنده بمقدار، مكور الليل على النهار، والنهار على الليل ما جرى الفلك الدوار وجعلهما آيتين بينتين للمتفكر في العظة والاعتبار وخص الإنسان بفضل النظر والاستبصار فقال جل وتعالى " فاعتبروا يا أولي الأبصار " وعلمه ما لم يكن يعلم وكرر عليه ما لم يلحق من انباء القرون الماضية في الأزمان والأعصار وأراه متقلبهم في هذه الدنيا الفنية التي جعلها لهم دار انتقال، ومفر وزوال، وجعل الأيام بينهم دولا والأقوام بعضهم من بعض بدلا ذلك تقدير العزيز القهار نحمده على ما نعم به علينا من الهداية للنظر في مواقع الأدلة بأن هو الله الملك الغفار ونشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، الذي اختار لرسالته وختم به الرسل الكرام الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحبه الأكرمين الأخيار، وسلم كثيرًا.
وبعد جعلنا الله ممن نظر فاعتبره، ووعظ فازدجره فإن خير ما شغلت به الأذكار والأفكار، وتحدثت معه الليل والنهار، حفظ ما فاد من العلوم والأخبار وأن أولى ما ريضنا به النفوس البشرية مجالسة العلماء والأخيار، ومذاكرة الأدباء ذوي الهمم وعلو المقدار، ففي مجالستهم ومذاكرتهم
1 / 1
ما يسحر الذهن وينور الأفكار فان فقدت مجالستهم فلا عوض منها غير كتاب يتخذه جليسه ويجده في كل وقت أنيسه ويتنسمه روضا يانع الأزهار وإذا نظر اللهيب بفطنته إلى أصناف العباد ومختلف الآباد أغناه ذلك عن المشاهدة وقام له الاستماع مقام المعاينة والاستخبار.
قال المؤلف: ولما كنت كلفت بأخبار الخلفاء والأئمة والأمراء بالبلاد الشرقية والمغربية وما والاهما من الأقطار، وولعت بالمناظرة في ذلك مع الفضلاء والأخلاء ذوي الأقدار والأخطار، طلب بعضهم إلي، ممن يجب إكرامه على، أن أجمع له كتابا مفردا في أخبار ملوك البلاد الغربية على سبيل الإيجاز والاختصار، ولازمني في طلبه مرارا، فلم يمكنني التوقف في ذلك ولا الاعتذار وحملني على جمعه وتأليفه حمل اضطرار لا اختيار، فجمعت له في هذا الكتاب نبذا ولمعا من عيون التواريخ والأخبار، مما جرى الله به تصاريف الأقدار فيما مر من الأزمنة والأعصار في بلاد المغرب وما والاهما من الأقطار: جمعت ذلك من الكتب الجليلة مقتضيا من غير إسهاب ولا إكثار فاقتطفت عيونها واقتضبت فنونها ووصلت الحديث بالقديم والقديم بالحديث لأنه إذا اتصل يستظرف ويستحلى كما قال بعضهم:
وسئت كل مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فأنه ... عند اسمه ابدأ حديث
فنقلت والله ولي التوفيق من تاريخ الطبري والبكري والرقيق والقضاعي ومن كتاب (الذيل) لابن شرف ومن كتاب ابن أبي الصلت ومن (المجموع المفترق) ومن كتاب (بهجة النفس وروضة الأنس) ومن كتاب (المقباس) و(القبس) ومن مختصري عريب وابن حبيب ومن (درر القلائد وغرر الفوائد) ومن (القلائد) و(المطمح) لابن خاقان ومن كتاب ابن حزم (ذخيرة) ابن بسام ومن (أخبار
1 / 2
الدولة العامرية) لابن حيان، ومن كتاب (تقصي الأنباء في سياسة الرؤساء) ومن كتاب (الأنوار الجلية في الدولة المرابطية) ومن (نظم الجمان في أخبار الزمان) لابن القطان، ومن كتابي (الاشيري) و(البيذق) وكتاب يوسف الكاتب وكتاب بن صاحب الصلاة أبي مروان، ومن كتاب بن رشيق ومن كتاب وجدته أو تعليق، ومن شيوخ أخذت الأخبار الوقتية عنهم بتحقيق والله الهادي إلى سواء الطريق.
ولما كمل ما قيدته وجردته على ثلاثة أجزاء: كل جزء كتاب قائم بنفسه ليكون لمطالعه أوضح البيان وأسهل مرام لدى العيان وسميته بالبيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب. أما الجزء الأول فاختصرت فيه أخبار أفريقية من حين الفتح الأول في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁، ثم أخبار أمرائها من ولاة الخلفاء الأمويين ومن دخل الغرب منهم ومن قام بأفريقية من الصفرية والاباضية ثم قام فيها بالدولة العباسية ومن ملكها من بني الأغلب وأخبار بني عبيد الشيعة وأخبار زناته والصهاجيين وغيرهم وكل ما اشتهر من أمرهم إلى حين انتقال العبيدية إلى البلاد المصرية واستخلافهم صهاجة على أفريقية ثم خلع صهاجة لهم واستيلائهم على أفريقية ونذكر فتنة العرب وأسبابها ودخولهم إلى القيروان وخرابها وتنقل أمراء صهاجة إلى المهدية ومن ملكها منهم وما اشتهر في ذلك من الأخبار عنهم من ملوك المناديين والحماديين إلى حين ظهور الموحدين ولخصت في ذلك كله أخبار أمراء البلاد الغربية ومن دخلها من أخبار الدولة العبيدية وذكرت أخبار المدراريين السجلماسيين والأمراء الإدريسيين وأخبار البرغواطيين والزناتيين ومن ملك فاسا من زناتة المغراويين ومن ولاء الخلفاء الأمويين الأندلسيين
1 / 3
على أن أخبار المغرب الأقصى أكثر من أن تحصى لكني نسقتها نسق الأسلاك وسقت من كان فيه على الولاء من الأملاك من حين فتحه الأول إلى حين ابتداء الدولة اللمتونية المرابطية.
