وعلى هذا؛ فإن الحرية المؤسسة على العدل وحسن السياسة، تكون كافلة لجميع مصالح الأمة، مسببة سعادة المملكة والبلاد، داعية لحب الوطن، جامعة للرعية على التعاون والتعاضد لما به خير أوطانهم وأنفسهم؛ لذلك لا ينبغي التضييق على أحد أفرد الجمعية ومنعه من التمتع بحقوقه الوطنية وتوقيفه عما يجوز له عمله بغير وجه قانوني؛ فإن كل عضو من أعضاء الأمة مباح له الإتيان بما يجوز له شرعا غير مكلف بما لا تتيحه له القوانين المحلية والأحكام الشرعية.
وبالجملة، فعلى الحاكم إجراء تمام العدالة والإنصاف ومزج اللين بنوع من الشدة؛ ليكون آمنا على المملكة، مريحا للرعية، بعيدا عن نفرتهم، جالبا لسعادة البلاد. كما ينبغي أيضا لكل فرد من أفراد الأمة طاعة حاكمه وإكرامه، وعدم خروجه عن دائرة قوانين بلاده، مع إجراء جميع الوسائل الراجعة بالنفع على وطنه؛ فإن الإنسان مكلف بكل ما من شأنه أن يدفع الضرر عن الأوطان، ويجلب الخير والفائدة لها. فإذا كلف الحاكم الأهالي على دفع العدو عن البلاد، ومقاومة كل من يريد استلاب حريتها، لا يعد هذا من الحاكم تكليفا؛ فالوطني مجبور على المحاماة عن حقوقه الوطنية، لما جبل عليه الإنسان من الأنفة والعزة وإباء الحقارة والذل.
ثم إن من أعظم منافع الحرية، حرية الأعمال الأربعة: التجارة والصناعة والفلاحة والأعمال الفكرية والبدنية التابعة للحرية الشخصية؛ لأنها السبب الأكبر في تقدم البلاد وسعادتها وبها تكون تربية الهمم الإنسانية. فقد ثبت أن كل مملكة حازت تمام هذه الحرية أصبحت ثروتها عظيمة ومنافعها عميقة، فالترخيص بها يجلب المنافع العمومية ويكسب البلاد رونق الجد والترقي إلى الدرجات العلية. فكل عاقل عارف بمنافع هذه الحرية، يرى أن أصعب ما يكون تضييق نطاقها وعدم اكتراث الحكومة بها. وقد يكون في بعض الممالك التضييق بها، وربما كان ذلك لكون الحاكم يرى عدم أهلية الرعية لها منتظرا بذلك تمكن التربية منهم واستكمالها فيهم، وإصلاح حالهم ليبيح لهم التصرف بالعمليات الواسعة، ويرخص لهم باتساع الدوائر الزراعية والصناعية، ويبين لهم أسباب التمدن والتقدم، لتستنير أبصارهم وترشد عقولهم.
وينبغي أن تكون تلك الحرية مؤسسة على العدل وحسن نظام الأمة؛ ليكون المحترف آمنا على نفسه وماله من اغتصاب نتائج أتعابه وتعطيله عن أسباب معيشته لأغراض عدوانية. فما ينفع الناس أن تكون أرضهم خصبة يانعة الثمار، إذا كانوا لا يتحققون الحصول على ثمرات أتعابهم ونتائج أرضهم خوفا من هضمهم حقوق تعبهم، ومن الذي يقدم حينئذ على زراعتها مع ضعف أمله إما لما ذكرنا وإما لتعذر جلب أرزاقها من بلد إلى آخر، لما يطرأ عليها من الفساد في الطريق أو لكون أجرتها أضعاف ثمنها؟! كما هو واقع الآن في ديارنا السورية؛ فإنك إذا أخذت مدا «هو كيل مشهور» من القمح مثلا من حوران - هي بلاد خصبة في جنوب دمشق - فمعظم ثمنه يكون أحيانا سبعة غروش، وإذا أردت إرساله من حوران لأي جهة كانت تدفع أجرة مشاله ونقله كما دفعت في ثمنه أو أكثر. لذلك من أهم ما جنته الدول الأوروباوية من كمال الحرية تسهيل المعاملات التجارية بما اخترعوه من السكك الحديدية وتعاضد الشركات الأهلية، والإقبال على تعلم جميع الفنون العلمية والصناعية.
