كلمات للتأمل، كأن كلا منها مشكلة، ولكن بلا زينات أو زخارف، بل الحق لو أنه كان قد زخرف أو زين هذه الكلمات لكان قد ضللنا بعض الشيء عن الفهم والتعقل لما قاله.
وأسلوب التعبير، أي أسلوب التفكير، عند برنارد شو يمكن أن نصفه بعد كل الذي ذكرنا عنه، أنه علمي، موضوعي، غير عاطفي، وهو يمتاز على الدوام بالنظرة البكر، كأنه يعالج الموضوع كما لو لم يكن قد عالجه أحد غيره من قبل، وهو يعالجه في هدوء، ولكن مع إحساس المسئولية التي ترتفع أحيانا إلى إحساس الرسالة، بل الحق أن إحساس الرسالة يغمره، حتى إنك لتحس أنه يكتب كما لو كان نبيا أو كاهنا، ولكنه يسترشد بالعقل وليس بالعقيدة.
انظر في هذه الكلمات الحكيمة التي كتبها عن النقود، أي علاقة الثراء والفاقة بالفضائل، واعتبر أسلوبها المواجه الصريح:
أهم الأشياء في هذه الدنيا هو النقود؛ إذ هي تمثل الصحة والقوة والشرف والسخاء والجمال، تمثلها جميعها في وضوح بارز، كما أن الحاجة إلى النقود تمثل أيضا في مثل هذا الوضوح البارز؛ المرض والضعف والفضيحة والدناءة والقبح، ومن فضائلها التي لا تعد صغيرة أنها تدمر الأدنياء من الناس كما أنها تقوي وتعظم النبلاء ... وحاجتنا العظمى ليست هي الأخلاق الحسنى، أو الخبز الأرخص، أو الاعتدال في الشراب، أو الحرية أو الثقافة، أو إنقاذ إخواتنا الساقطات أو إخواننا الخطاة ... وإنما هي الكفاية من النقود.
أو انظر في كلماته التالية في الموضوع نفسه:
ما معنى أن يكون الإنسان فقيرا؟ معناه أن يكون ضعيفا وأن يكون جاهلا، وأن يكون بؤرة للأمراض، وأن يكون معرضا دائما للقبح والقذر، وأن يكون أطفاله مرضى بالكساح، وأن يكون رخيصا في أجره عندما يعمل، فيجر - بانخفاض أجره - زملاءه إلى حضيضه، ومعناه أن تستحيل مدننا بؤرا سامة بسبب المساكن التي يعيش فيها الفقير، ومعناه أن تنقل بناته عدوى الأمراض التناسيلة إلى شبابنا، وأن ينتقم أبناؤه لشرف أخواتهم منا بأن يفشوا بيننا الجبن والقسوة والنفاق والبهيمية السياسية والإسخربوط وسائر ثمرات الظلم وسوء الغذاء.
هكذا يتكلم برنارد شو عن الفقر وآثاره في الشعب، وهذه لغته التي تفحم بسذاجتها وصراحتها وإيجازها، لأنها أفكار صريحة وليست ألفاظا مزينة، والآن اقرأ ما يقوله عن الأسباب التي تدعوه إلى تأليف دراماته، وكأنه هنا يعترف، وهو يعترف في شجاعة وصراحة معا؛ إذ يقول:
لست أنا من الكتاب العاديين المألوفين؛ إذ أنا اختصاصي في تأليف الدرامات التي تتصل بالأخلاق والزندقة، وقد كسبت شهرتي بمثابرتي على الكفاح كي أحمل الجمهور على أن يعيد النظر في أخلاقه، وأنا حين أؤلف دراماتي إنما أقصد منها إلى هدف هو حمل الشعب على أن يأخذ بآرائي في شئونه الجنسية والاجتماعية، وليس في نفسي باعث آخر للكتابة إذ إني أستطيع أن أحصل على لقمتي بدونها.
ولبرنارد شو درامة اسمها «منازل الأرامل» ألفها في فضح النظام الاقتصادي الانفرادي الذي يقوم على المباراة وجمع المال والتفوق والثراء، وما يجلبه كل هذا من رذائل وجرائم، وهذه الدرامة تجري على أسلوب درامة «وظيفة المسز وارين» من حيث الأسلوب والهدف. قال في مقدمة «منازل الأرامل» ينتقد نفسه ويبرر موقفه:
إني أتقدم بنقدي لمؤلف «منازل الأرامل» وأقول إن ما كان يجعل عظماء المؤلفين المسرحيين يؤلفون المأساة إنما يجعلني أنا مستهزئا، والاستهزاء هو جو أقل صفاء من جو المأساة، وقد كنت أحب أن أؤلف مسرحية جميلة مثل «الليلة الثانية عشرة» لشكسبير أو مسرحية رائعة تتمثل فيها المأساة، ولكني أصرح بأني عاجز عن ذلك؛ وذلك لأن نظامنا الاجتماعي التجاري هو مدرسة سيئة لتعليم الفنون، ولا يمكنه - أي هذا النظام - مع ما فيه من اللصوصية وسفك الدم والبغاء، أن يحرك في نفوسنا النزعات السامية في الحسرة والرهبة؛ إذ هو نظام قبيح دميم، كما هو عقيم سافل، يحفل بالأخطاء ويبعث على السخرية مع زعمه على الدوام بأنه يدعو إلى سعة العقل والإنسانية والإقدام، مع أن هذه صفات أبعد ما تكون منه، وليس أخطائي أنا - أيها القارئ - أن أتناول بفني التعبير الصادق عن الخسة الذهنية الأخلاقية بدلا من أن أعبر به عن الإحساس بالجمال؛ فقد أمضيت معظم حياتي في المدن الكبرى العصرية حيث لم أشبع في نفسي الإحساس بالجمال، وهذا في الوقت الذي حشي فيه ذهني بمشكلات المنازل البالية القذرة كتلك التي عالجتها في هذه الدرامة، وبقيت على هذه الحال إلى أن أصبحت أتذوق هذه الموضوعات في فظاعة وأن أجعل منها مادة لفني.
Halaman tidak diketahui