حياة «الكوخ الهندي» من جديد، ولكن بلا رحلة إلى أفريقيا.
ولم ينجح دافيدسون في إقامة مجتمع على هذه القواعد، ولكنه نجح في إنشاء جمعية يرتبط أعضاؤها بالنية والعزم على أن يحيوا حياة جديدة، وكانت المحاضرات تلقى، والمناقشات تحتدم في هذه الجمعية عن الجديد والنافع والسامي في الحياة.
ثم يكون من المناقشات والمحاضرات انبعاثات جديدة في التفكير والفهم إلى رحاب واسعة من التجارب والاقتحامات في «يقظة الوعي»، فنجد عشرات من المطاعم النباتية تنشأ في لندن ويقصد إليها الإنسانيون الذين يأنفون من جعل بطونهم قبورا للحيوانات، ويبدأ برنارد شو حياته في مقاطعة اللحوم، ويعيش سبعين سنة لا يذوق اللحم، ويترك الأديب الإنجليزي «إدوارد كاربنتر» أعماله في لندن ويقصد إلى الريف الإنجليزي حيث يزرع بيده الكرنب والبطاطس ويأكل من عرق جبينه ويؤلف كتابا بعنوان: «مرض الحضارة وكيف نعالجه؟»، ونجد العالم الطبيب «هافلوك أليس» يؤلف ستة مجلدات عن الحب والزواج والعلاقات الجنسية، ويتزوج الآنسة لي، ويحيا كل من الزوجين في منزل منفصل عن الآخر، ويشرع «رمزي مكدونالد» في الدعوة إلى الاشتراكية ويرأس حزب العمال.
ويؤلف ثلاثة من الأدباء، هم: وليم موريس وتشسترون وبيلوك مؤلفاتهم عن ضرورة ترك الحضارة الحديثة والرجوع إلى حضارة القرون الوسطى، بل إنهم دعوا إلى العمل باليد بدلا من العمل بالآلة.
وتؤلف «الجمعية الفابية» لإيجاد سياسة جديدة غير سياسة المحافظين والأحرار تستهدف العدالة الاجتماعية.
وتنمحي جمعية الحياة الجديدة، ولكن تبقى الخمائر التي بعثتها في أعضائها والتي لا تقل في قيمتها عن الخمائر التي بعثها جان جاك روسو في دعوته السخيفة إلى ترك الحضارة والعودة إلى سذاجة الطبيعة، فقد نسينا هذه الدعوة ولكن بقي منها لنا بعد 150 سنة جملة مركبات سيكولوجية تمس أساليبنا في العيش مثل الاستحمام في البحر، والإقامة على الشواطئ، ودراسة الزهور وغرسها، والتجوال في الريف، إحساس ديني جديد نحو الطبيعة يحملنا على درسها بالميكرسكوب ورسمها بالألوان.
كان البحر موجودا منذ آلاف السنين، كما كانت الحقول موجودة، ولكننا كنا في غيبوبة لا نراهما، ففتح روسو عيوننا وأيقظ عقولنا فرأيناهما.
وكذلك الشأن في جمعية الحياة الجديدة التي ألفها دافيدسون الأمريكي، فقد ماتت هذه الجمعية ولكن خمائرها بقيت تنمو أفكارا حية، فكانت منها تلك المعاني الجديدة بشأن الاستعمار ومعاملة المجرمين وتربية الأطفال وحرية المرأة وضمان العيش للعمال وتعويض المعطلين وبناء الدولة للمساكن وإيجاد المستشفيات المجانية وحزب العمال ... إلخ.
اعتبارات جديدة في الحياة الاجتماعية كان يحلم بها دافيدسون في غموض الأحلام وظلالها، وكان يهتف بها قلب إدوارد كاربنتر وهو يزرع الكرنب، كما شرع برنارد شو يفكر فيها ويشرحها ويقلبها في دراماته الأربعين أو الخمسين.
أجل، إن مثل هذا الوسط الحي الذي يجيز تأليف الجمعيات التي تبعث الأحلام في الشبان هو الذي يربي الأدباء لأن يتيح لهم جوا يتحمل التفكير البكر المثمر والأحلام الجريئة الذكية، وهو جو ما زلنا في مصر نفتقده ولا نجده.
Halaman tidak diketahui