والجزء الثاني اختصرت فيه أخبار جزيرة الأندلس وأملاكها الغابرين الدرس من حين الفتح الأول ثم من وليها من الأمراء للخلفاء الأمويين بالمشرق ثم من قام بها من العرب الفهريين إلى حين دخول الخلفاء الأمويين في ابتداء أمرهم ومن قام عليهم من الثوار الأندلسيين وذكرت بعض أخبارهم وآثارهم في غزواتهم وحركاتهم إلى انقضاء مدتهم بعد ذكر حجابهم العامريين ومآثرهم إلى حين انقضاء الدولة العامرية وقيام الفتنة البربرية وذكرت فيه أخبار ملوك الطوائف بعد انقضاء دول الخلائف من الحموديين والهوديين والجهوريين والعباديين وفتيان العامريين والصمادحيين والزناتيين والبكريين والافطسيين والصهاجيين وغيرهم من الرؤساء الأندلسيين وكل ذلك إلى حين دخول لمتونة إلى الأندلس سنة ٤٧٨.
والجزء الثالث: اختصرت فيه أخبار الدولة المرابطية اللمتونية وخروجهم من صحرائهم في ابتداء أمرهم واستيلائهم على مملكة أمراء المغرب والأندلس وخلعهم لجميعهم وتغلبهم على مملكة كل منهم وما تسنى لهم فيها من الفتوحات والمنوحات إلى حين ابتداء دولة الموحدين وظهورهم ونبذ من أحوالهم وأمورهم ثم ما كان بين أمراء الدولتين من مقاتلات ومنازلات وحصر من حصر ونصر من نصر - سمه الله لهم - وذلك إلى حين انقضاء الدولة المرابطية وابتداء دولة الموحدية ثم ما تخلل ذلك للموحدين من النصر والتأييد ومن فتوح ومنوح وصنع عجيب في البلاد الأفريقية والأندلسية إلى حين انقراض دولتهم وذلك بسبب أحداث حدثت عليهم وأحوال نسبت إليهم وذكرت الدولة الحفصية الموحدية الهتاتية في البلاد الأفريقية والدولة الهودية المتوكلية والنصرية الاحمرية في البلاد الأندلسية والدولة السعيدة
1 / 4
المرينية في البلاد الغربية اختصرت في ذلك كله ما اشتهر أمره وأمكنني ذكره وذكرت بعض البيعات والرسائل السلطانيات وما تعلق بها وكان بسببها من الوقائع المذكورات والأمور المشهورات وذلك إلى انقضاء الدولة الموحدية واستيلاء الإمارة اليوسفية المرينية على حضرتهم المراكشية وذلك على مرور السنين إلى عام ٦٦٧.
قال المؤلف - سمح الله له - فإن كنت اقتصرت فيما اقتصرت فعذرًا فيما ظهر من تقصير وباع قصير فان الذهن كليل والقلب شغيل وكنت قد نسخت نسخة من هذا الكتاب وربما زدت في هذه الثانية أو نقصت إذا كان الأولى بي والأحرى إلا القدم الأولى ولا أؤخر الأخرى ولكني ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا وحسبي الاعتراف فهو سبيل الإنصاف نسأل الله الإرشاد إلى سواء فهو حسبي ونعم الوكيل.
