وعندما أذكر برنارد شو وأتأمل مؤلفاته التي لم يفتني منها كتاب أو مقال، أحس أنها تكفي لتخريج المثقفين في الموضوعات المعقدة التي عالجها وهي عشرات، كتبها جميعا في لغة بعيدة عن البهارج التي تشغل القارئ أو المستمع وتحول بينه وبين التفكير المتزن، وهذه المؤلفات كلها تقريبا درامات تمثل، وتتناول كل منها مشكلة فلسفية أو اجتماعية بل أحيانا مشكلة دينية، ولكنه كان حين يخرجها كتبا مطبوعة، يكتب لكل منها مقدمة قد تزيد أحيانا في عدد صفحاتها على الدرامة نفسها، وهو يشرح فيها موقفه بأكثر إسهابا من المشكلة التي عالجها في الدرامة، وساعده على إخراج دراماته - بما تحويه من فهم عميق - مناخ من الحرية الفكرية يحيا فيه المفكر وينمو ولا يجد عائقا من تقاليد مشئومة تقول له: قف هنا ولا تفكر، التفكير ممنوع.
ولذلك لم يصطدم إلا في الأقل بالقانون أو العرف حين منع تمثيل بعض دراماته، ولكن لم تمض سنوات على المنع حتى أجيز تمثيلها ثانيا، حدث ذلك في درامة ألفها بشأن الكسب الحرام من المواخير، حين حمل على النظم التجارية الأخرى لأنها تجيز الخسة والدناءة والاستغلال السافل كما يحدث في المواخير سواء، وحدث مرة أخرى في درامة تتصل بالإيمان بالله، جعل فيها أحد الأشخاص ينتقد الله في حماقة ويسب ويهاتر، ولكن أجيز التمثيل بعد مدة من المنع.
وكل ما أقصد إليه أن مناخ الحرية يجرئ على التفكير؛ لأن مصير الانحراف إلى الإهمال والتلاشي، ويبقى بعد ذلك الناضج الذي يؤدي إلى الرقي، وهذا هو ما يجعل من المسرح مدرسة بل جامعة.
ومع أننا نضحك كثيرا ونقضي الساعات ونحن نستمع إلى الحوار الذكي والنكات الصارخة التي تخرج من أفواه الممثلين؛ فإننا نجدنا في موقف قد وضعنا فيه المؤلف، يحملنا على أن نسأل ونرتبك ونحاول أن نفهم ونتغير، بل قد نحزن كثيرا على الرغم من الكلمات والنكات التي أضحكتنا كثيرا.
وبرنارد شو أديب الأفكار. وهنا أقف كي أعرب عن الأسف بأن أدب الأفكار لا يكاد يوجد في الأقطار العربية، وإني أسأل لماذا لا يكون عندنا مثلا معجم للأفكار التي أثارت الثورات وحركت العقول وغيرت المجتمعات، كما أن عندنا معاجم كثيرة للألفاظ؟
ولأن أدب برنارد شو هو أدب الأفكار فإنه - مثل فولتير - عني بالعلم عناية كبيرة، فقد يجهل القراء أن فولتير أديب أوربا العظيم وصاحب الدعوات التحريرية، قد انغمس في دراسة العلوم حتى إنه ألف مجلدين تبلغ صفحاتهما نحو 1000 صفحة كبيرة يبحث فيها، على قدر عصره، مشكلات العلم المادي.
وكذلك فعل برنارد شو؛ فإنه ناقش نظرية داروين والمعاني المنبثقة منها بشأن التنازع والتعاون في الطبيعة، كما ناقش عوامل الوراثة وعوامل الوسط وتأثيرهما في التطور، بل ناقش الأطباء في حكمة العلاج والدواء، وهذا إلى بحوثه العميقة في معاني التربية وأهدافها.
لقد عني برنارد شو كما عني فولتير بالعلم لأن العلم أفكار وليس ألفاظا. •••
إن العبرة التي نحتاج إلى تأملها أن المسرح الأوربي لا يزال يحيا قويا، يتسع للبحوث الفلسفية الاجتماعية، في حين أن مسرحنا يكاد يكون لغوا نسيا لا نأبه به ولا نكاد نذكره، وهذا الاختلاف بين المسرحين يجب أن يهمزنا إلى البحث عن العلة وإلى طلب العلاج؛ إذ نحن بإهمال مسرحنا تنقصنا مدرسة بل جامعة.
لقد أنشأنا الأوبرا منذ أيام إسماعيل، لكن حكم المستعمر الأجنبي، يؤيده الخائن المصري، كان يحمل الحكومة على معاونة التمثيل الأجنبي دون التمثيل المصري، بل لم تكن هناك أية محاولة جدية لإيجاد الفنون المسرحية العربية.
Halaman tidak diketahui