فقد تناول شو في مسرحياته كل ما يتناوله الفكر من مسائل الفلسفة، ونظم الحكم، ومشكلات المجتمع والسياسة، وفصل القول في أمور لم يبحثها أبسن ولم يكن في طاقته أن يبحثها، وأطلق التمثيل من قيود الفصول القصار بما أبدعه من الملاحم المسرحية التي تستغرق الصفحات الطوال، وكانت منزلته الأدبية خير شفيع لتلك الملاحم عند الفرق التمثيلية التي تشتغل بالمسرح أو بالصور المتحركة. فلولا تلك المنزلة لما ظهرت روايات بهذه الضخامة على المسرح أو اللوحة البيضاء.
ومزية شو في مسرحياته تكاد تنحصر في حسن الحوار وعرض الأفكار، فهي فقيرة في المواقف، فقيرة في تكوين «الشخصيات» وتلوينها، وعبثا تحاول أن تلقى في رواياته شخصية كشخصيات شكسبير وموليير وسفوكليز، أو موقفا كالمواقف المحكمة التي يعرضها لنا أولئك الشعراء في مهارة خفية، يخيل إلينا أنها أحكمت تلك المواقف بغير عناء. فما في روايات شو من محزنات أو مضحكات فهو من كلمة تقال أو حوار مرتب بين السائل والمجيب، ولنا أن نقول إنه أقام لنا مسرحا أو فتح لنا ناديا بمعنى واحد، فالمسرح ونادي السمر والحديث في روايات شو توءمان.
يقول شرشل في مقاله البديع عن روايات شو: «إن من تجديداته الأخرى - والكبرى - أنه لا يعتمد في مسرحياته على التجاوب بين الشخصية والشخصية، أو على التجاوب بين الشخصية والبيئة، ولكنه يعتمد فيها على التجاوب بين الحوار والحوار، وبين الخواطر والخواطر، فتصبح خواطره شخوصا تتصارع فيما بينها، تارة بقوة مسرحية شديدة وتارة بغير ذلك، وتصبح شخوصه الإنسانية - مع استثناء قليل - عائشة بما تقوله، وليست عائشة بما تعمله، ولكنها مع ذلك تعيش.»
والفيلسوف «جود» تلميذ شو يتقبل هذا النقد ويضيف إليه قول القائلين: إن شخوص شو لا تعدو أن تكون أبواقا ينفخ فيها آراءه ودعواته. ثم يقول: إن هذا النقد تحصيل حاصل؛ لأنه يصدق على جميع المؤلفين وجميع الشخوص. «إلا أن بطلان التهمة إذا أريد بها أن الشخوص ليست أفرادا حية، بل مجرد تسجيلات صوتية كقوالب الحاكي، يكفي في إظهاره سرد أسماء كأسماء: ديك، ودجيون، ولادي سيسلي، ونفليث، ولويس، ديوبدات، وكانديدا، والقديسة جون، وكابتن شوتوفر ، وهم شخوص يعيشون بحقهم في الحياة لا بحق التأليف، ونحن نذكرهم أفرادا أحياء كما نذكر شخوص شكسبير وديكنز ...»
والذي ينساه جود أن تمييز الشخوص قد يرجع إلى فارق في صفة من الصفات غير صفة الحياة الطبيعية، كالفارق بين رسوم الصور المتحركة التي نفرق بينها لطول ما نعهدها في صورها، وإن خلت تلك الصور من الملامح النفسية التي يحدث بها التمييز بين إنسان وإنسان.
وشو في هذه الخصلة يكاد لا يختلف عن أستاذه هنريك أبسن، فهو أيضا يرسم لنا أفكارا في شخوص، ويعطيها من الحياة بمقدار ما لها من عبارات الحوار، وإنما الاختلاف بينهما في سعة النطاق من جانب، وضيق النطاق من جانب آخر، فشو أكبر منه تارة وأصغر منه تارة أخرى، وموضع امتياز شو هو ما أشرنا إليه من سعة موضوعاته وتعدد آفاقه، وموضع امتياز أبسن في عبارة الأداء لا في لباب الموضوع؛ إذ هو شاعر ينظم الملاحم في قصائد من الشعر السلس المطبوع، وشو لم يكن له من الشعر نصيب كثير ولا قليل.
صورة فحمية من عمل جارته كلير ونستن.
وقد حاول شو أن ينظم الشعر، فلم يعلن منه غير مقطوعات غزلية فكاهية، تحسب مع الشعر الذي ينظم لمحفوظات الأطفال، وسئل عن محاولته الشعر وعدوله عنه، فقال إنه تركه لأنه رآه يملي عليه ما تحكم به القافية ولا يقول فيه ما يعنيه، وهو عذر لو منع شاعرا لامتنع الشعر كله، ولكنه عذر من ليس بشاعر؛ لأنه لا يستطيع أن يعبر بالشعر عما يريد. •••
ومنزلة شو في التعليقات الموسيقية تلي منزلته في المسرحيات، وإن لم يصح فيها أن يقال إنه صاحب مدرسة في هذه التعليقات.
ويظهر أن سليقة الموسيقى ملكة موروثة من أمه، وأن فائدته من الملحنات التي وضعها نوابغ الموسيقيين - ولا سيما ڤاجنر - أكبر من كل فائدة استفادها من المسرحيات التي وضعها كبار الشعراء والكتاب؛ إذ يغلب على مسرحياته أنها ملحنات لفظية تنوب فيها النكات والكلمات عن الأغاني والألحان، وأنها سمط ينتظم النكتة هنا والجواب المسكت هناك، كما جعلت الملحنات سمطا لانتظام الألحان الموقعة في شتى المناسبات.
Halaman tidak diketahui