ذكر حد المغرب وأفريقية
وما اتصل بهما وعد معهما
قال أبو مروان في كتاب (المقباس) وابن حمادة في كتاب (القبس) وغيرهما من المؤرخين لأخباره المعتنين بآثاره: إن حد المغرب هو من ضفة النيل بالإسكندرية التي تلي بلاد المغرب إلى آخر بلاد المغرب وحده مدينة سلاء وينقسم أقساما: فقسم من الإسكندرية إلى طرابلس وهو أكبرها وأقلها عمارة وقسم من طرابلس وهي بلاد الجريد ويقال أيضًا بلاد الزاب الأعلى ويلي هذه البلاد بلاد الزاب الأسفل وحدها إلى مدينة تيهرت ويليها بلاد المغرب وهي بلاد طنجة وحدها مدينة سلا وهي آخر المغرب وإذا جزت سلا وأخذت إلى ناحية الجنوب تركت مغرب الشمس يمنة وأخذت منها قافلا إلى قبلة فتسمى تلك البلاد تامسنا ويقال لها أيضًا بلاد السوس الأدنى وحدها إلى جبل درن وإذا جزت هذا الجبل فعن يمينك
1 / 5
بلاد السوس الأقصى ويقال لها بلاد ماسة ويتصل السوس الأقصى ببلاد الصحراء إلى السودان وهي بلاد الزهج وبلاد الأندلس أيضًا من المغرب وداخلة فيه لاتصالها به ويليها المجاز الأعظم الذي يسمى بحر الزقاق وفيه مصب البحر الكبير الذي يسمى المحبط ويقال له بحر الظلمات وهذا البحر لا يعلم له ساحل غير الذي عليه بلاد السودان وبلاد الكجوس الذين يلون بلاد الأندلس ويصب ماء الزقاق في البحر الرومي ويقال له أيضًا البحر الشامي وهو يتصل إلى البلاد الشام إلى ناحية القسطنطينية وبينه وبين بحر الزقاق الخليج الذي منه وذكر بن حمادة أن حد المغرب من بحر القلزوم وهو الهابط من اليمن إلى عدن إلى عيداب إلى القلزوم وإلى مصر قبلة وشرقا وحد المغرب من الجوف البحر الشامي وهو بحر الإسكندرية وهو المتفرغ في بحر الزقاق من جزيرة طريف وعلامته صنم قادس وحد المغرب من الغرب البحر المحيط المسمى الابلاية وصار المغرب كالجزيرة دخل فيه بعض أعمال مصر وأفريقية كلها والزاب والقيروان والسوس الأدنى والسوس الأقصى وبلاد الحبشة ومنه يتفرع نيل مصر.
ذكر فضل المغرب
وما ورد من الأخبار والآثار
روي عن رسول الله ﷺ أنه قال (لا تزال طائفة من أمتي بالمغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله ﷺ قال (لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) وذكر البخاري، عن النبي ﷺ قال: لا يضرهم من خالفهم، حتى يروا قياما فيقولون: غشيتم فيغشون سرعان خيلهم،
1 / 6
فيرجعون إليهم فيقولون: الجبال سيرت فيخرون سجدا فتنقبض أرواحهم) وروي أن رسول الله ﷺ كان يقول (خير الأرض مغاربها وأعوذ بالله من فتنة المغرب) وذكر خالد بن سعيد أن محمد بن عمر بن لبلاة كان يروى عن عبيد الله بن خالد عمن حدثه عن أبي زيد المصري يرفع الحديث عن أبي عباس ﵁ عن أبي أيوب الأنصاري قال: بينما رسول الله ﷺ واقف إذ توجه تلقاء المغرب فسلم وأشار بيده فقلت (على من تسلم يا رسول الله) قال (على رجال من أمتي يكونون في هذا المغرب بجزيرة يقال لها الأندلس حيهم مرابط وميثهم شديد وهم ممن استثنى الله من كتابه " فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ") وصح وعد رسول الله ﷺ إن الإسلام سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها فكان الأمر كما وعد وقال الحميدي في قول رسول الله ﷺ (لا يزال أهل الغرض ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) هذا وإن كان عاما فللأندلس منه حظ وافر بدخولها في الإسلام وتحققها من الغرب وإنها عن آخر المعمور فيه وبعض ساحلها الغربي والبحر محيط بجميع جهاتها فصارت بين البحر والروم وروى الرفيق عن عبد الله بن وهب يرفع الحديث إلى النبي انه بعث سرية في سبيل الله فلما رجعوا ذكروا شدة البرد الذي أصابهم فقال رسول الله ﷺ (لكن أفريقية أشد بردا وأعظم أجرا) وعن سفيان بن عيينة أن النبي ﷺ قال (الشر عشرة أجزاء، فتسعة في المشرق، وواحد في سائر البلدان) .
ويقال بأن أفريقية ساحلا يقال له المنستيد وهو باب من أبواب الجنة وبها جبل يقال له المطمور: باب من أبواب جهنم. وفي الحديث أن أفريقية يحشر منها سبعون ألف شهيد ووجوههم كالقمر ليلة البدر وعن سفيان بن عيينة قال يروي ان المغرب باب المنوبة مفتوحا مسيرة أربعين خريفا لا يغلغه الله حتى تطلع منه الشمس.
1 / 7
ودخل أفريقية من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين الأولين ناس كثير ودخل الأندلس من التابعين قوم فأول من دخل أفريقية غازيا في زمن عمر بن الخطاب ﵁ عمرو بن العاص وكان استفتح مصر سنة ٢٠ من الهجرة ووجه منها عقبة بن نافع الفهري إلى لوبية وأفريقية فافتتحهما ثم توجه عمرو بنفسه إلى برقة فصالح أهلها إلى الجزية: دينار على كل حالم وتوجه منها إلى طرابلس فافتتحهما بعد استغاثة أهلها بقبيل من البربر يقال لهم نفوسة إذا كانوا دخلوا معهم في دين النصرانية.
ابتداء التاريخ
سنة إحدى وعشرين من الهجرة
فيها افتتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية وفي سنة ٢٢ بعدها افتتح بلاد طرابلس وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ يخبره بما أفاءه الله عليه من النصر والفتح وأن ليس أمامه إلا بلاد أفريقية وملوكها كثير وأهلها في عدد عظيم وأكثر ركوبهم الخيل فأمره بالانصراف عنها فأمر عمرو العسكر بالرحيل قافلا إلى مصر ثم استشهد عمرو ﵁ فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي سرح سنة ٢٥ من الهجرة.
