وإنه لحظ كبير للرجل المثقف أن يكون قد اهتدى إلى كارل ماركس منذ شبابه، وقد عرفه برنارد شو قبل أن يبلغ الثلاثين واستضاء عقله به طيلة حياته.
أما المعلم الثاني الذي تأثر به برنارد شو فهو فريدريك نيتشه الذي غرس فيه فكرة الإنسان الأعلى (أي السبرمان) الذي سوف يقف منا ما نقفه نحن من القردة؛ فإن هذه الفكرة الجليلة جعلت من التطور عند برنارد شو دينا حميما يؤمن به ويهدف إلى غاياته البشرية.
فهو يحدثنا عن شهوة التطور في الإنسان، بل يزيد في عمق التعبير فيقول «الغلمة إلى التطور» باعتبار أنه أساس الحياة ونظامها، وأن الوقوف عن التطور تعاقب عليه الطبيعة بالمحو والإبادة، بل هو يذكر الدين بأنه يجب أن يتطور، وأن ما نؤمن به هذا العام من عقائد دينية ليس من الضرورة أن نؤمن به في العام القادم؛ إذ يجب أن تتسع وتتعمق عقائدنا وتستنير بالكشوف العلمية التي تخدم الصحة والرقي.
وفكرة السبرمان مع ذلك سبقت داروين والتطور، ونحن نجدها عند نيتشه ذات معنيين اضطرب هو بينهما. فإنه دعا إلى أن تسمو الشخصية الفذة على مألوف المجتمع وقوانينه بحيث يصير كل إنسان قانونا لنفسه مستقلا في قواعده وأهدافه بعيدا عن سلطة «القطيع»، وهو هنا وجودي، وربما كانت شخصية جيته الأديب الألماني العظيم هي التي ألهمت نيتشه هذه الفكرة التي لا تعدو أن تكون اجتماعية.
ولكن نيتشه أيضا يذكر لنا القردة، ويقول إننا يجب أن نهدف إلى إيجاد إنسان أعلى من الإنسان الحاضر، وأن الإنسان الحاضر يجب أن يلغي نفسه، بأن يكون جسرا تعبر عليه الطبيعة من القرد إلى السبرمان، وهو هنا بيولوجي.
وفكرة برنارد شو عن السبرمان - أي الإنسان الأعلى - بيولوجية وليست وجودية؛ أي إنه يرغب في إيجاد إنسان مختلف منا، زائد علينا، في طول العمر وذكاء الفهم وصحة الجسم ... إلخ، وهو هنا يعتمد على خاصة التطور التي يختص بها كل حي والتي ينقرض وينمحي من الدنيا إذا فقدها.
وربما كان أعظم مؤلفات برنارد شو درامته المسماة «الإنسان والسبرمان» التي تقرأ ولا تمثل؛ إذ لا يمكن أن تمثل إلا بعد حذف الكثير منها مما يخل بمغزاها، وهي تدل القارئ على ديانة برنارد شو البيولوجية بل على رسالته في أدبه وفنه.
أما المعلم الثالث الذي تعلم منه برنارد شو فهو صمويل بطلر، وهو أديب إنجليزي حارب النفاق الاجتماعي الذي كان يقول بأن الحياة العائلية الإنجليزية تسمو وتسعد بروابطها المقدسة، واستطاع بمؤلفاته أن يشرح للقراء هذا النفاق وأن يبين تعس الأطفال بين الآباء الذين يصرون على أن ينشئوهم على غرارهم وفق عقائدهم وعاداتهم. وقد ألف في النقد والقصص، وله قصة خيالية فريدة تدعى «ايروين» عن شعب يعاقب على المرض ولا يعاقب على الجريمة، وهو يرمي إلى مغزى هو أن الجريمة كالمرض تحتاج إلى العلاج وليس إلى العقاب، وانغمس في مجادلات مثيرة بشأن مذهب داروين في التطور وعارض القول بأن «تنازع البقاء» هو أساس التطور، كما عارض أن التطور حركة عمياء في الطبيعة لا تهدف إلى قصد، وكتابة «الحياة والعادة» ينقلنا من داروين إلى لامارك من حيث إن العادات هي الأصل في التطور، وأن الابن ثم الأحفاد ثم السلائل، كلها ترث ما اعتاده الآباء والأسلاف من عادات جديدة اقتضتها بيئات جديدة، وأن تراكم العادة جيلا بعد جيل يؤدي إلى خصائص وراثية تتغير بها الأحياء وتتطور.
وانتفع برنارد شو كثيرا بصمويل بطلر وأخذ عنه هذه الأفكار جميعها، وتناولها في كثير من مؤلفاته بالشرح والتوسع، وقد أخصبت ذهنه وزادته إنسانية كما زادته بصيرة في دلالة العلم.
والمعلم الرابع لبرنارد شو هو هنريك إبسن المؤلف النرويجي.
Halaman tidak diketahui