وبالجملة، فإن الحرية نافعة في كل الوجوه وبها يحصل تمام القدرة على الإدارة المتجرية، وإذا فقد الناس الحرية والأمنية يضطرون بالطبع إلى إخفاء مجتنيات بلادهم، فتتعذر الحركة التي ينشأ عنها تعطيل الأشغال ويستولي على الأهالي الوهن والفقر، ما لم يمنح الرعية حريتها بالأشغال وتساعدها الحكومة على أسباب التسهيل وانتشار المعارف وتقوية الشركات؛ إذ لا يخفى ما بقوة الاجتماع من القدرة على الأعمال العادية. هذا وقد بقي علينا أن نذكر ما لحرية المطابع من الفوائد الجليلة والأهمية العظيمة؛ فإنها هي التي يسرت انتشار العلوم في الأقطار وجاءت للعالم بفوائد لا تحصى ومنافع لا تستقصى، سيما حرية الجرائد «صحف الأخبار» ذات الفوائد الجمة؛ فإنها من أعظم الأسباب المهذبة للعقول والمنورة للأبصار. لكن يشرط أن تكون مقيدة بقوانين لا تتعداها وخطط لا تتخطاها؛ لأن إعطاء الجرائد الحرية المطلقة قد يخل أحيانا بالراحة العمومية بما تنشره من المقالات على مقتضى الأغراض الشخصية التي تستدعي دقة النظر وتهيج أفكار العامة؛ فلذلك ينبغي أن تكون حريتهم متوسطة لا تفريط ولا إفراط حتى تعم بالفائدة مع تحاشي الضرر، كنشر ما يراه البعض ممن لا يتوصلون إلى الإدارات الملكية من الآراء المستحسنة السياسية ودرج المقالات الأدبية والنصائح والوقائع اليومية، والمدافعة عن الحقوق الجنسية والوطنية والحوادث التاريخية التي تنور أبصار الناس ويستنتج منها معرفة الأخبار اليومية. ولا أقل من أن يتحصل منها الإنسان على ما يهمه من معرفة حوادث بلاده ووطنه.
هذا فضلا عما لها من الفائدة بالأشغال التجارية؛ إذ ربما يمكث صنف البضاعة بائرا عند أحد التجار جملة أيام وشهور فيعلن بواسطة الجرائد عن محل وجوده ونوع بضاعته وحسن أقمشته، فيشهر محله في جميع الجهات وتروج بتلك الواسطة بضاعته ويحسن حاله، وهكذا جميع التجار على اختلاف أشغالهم كما هو جار عند الإفرنج الآن؛ فتراهم يزينون أعمدة الجرائد بالنقوش والرسومات المزخرفة مبينين بذلك أشكال بضاعتهم مرغبين الناس بحسن أقمشتهم فتروج تجارهم وتنتهي للأماكن البعيدة شهرتهم، وما ذاك إلا بواسطة الجرائد كما تقدم، ومنافعها من هذا القبيل لا تنكر، وإذا أردنا إحصاء ما ينجم عنها من الفوائد يطول الشرح.
لكن لسوء البخت أن ديارنا السورية محرومة من هذا الامتياز العظيم، فإنها مع احتياجها في مثل هذه الأزمان الجديدة إلى الجرائد الوطنية فهي بالنسبة لغيرها قليلة جدا لا تكاد تزيد عن خمس أو ست جرائد، منها واحدة وهي الرسمية تطبع في دمشق والباقي في بيروت. وهي في الحقيقة عديمة الجدوى؛ لأنه فضلا عن كون صدورها أسبوعيا، فهم لا يقدرون على نشر المقالات السياسية إلا ما ندر، حتى ولا الحوادث المهمة الوطنية والوقائع اليومية التي يستفيد منها الإنسان تنوير بصيرته ووقوفه على حوادث وطنه وأخبار بلاده. وما ذلك إلا لتشديد الحكومة على أرباب الجرائد تشديدا بغير محله، مع أن من الواجب على الحكومة إجراء جميع الوسائل المؤدية لترقي الأهالي وتقدم البلاد لتشترك معهم بالثروة والغنى وتمنحهم حرية وطنهم وتجعل للجرائد نظاما متوسطا لا يتعدونه. كما أنه ينبغي للجرائد الوطنية سلوك سبل الاعتدال وعدم الخروج عن دائرة الآداب الإنسانية وتحاشي القدح والمقالات التي تسود وجوه الصحف بظلمات الأغراض الشخصية إلا ما به فائدة العموم وداعية التعاضد والاتحاد؛ فإن الجرائد هي الواسطة لتهذيب أفكار الأمة وإرشادهم للمصالح الوطنية، ليس لفساد أفكارهم وضرر وطنهم. انتهى.
هذا ولما كان موضوع هذا الكتاب هو بيان أسباب التمدن والعمران، فقد أحببت أن أجعل خاتمة هذه الفصول فصلا مختصرا في العدل الذي هو السبب الأول لتقدم البلاد وتمدن العباد، وإن كنت قد بينت ذلك في فصل الحرية المتقدم غير مرة، لكن زيادة للفائدة وبيانا للمقصود.
الفصل الرابع
في ذكر العدل وأنه سبب العمران
Halaman tidak diketahui