وفي سنة ٢٧ من الهجرة أمر أمير المؤمنين عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري بغزو أفريقية.
فتح أفريقية للإسلام
ندب عثمان ﵁ الناس إلى غزوهم فخرج المسلمون في جيش عظيم فيهم مروان بن الحكم وجمع كثير من بني أمية وبشر كبير من بني أسد بن عبد
1 / 8
العزى وعن عبد الله بن الزبير بن العوام في عدة من قومه وعبد الرحمن بن أبي بكر ﵁ وعن عبد الله بن عمر بن العاص والمطلب بن سائب وبشر ابن أرطأة وغير هؤلاء من المهاجرين وأعان عثمان المسلمين في هذه الغزوة بألف بعير يحمل عليها ضعفاء الناس وفتح بيوت السلاح التي كانت للمسلمين فلما توافى الناس جدوا السير وذلك في المحرم من هذه السنة وأمر الناس فعسكروا وقام فيها خطيبا فوعظهم وذكرهم وحرضهم على الجهاد ثم قال (وقد عهدت إلى عبد الله بن سعد أن يحسن صحبتكم ويرفق بكم وقد استعملت عليكم الحارث بن الحكم إلى أن تقدموا على ابن أبي سرح فيكون الأمر له) .
بعض أخبار عبد الله بن سعد وإمرته
نسبه: هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان يكتب الوحي إلى رسول الله ﷺ ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين بمكة وكان معاوية بن أبي سفيان بمكة قد أسلم وحسن إسلامه فاتخذه رسول الله ﷺ كاتبا للوحي بعد ابن أبي سرح فلما فتح النبي ﷺ مكة استجار ابن أبي سرح فأخذ له عثمان الأمان من النبي ﷺ وكان ابن أبي سرح أخا لعثمان من الرضاعة فحسن إسلامه من ذلك الوقت فلما أفضت الخلافة إلى عثمان ﵁ ولاه ملك مصر وجندها فكان يبعث المسلمين في جرائد الخيل يغيرون على أطراف أفريقية فيصيبون كثيرًا من الأنفس والأموال فكتب إلى عثمان بذلك فكان السبب في توجيه الجيش إليه وتقديمه عليه وأمر له بالدخول لغزو أفريقية فخرج عبد الله من مصر في عشرين ألف إلى أفريقية وصاحبها بطريق يقال له جرجير وكان سلطانه من طرابلس إلى طنجة فبعث عبد الله السرايا في آفاق أفريقية فغنموا في كل وجه والتقى عبد الله مع
1 / 9
البطريق ضحى النهار في موضع يعرف بسبيطلة وكان جرجير في مائة وعشرين ألفا فضاق المسلمون في أمرهم واختلفوا على لين سعد في الرأي فدخل فسطاطه مفكرا في الأمر فلما رأى جرجير خيل العرب اشتد رعبه وأهمته نفسه فأخرج ديدبانه وصد فيه يشرف على العساكر ويرى القتال وأمر ابنته فصعدت الديدبان وسفرت عن وجهها وكان عدة خدمها اللائي صعدن الديدبان أربعين جارية في الحلي والحلل من أجمل ما يكون ثم قدم كراديسه كردوسًا كردوسا وهو تحت الديدبان ثم قال لهم (أتتعرفون هذه) فقالوا (نعم هذه سيدتنا، ابنة الملك وهؤلاء خدمها) فقال لهم (وحق المسيح ودين النصرانية لئن قتل رجل منكم أمير العرب عبد الله بن سعد لأزوجه ابنتي هذه وأعطيه ما معها من الجواري والنعمة وأنزله المنزلة التي لا يطمع فيها أحد عندي) وما زال ذلك من قوله حتى مر على المسامع خيله ورجله فحرض بذلك تحريضًا شديدا.
وإن عبد الله بن سعد لما انتهى إليه ما فعل جرجير وما كان من قوله نادى في عسكره فاجتمعوا فأخبرهم بالذي كان من جرجير ثم قال (وحق النبي محمد ﷺ لا قتل أحد منكم جرجير إلا نفلته ابنته ومن معها) ثم زحف المسلمين فالتقى الجمعان واستحر القتال واشتعلت نار الحرب والمسلمون قليل والمشركين في عشرين ومائة ألف وأشكل الأمر على ابن سعد ودخل فسطاطه مفكرا في الأمر.
