وهذا الاتجاه نجده على أقصاه عند «برتراند رسل» الفيلسوف الإنجليزي المعروف؛ فإنه يعتقد أن الزواج سوف يكون من التبعات الاجتماعية للارتقاء بالنسل جيلا بعد جيل، حتى ليقول إن الجيل القادم سوف تختار الدولة أفراده قبل ميلادهم، أي باختيار آبائهم.
بل هو يرغب في تخصيص بعض النساء للأمومة دون غيرهن، ويكتب هذه الكلمات التي يعدها غيره كلمات كافرة فاجرة:
نستطيع أن نتوقع في المستقبل، من حيث التنظيم الجدي للكم والكيف (في النسل)، أنه سيكون في كل جيل 25٪ من النساء و5٪ من الرجال يختارون لأن يكونون آباء لأبناء الجيل القادم ، أما سائر أفراد الشعب فيعقمون حتى لا ينجبوا أطفالا، وهذا التعقيم لن يمنع الاتصال الجنسي بأية حال ولكنه يجعل هذا الاتصال خاليا من الآثار الاجتماعية ... والنساء اللائي يخصصن للتناسل ستحمل كل منهن وتلد ثمانية أو تسعة أطفال، ولكنها لن تكلف القيام بأي عمل لمدة شهور، ولن توضع أمامهن عقبة لمنع اتصالهن بالرجال المعقمين، ولكن التناسل سيكون من شئون الدولة ولن يترك حرا للاختيار بين الجنسين، وربما يكون «التلقيح الصناعي» أوكد في الإخصاب وأقل إحداثا للارتباك إذ هو يغني عن الاتصال الشخصي بين الأب والأم المختارين لإنجاب الطفل المنشود، ولن يكون للآباء أية صلة بالأبناء، وسيكون هناك على وجه عام أب واحد لكل خمس من الأمهات، وربما لا يرى الأب أولئك الأمهات اللائي حملن بأبنائه إذ هن قد يحملن بالتلقيح الصناعي؛ وعلى ذلك لن تكون هناك عاطفة أبوية ...
قال برتراند رسل هذه الكلمات في كتابه «النظرة العملية»، وقد رأيت أن أنقلها للقراء وإن لم تكن من تأليف برنارد شو؛ وذلك لاعتقادي أن برنارد شو يوافق عليها كفكرة، وأيضا لأني أحب أن يقف جمهور القراء العرب على ما يفكر فيه فلاسفة أوربا وبرتراند رسل في مقدمتهم؛ إذ ليس هناك أسوأ من أن نحرمهم الوقوف على هذه الاتجاهات الأوربية، ولا يمكن أن يكون الجهل فضيلة، ومهما تكن هذه الأفكار منافية لعاداتنا وتقاليدنا، بل مهما تكن هذه الأفكار فجة نابية، فإنها تعالج أعظم الموضوعات للإنسان في هذه الدنيا، وهو موضوع تطوره وإيجاد نوع أو سلالة جديدة ترقى عليه بميزات جديدة.
وقد انخفض التفكير الفلسفي، بل انعدم، في مصر وسائر الأقطار العربية بالمثابرة على منع الأفكار الأوربية من التسلل إلينا، ونظمت قوى مظلمة تحت أسماء «البوليس السياسي» أو «القلم المخصوص» في مصر لمراقبة المؤلفات الأوربية التي تحوي مثل هذه الآراء، وخاصة الآراء الاشتراكية والشيوعية، وبقيت شعوبنا العربية في جهل أكثر من أربعين سنة لأسلوب الحياة في روسيا وسائر دول الاتحاد السوفيتي، ومنعت ترجمة «البيان الشيوعي» لكارل ماركس خشية أن يؤدي إلى حركة شيوعية، مع أن روسيا نفسها لم تصل بعد إلى النظام الشيوعي ، وأستطيع أن أقول إنه قد حبس عشرات في مصر لأن هذا الكتيب قد وجد في مساكنهم.
والذي أراني مضطرا إلى الاعتراف به أن السياسي الذي يحيى في عصرنا، ولم يقرأ بل لم يدرس «البيان الشيوعي» الذي ألفه كارل ماركس، إنما هو إنسان جاهل، وجهله يبلغ أعلى مراتب الخطر؛ إذ لن يستطيع أن يفهم حركة التاريخ الحاضر أو الماضي أو المستقبل، ولن يفهم معاني القوة وتطور المجتمع، بل أساس الاستعمار الذي ما زال جزء كبير من العالم يعانيه.
والعقوبة على القراءة، ودعوة «ألا تقرأوا» هما في صميمهما إنكار للعقل البشري وجحد للذكاء، وأيما أمة تفعل ذلك إنما تنتحر.
وليس من الضروري أن نصير شيوعيين حين نقرأ «البيان الشيوعي» كما ليس من الضروري أن نقوم بدعوة إلى إلغاء الزواج كما هو الآن حين نقرأ ما كتبه برتراند رسل، إنما من الضروري أن نقف على الآراء البازغة في أوربا، التي تسود الدنيا، وأحيانا تستبد بنا؛ أي بمصر أو الهند أو العراق أو غيرها من الأقطار.
يجب أن نعرف هذه الأفكار، ونتأملها، في ضوء أحوالنا الاجتماعية والثقافية؛ لأن أقل ما فيها أننا نألف التفكير الحر ونعتاد دراسته، ثم نعرف كيف تحيى هذه الدنيا، أي كيف يحيى ثمانمائة مليون إنسان شيوعي، وليس الجهل هنا فضيلة وإنما هو رذيلة من أسوأ الرذائل، كما ليس الجهل بالأفكار الفلسفية مهما شطحت ونطحت، من الفضيلة أيضا.
الفقر . الفقر . الفقر
Halaman tidak diketahui