وعندما نتأمل أسلوب حياته نجد أنه ينطوي على الاعتقاد بأن الأمراض هي نتيجة الحضارة القائمة، وأنها جميعا تقريبا تعود إلى الفقر، وإلى الجهل بقيمة ارتباطنا بالطبيعة، فقد كان يرفض التدخين ولا يشرب الخمر أو القهوة أو الشاي، كما كان ينام في غرفة مفتحة النوافذ حتى في الشتاء، وكان يمشي كل يوم نحو ثمانية كيلو مترات، وكان يتسلق الأشجار ويقطع غصونها، بل إنه مات عقب كسر حدث له عندما سقط من شجرة وأدى الكسر إلى التزامه الفراش في المستشفى، فأصابته نزلة شعبية مات بها.
برنارد شو وه. ج. ويلز.
وكلنا يعرف أنه التزم الطعام النباتي منذ بلغ التاسعة والعشرين من عمره، وإن يكن هو يعزو هذا الالتزام إلى الإنسانية وليس إلى المنفعة الصحية، ولكننا مع ذلك لا نتمالك الإحساس بأنه حين قاطع المنبهات والمخدرات، وحين أصر على النافذة المفتوحة وقت النوم، وحين مارس المشي كل يوم وتسلق الشجر، وحين التزم الطعام النباتي، إنما كان ينبعث في كل ذلك بالدعوة التي سادت في القرن التاسع عشر والتي بذر بذرتها جان جاك روسو وهي: عودوا إلى الطبيعة؛ لأن الطبيعة هي الإنسانية، وهي الصحة، وهي الهدوء والطمأنينة، وهي شاطئ الأمان من مفاسد الحضارة.
والواقع أن الطبيعة لم تكن قط في يوم ما كذلك، وإنما كانت في أحيان كثيرة «حمراء بين الناب والمخلب» ولكن الأفكار أو الخيالات الرومانسية كثيرا ما حفزت ونفعت. أجل، وغيرت الواقع.
وقد تأمل برنارد شو الطب، وانتهى إلى أنه فن أو علم ناقص. ولا تنس أن درامته هذه التي ألفها عن هذا الموضوع ظهرت كما قلنا في 1906، وكان من أحسن ما قاله أن الفضل في تقدم الصحة العامة في الشعوب المتمدنة يعود إلى الهندسة وليس إلى الطب؛ لأن المهندسين صنعوا أنابيب المياه التي تحمل الماء المصفى إلى المنازل وتنزح الماء القذر في أنابيب أيضا إلى خارج المدن.
ومع ذلك ليس كل الفضل للمهندسين؛ ذلك أن حركة التمدن وزيادة الثراء العام يعدان من العوامل الأولى في تقدم الصحة الوقائية التي كان معتمدها - إلى بداية هذا القرن - على النظافة، وأولى الوسائل للنظافة الشخصية هي الصابون الذي كان يحتاج إليه الفقراء ولا يجدونه، ولكن اتساع الثراء العام جعل هذه السلعة في متناول جميع الطبقات التي استطاعت أن تتخلص بها من أمراض بكتيرية عديدة.
كما أن تعميم النظافة التي يطالب بها التمدن ذوقا وييسرها اقتصادا، جعل العدوى بالحشرات - كالقمل والبراغيث - محصورة أو معدومة، وأصبح الغذاء وافيا في كمه على الأقل بتوفير الطعام.
وكل هذا، قبل اكتشاف الفيتامينات واختراع الضديات، مما جعل الصحة العامة على مستوى حسن وإن لم يكن عاليا، ولم يكن الفضل في شيء من هذا للطب، وإنما كان - كما قلنا - للهندسة وللتمدن والارتقاء العام.
وقد كان هذا الكلام حقا وصوابا، ليس إلى 1906 فقط بل إلى 1930 أو 1940، أما بعد تلك السنين فقد وثب الطب جملة وثبات حاسمة، فعثر على عقاقير السولفا أولا ثم الضديات ثانيا، وإلى جنب هذا، أو قبل هذا، عرفت الفيتامينات. ويستطيع المتأمل لهذه العقاقير أن يصف هذه المكتشفات بكلمة الثورة، وهي ثورة على ثلاثة أو أربعة آلاف سنة ماضية من الطب والشعوذة.
وأرجو القارئ ألا يلومني على جمعي بين هذين اللفظين؛ فإن المعاجم العربية لا تزال تقول إن الطب هو السحر، وقد كان كذلك بلا شك في أصله، بل إني حين أتأمل إقبال المرضى أو الواهمين على استعمال العقاقير بلا تعقل، وعلى إنفاق المبالغ الضحمة عليها، أكاد أحس أن الطب لا يزال فيه من الجاذبية ما يسحر به الجماهير ويجذب أموالهم إلى الصيادلة والأطباء بلا أدنى منفعة لها.
Halaman tidak diketahui