ذكر قتل عبد الله بن الزبير لجرجير
ملك أفريقية والمغرب كله
قال عبد الله بن الزبير: فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم
1 / 10
رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا عنهم معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس فأتيت فسطاط عبد الله بن سعد فطلبت الإذن عليه فقال له حاجبه (دعه فإنه يفكر في شأنكم ولو اتجه له رأي لدعا بالناس) فقلت (أني محتاج إلى مذكراته) فقال له (أمر في أن أحبس الناس عنه، حتى يدعوني) قال فدرت حتى كنت من وراء الفسطاط فرأى وجهي فأومأ إلي أن تعال فدخلت عليه وهو مستلق على فراشه فقال (ما جاء بك؟ يا بن الزبير) فقلت (رأيت عورة من عدونا. فرجوت أن تكون فرصة هيأها الله لنا، وخشيت الفوت) فقام من فوره وخرج حتى رأى ما رأيت فقال (أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم) فتسرع إلي جماعة اخترت منها ثلاثين فارسا فقلت (إني حامل فاصرفوا عن ظهري من أرادني فأني سأكفيكم ما أمامي إن شاء الله) قال عبد الله: فحملت في الوجه الذي هو فيه وذب عني الناس الذين انتدبوا معي واتبعوني حتى خرقت صفوفهم إلى أرض خالية فضاء بيني وبينهم فوالله ما حسب إلا أني رسول إليه حتى رأى ما بي من أثر السلاح فقدر أني هارب إليه فلما أدركته، طعنته، فسقط: فرميت نفسي عليه وألقت جارياته عليه أنفسهما فقطعت يد إحداهما، وأجهزت عليه ورفعت رأسه على رمحي وحال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فانهزم الروم وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وثارت الكمائن من كل جهة ومكان وسبقت خيول المسلمين ورجالهم إلى حضن سبيطلة فمنعوهم من دخوله. وركبهم المسلمون يمينا وشمالا في السهل والوعر فقتلوا أنجادهم وفرسانهم وأكثروا فيهم الأسرى حتى لقد كنت أرى في موضع واحد أكثر من ألف أسير.
وذكر أشياخ من أهل أفريقية أن ابنة جرجير لما قتل أبوها تنازع الناس في قتله وهي ناظرة إليهم فقالت (قد رأيت الذي أدرك أبي، فقتله) .
1 / 11
فقال لها الأمير بن ابن أبي سرح (هل تعرفينه؟) فقالت (إذا رأيته، عرفته) قال فمر الناس بين يديها حتى مر عبد الله بن الزبير فقالت (هذا والمسيح قتل أبي) فقال له ابن أبي سرح (لم كتمتنا قتلك إياه)؟ فقال عبد الله (علمه الذي قتلته من أجله) فقال الأمير (إذا والله أنفلك ابنته) فنفله ابن أبي سرح ابنة الملك جرجير فيقال إنه اتخذها أم ولد ولما انهزمت جيوش جرجير سار عبد الله بن أبي سرح حتى نزل باب مدينته العظمى قرطاجنة، فحصرها من كان معه من المسلمين حصارا شديدا أتى فتحت فأصاب فيها من السبي والأموال ما لم يحيط به الوصف وكان أكثر أموالهم الذهب والفضة فكانت توضع بين أيديه أكوام الفضة والذهب لأنه افترع أفريقية مبكرا فعجب هو والمسلمون من كثرة ذلك فقال للأفارقة: (من أين لكم هذا؟) فجعل الرجل منهم يلتمس شيئًا من الأرض حتى بنواة زيتون، فقال: (من هذا أصبنا الأموال لأن أهل البحر والجزر ليس لهم زيت فكانوا يمتارونه من هنا) فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينارا عينا وسهم الراجل ألف دينار وقسم ابن أبي سرح السرايا والغارات من مدينة سيبطلة فبلغت جيوشه بقصر قفصة فسبوا كثير وغنموا فأذلت هذه الوقعة الروم بأفريقية ورعبوا رعبًا شديدًا فجاءوا إلى الحصون والمعاقل ثم طلبوا من عبد الله بن سعد أن يقبض منهم ثلاثمائة قنطار من الذهب في السنة جزية على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم فقبل ذلك منهم وقبض المال وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه عليهم ودعا الأمير عبد الله بن سعد عبد الله بن الزبير فقال له (ما أحد أحق بالبشارة منك فامض فبشر أمير المؤمنين عثمان ﵁ بالمدينة، بما أفاء الله على المسلمين) فتوجه عبد الله بن الزبير
1 / 12
من سبيطلة فقيل إنه وافى المدينة في أربعة وعشرين يوما وكانت إقامته بأفريقية سنة وشهرين ثم وصل فيء أفريقية إلى المدينة فبيع المغنم فطفق مروان بن الحكم على الخمس فأخذ منه خمسين ألف دينار فسلم له من ذلك عثمان ﵁ فكان ذلك مما انتقد عليه.
وفيه وفي رد الحكم أبيه بعد أن نفاه رسول الله ﷺ يقول عبد الرحمن أخو كندة:
سأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله شيئا سدى
ولاكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلي بك وتبتلى
دعوت اللعين فأدنيته ... خلافا لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس العباد ... ظلمًا لهم وحميت الحمى
وقال مروان بن الحكم يوما في مجلس معاوية (ثلاث لم أدخل فيهن حراما قط: داري بالمدينة، ومالي بذي خشب، وصدقات نسائي) فنظر معاوية إلى عبد الله بن الزبير وكان حاضرًا فقال له (ما تقول؟ فإنك طعان) فقال (مهلا أبا عبد الملك خرجنا مع ابن أبي سرح إلى غزو أفريقية فوالله ما كان مروان أحسننا وجهها ولا أكثرنا نفقة، ولا أعظمنا في العدو نكاية فطفق على خمس أفريقية بم تعلم وتحابى له من تعلم فنى منه الدار واتخذ منه المال وتزوج منه النساء) فقال له مروان (أتطعن على أمير المؤمنين عثمان؟) فقال له معاوية (دعه وخذ مني غير هذا فإنك صحة ما أقول) قال الطبري (كان عثمان ﵀ قال لعبد الله بن سعد: إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس نفلًا) فلما فتح أفريقية في هذه السنة وهي سنة ٢٧ قسم عبد الله الفيء على المسلمين فأبقى الخمس لنفسه وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان وضرب فسطاطه في أرض القيروان فوفد وفد على عثمان يشكون بابن أبي سرح فيما أخذ من
1 / 13
الخمس فقال لهم عثمان (أنا نفلته إياه وذلك الآن إليكم فإن رضيتم فقد جاز وإن غضبتم فهو رد) قالوا: (فإنا نسخط) فكتب عثمان إلى ابن سعد برد ذلك قالوا (فأعزله عنا أنا لا نريد أن تأمر علينا وقد وقع ما وقع فكتب إليه أن استخلف على أفريقية رجلا ترضاه ويرضونه واقسم خمس الخمس الذي كنت نفلتك في سبيل الأخماس فإنهم قد سخطوا النفل)
ففعل ذلك عبد الله ورجع إلى مصر وقد فتح الله أفريقية فما زالوا من أسمع أهل الأقاليم وأطوعهم إلى زمن هشام بن عبد الملك ثم ورد الخمس على أمير المؤمنين عثمان فكان من أمر مروان بن الحكم فيما تقدم ذكره.
وفي سنة ٢٨ غزا حبيب بن مسلمة قورية من أرض الروم ذكر ذلك الطبري وغيره.
وفي سنة ٢٩ هجرة افتتح عبد الله بن عامر أرض فارس. وفي سنة ٣٠ سقط الخاتم من يد عثمان ﵁ في بئر اريس وقد ذكرنا خبر سقوطه في كتابنا المسمى (البيان المشرق في أخبار المشرق) وفي سنة ٣١ كانت غزة ذات الصواري وغزة ذات الاساورة في قول الواقدي وفي سنة ٣٢ توفي عبد الرحمن بن عوف ﵁ وهو ابن خمس وسبعين سنة، وفيها مات عبد الله بن زيد بن عمرو بن نفيل وفيها مات أبو طلحة وأبو ذر ﵄ وبها توفي عبد الله بن مسعود فدفن بالبقيع.
وفي سنة ٣٣ كانت غزوة عبد الله ابن أبي سرح أفريقية مرة ثانية حين نقض أهلها العهد هكذا ذكره عريب في مختصره وقد تقدم خبر ابن أبي سرح على الجملة دون تعيين سنة.
وفي سنة ٣٤ مات عبادة بن الصامت في قول الواقدي وهو ابن اثنين وتسعين سنة ودفن بالرملة وفيها غزا معاوية بن حديج أفريقية وهي أول غزواته إلى المغرب ثم اشتغل الناس بعد ذلك بأمر عثمان ﵁ وبوقائع
1 / 14
الجمل وصفين وغيرهما إلى أن اعتدلت الخلافة إلى معاوية ابن أبي سفيان وفي سنة ٣٥ استشهد عثمان ﵁ واستخلفه أمير المؤمنين علي ﵁ فنازعه معاوية ولم يبايعه. وفي سنة ٣٦ عزل علي ﵁ ابن أبي سرح عن مصر وأقام عليها قيس بن عبادة الأنصاري. وفي سنة ٣٧ كان العامل على مصر محمد ابن أبي بكر الصديق وفي سنة ٣٨ قتل محمد ابن أبي بكر الصديق بمصر قتله معاوية ابن أبي حديج بأمر معاوية بن أبي سفيان وقد ذكرنا شرح مقتله في (البيان المشرق في أخبار المشرق) وفي سنة ٤٠ كانت مهادنة بين علي ﵁ وبين معاوية إلى أن توفي علي ﵁ وفيها دعي معاوية بأمير المؤمنين وكان قبل ذلك يدعى الأمير. وفي سنة ٤٠ المذكورة توفي أمير المؤمنين أبو الحسن علي ابن أبي طالب ﵁ وبويع بالخلافة ابنه الحسن ﵄ وفي سنة ٤١ كان تسليم الحسن ﵁ الأمر لمعاوية واستوسقت المملكة له وفيها غزا معاوية بن حديج أفريقية المرة الثانية قال عريب في مختصره: ذكر أهل العلم بأخبار أفريقية أن معاوية بن حديج نزل جبلا فيها، فأصابه فيها مطر شديد فقال (إن جبلنا هذا لممطورًا) فسمي البلاد ممطورا إلى الآن. وقال (اذهبوا بنا إلى ذلك القرن) فسمي ذلك الموقع قرنا وكانت لمعاوية هذا إلى أفريقية ثلاث غزوات. وفي سنة ٤٣ ولد الحجاج بن يوسف الثقفي وولى معاوية مروان بن الحكم المدينة وفيها غزا عقبة بن نافع أفريقية، قال عريب في مختصره للطبري: فيها غزا بن نافع المغرب وافتتح غدامس فقتل فيها وسبى. وفي سنة ٤٣ مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر فذكر إنه عمل فيها لعمر بن الخطاب ﵁ أربع سنين ولعثمان ﵁ أربع سنين ولمعاوية سنتين إلا شهرًا
1 / 15
وفي سنة ٤٤ عمل مروان بن الحكم المقصورة بمسجد المدينة - كرمها الله - وعملها أيضًا معاوية في الشام. وفي سنة ٤٥ غزا معاوية بن حديج الكندي أفريقية وكانت حربًا كلها قال الطبري: وذلك أن حبابة الرومي قدم على معاوية بن أبي سفيان فسأله أن يبعث معه جيشًا إلى أفريقية فوجه معاوية بن حديج في عشرة آلاف مقاتل فسار حتى انتهى إلى الإسكندرية فاستعمل عليها حبابة الرومي ومضى ابن حديج حتى دخل أفريقية وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب ﵁ وعن أبيه - وعن عبد الله ابن الزبير ﵁ وعن أبيه وعبد الملك بن مروان ويحيح ابن الحكم بن المعاصي وغيرهم من أشراف قريش فبعث ملك الروم إلى أفريقية بطريقًا يقال له نجفورًا في ثلاثين ألف مقاتل فنزل الساحل فخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة فسار حتى نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة اثني عشر ميلا فلما بلغ ذلك نجفورًا اقلع في البحر منهزما من غير قتال فأقبل بن الزبير حتى نزل على باب سوسة فوقف على البحر وصلى بالمسلمين صلاة العصر والروم يتعجبون من جرأته فأجروا له خيلًا وابن الزبير مقبلا على صلاته لا يهوله خبرها حتى قضى الصلاة ثم ركب وخمل على الروم بمن معه فانكشفوا منهزمين ورجع ابن الزبير إلى معاوية ابن حديج وهو بجبل القرن. ثم وجه ابن حديج عبد الملك ابن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء فحاصرها وقتل من أهلها عددًا كثيرًا حتى فتحها عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية وأخذ جميع ما كان في المدينة وحمل ذلك كله إلى معاوية بن حديج فقسمه على المسلمين فيقال أنه أصاب كل رجل منهم مائتي مثقال وأغزى معاوية بن حديج جيشًا في البحر إلى صقلية في مائتي راكب
1 / 16
فسبوا وغنموا شهرًا ثم انصرفوا إلى أفريقية بغنائم كثيرة ورقيق وأصنام منظومة بالجوهر فاقتسموا فيهم وبعث ابن حديج بالخمس إلى معاوية ابن أبي سفيان هكذا نص عريب في مختصره للطبري.
أخبار معاوية بن حديج الكندي بأفريقية
ذكر الرقيق في كتابه قال: كان هرقل ملك القسطنطينية العظمى ورومة يؤدي إليه كل نصراني في بر وبحر جزيته منهم المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومنهم صاحب طرابلس وصبرة ومنهم صاحب صقلية وروم أفريقية والأندلس فلما بلغه ما صالح عليه أهل أفريقية عبد الله ابن أبي سرح بعث إلى أفريقية بطريقًا يقال له اوليمة وأمره أن يأخذ ثلاثمائة قنطار من الذهب كما اخذ ابن أبي سرح فنزل قرطاجنة واخبرهم بذلك فأبوا عليه وقالوا (إن الذي كان بأيدينا من الأموال فدينا به أنفسنا من العرب وأما الملك فهو سيدنا فيأخذ عادته منا) وكان القائم بأمرهم رجلًا يقال له حبابة فطردوا وليمة الواصل إليهم واجتمع رأيهم على تقديم الاطربون وصار حبابة إلى الشام فقدم على معاوية فوصف له حال أفريقية فسأله أن يبعث معه جيشًا من العرب فوجه معه معاوية بن حديج في جيش كثيف وذلك سنة ٤٥ فسار ابن حديج حتى وصل أفريقية وقد صارت نارًا وكان معه جماعة وقد تقدم أكثرهم وبعث ملك الروم البطريق المتقدم ذكره في ثلاثين ألفًا فبعث ابن حديج إليه عبد الله ابن الزبير فقاتله فأقلع منهزمًا في البحر وحاصر ابن حديج جلولا فكان يقاتلهم وسط النهار وينصرف إلى عسكره فلما انصرف ذات يوم نسى عبد الملك ابن مروان قوسًا له معلقًا بشجرة فأنصرف إليها فإذا بجانب من سور المدينة قد انهدم فصاح في أثر الناس فرجعوا فكان بينهم قتال شديد حتى دخلت المدينة عنوة
1 / 17
واحتوى المسلمون على جميع ما فيها كما تقدم ذكره وكان بين معاوية ابن حديج وعبد الملك بن مروان تنازع في ذلك لان عبد الملك أراد محاباة إخوانه وأصحابه لأنه كان سبب فتح المدينة فقال حنش الصنعاني يوما لعبد الملك: (ما شأنك؟ فوالله لتلين الخلافة ويصير ذلك الأمر إليك فلا تغتم) فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بعث الحجاج بن يوسف لقتال عبد الله بن الزبير فأخذ حنش الصنعاني أسيرًا وبعث إلى عبد الملك ابن مروان فلما وقف بين يديه: (ألست أنت الذي بشرتني بالخلافة يوم جلولاء؟) قال: (نعم) قال: (فلما ملت عني إلى ابن الزبير؟) فقال: (رأيته يريد الله ورأيتك تريد الدنيا فلذلك ملت إليك) فقال: (قد عفوت عنك) .
وفي سنة ٤٦ قال البلاذري: أول من غزا صقلية معاوية بن حديج بعث إليها عبد الله بن قيس ففتحها وأصاب فيها أصناما من الذهب والفضة مكللة بجوهر فحملت إلى معاوية ابن أبي سفيان فبعث بها إلى الهند فأخذ ثمنها فأنكر الناس عليه ذلك إنكارًا كليًا وكان العامل على بلاد أفريقية من قبل معاوية ابن أبي سفيان معاوية بن حديج الكندي.
وفي سنة ٤٧ عزل معاوية ابن أبي سفيان عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر وولاها معاوية بن حديج الكندي وكان عثمانيًا فسار متوجهًا إليها من أفريقيا وكان قد قتل محمد ابن أبي بكر الصديق ﵁ فلقية عبد الرحمن ابن أبي بكر فقال له (يا معاوية قد أخذت أجره من معاوية ابن أبي سفيان حين قتلت محمد ابن أبي بكر الصديق ليوليك مصر فقد ولاكها) فقال (ما قتلت محمد ابن أبي بكر لولاية وإنما قتلته لما فعل بعثمان ﵁ وفي سنة ٤٨ كان العامل على مصر وأفريقية لمعاوية ابن أبي سفيان معاوية ابن حديج.
1 / 18
وفي سنة ٤٩ غزا عقبة بن نافع الفهري الروم في البحر بأهل مصر وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة وأمر عليها سعيد بن العاص وكانت ولاية مروان المدينة لمعاوية ثماني سنين وشهرين. وفي سنة ٥٠ من الهجرة عزل معاوية بن سفيان معاوية بن حديج عن أفريقية وافره على ولاية مصر ووجه إلى أفريقية عقبة بن نافع الفهري.
ذكر ولاية عقبة بن نافع أفريقية
وغزواته فيها واختطاطه مدينة القيروان
نسبه هو عقبة بن نافع بن عبد قبس بن لقبط بن عامر بن أمية بن طرف بن الحارث بن فهر ومن فهر بن مالك تفرقت القبائل وقال ابن أبي الفياض أن عقبة ولد قبل وفاة رسول الله ﷺ بسنة واحدة قال إبراهيم بن القاسم: ووصل عقبة بن نافع الفهري إلى أفريقية في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها ودخلها ووضع السيف في أهلها فإنني من بها من النصارى ثم قال (إن أفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون غزا للإسلام إلى آخر الدهر) فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين وقالوا (نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط) فقال عقبة (إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يدركه صاحب البحر إلا وقد علم به) وإذا كان بينها وبين البحر ما يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون فلما اتفق رأيهم على ذلك قال (قربوها من السبخة فإن دوابكم الإبل وهي التي تحمل أثقالكم فإذا فرغنا منها لم يكن لنا بد من
1 / 19
الغزو والجهاد حتى يفتتح الله لنا منها الأول فالأول وتكون إبلنا على باب قصرنا في مراعيها آمنة من عادية البربر والنصارى) قال الاشبيلي في مسالكه (إن البربر حين دخلوا المغرب وجدوا الإفرنج قد سبقوهم إليه فأخلوهم حتى اصطلحوا على أن يسكن البربر الجبال وتسكن الإفرنج الاوطئة فبنوا المدائن بها. (رجع الخبر) وفي سنة ٥١ شرع عقبة ﵁ في ابتداء بناء مدينة القيروان وأجابه العري إلى ذلك ثم قالوا (إنك أمرتنا ببناء في شعاري وغياض لا ترام ونحن نخاف من السباع والحيات وغير ذلك) وكان في عسكره ثمانية عشر رجلًا من أصحاب رسول الله ﷺ وسائرهم من التابعين. فدعا الله سبحانه وأصحابه يؤمنون على دعائه ومضى إلى السبخة وواديها ونادى (أيتها الحيات والسباع نحن أصحاب رسول الله ﷺ فارحلوا عنا فأنا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه) فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر معجب من أن السباع تخرج من الشعرى وهي تحمل أشبالها سمعًا وطاعة والذئب يحمل جروه والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس (كفوا عنهم حتى يرحلوا عنها) فلما خرج ما فيها من الوحش والسباع والهوام والناس ينظرون إليها حتى أوجعهم حر الشمس فلما لم يروا منها شيئًا دخلوا فأمرهم أن يقطعوا الشجر فأقام أهل أفريقية بعد ذلك أربعين عاما لا يرون فيها حيًا أو عقربًا ولا سبعًا فاختط عقبة أولا دار الإمارة ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختطه ولم يحدث فيها بناء فكان يصلي فيه وهو كذلك فاختلف عليه الناس في القبلة وقالوا (إن جميع أهل المغرب يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد فأجهد نفسك في تقويمها) فأقاموا أياما ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس فلما رأى أمرهم قد اختلف بات مغمومًا فدعا الله ﷿ أن يفرج عنهم فأتاه آت في منامه فقال له (إذا أصبحت
1 / 20