وأشار إلى منيرة وإلى ذاته ثم واصل ليخفف وقع كلامه: ولو على سبيل القرض!
فسرعان ما انهزمت سنية أمام رغبة محمد ومنيرة مؤجلة أحلامها إلى مستقبل مجهول، على حين تمتمت منيرة ضاحكة: ولو على سبيل الاقتراض.
ولكن كوثر على طيبتها كانت متمرسة بواجبات ست البيت مذ عملت مساعدة لأمها، وتعلمت منها مسك الدفاتر والحرص الحكيم وكراهة الإسراف، فكانت طيبة وحكيمة. وقد شاركت في ميزانية البيت منذ أول يوم لها فيه؛ مما يسر العسر وأضفى على البيت سلاما. ولم تغب عنها أزمة محمد ومنيرة، فمالت إلى إسداء المعونة ووعدت بها. وحدث أن جاءتها خاطبة عقب وفاة زوجها بثلاثة شهور بعريس محترم يماثلها في السن فانقبض صدر محمد ومنيرة، وقال محمد بنبرة الناصح: علينا أن نتأكد من إخلاصه.
ولكن من حسن حظهما أن كوثر أعلنت زهدها في الزواج مرة أخرى، واهبة نفسها لرشاد الذي يملأ دنياها، ومتشجعة بطبع هادئ يوشك أن يكون برودا. وعلى أي حال فبفضلها أمكن أن تتزوج منيرة من بهجت سليمان، وأن يتزوج محمد من ألفت. تزوجت منيرة بعد أن صار حبها حكاية واختارت عشها شقة جديدة بالعباسية على مقربة من مدرستها، أما محمد فزف في شقة بعمارة نصف جديدة بباب اللوق ليكون على مقربة من المكتب من ناحية وليمارس نشاطه السياسي في مجاله المركزي. وخلا البيت القديم لسنية وكوثر ورشاد وأم سيد. ورثت كوثر لنظرة أمها المتطلعة وأشواقها الدفينة فأمرت بطلاء الحجرات بالزيت وتنظيف الحديقة وشراء بعض أصص القرنفل، ورغم أن ذلك لم يحقق من الحلم عشره إلا أن سنية سعدت به ولم تيئس من هطول الرحمة ذات يوم، خاصة عندما يكبر رشاد الوسيم ويدعو الأصدقاء للزيارة كما كان يفعل جده حامد برهان. وفي سكرة الفوز الطارئة أشارت بحياء شديد إلى المدفن، ولكن كوثر قالت: ماما .. إني أتشاءم من هذه السيرة!
فلم تلح، وأسفت، وقالت لنفسها «ما هو إلا البيت الباقي.» غير أن قلبها فاض بالشكر. فلو أنها لقيت الحياة وحيدة بعد زواج منيرة ومحمد لاضطرت إلى استجداء أبنائها، ولتجهمتها الحياة كما تتجهمها الأحلام؛ فالحمد لله على أي حال. وسعدت سنية أيضا لتوفيق منيرة ومحمد في زواجهما كما استشعر ذلك قلبها في زياراتها لباب اللوق والعباسية. قالت يوما لكوثر: بهجت أثبت إخلاصه بصبره الطويل ولكني غير مطمئنة لربيبة ميرفت!
فقالت كوثر بهدوء: محمد يعرف كيف يتصرف.
وبرزت منيرة في عملها التربوي أكثر بعد أن شملتها سكينة الحب، ودعا الأستاذ عبد القادر قدري «محمد» إلى مشاركته في مكتبه بعدما اعتقل أكثر من مرة لوفديته. قال يوما لمحمد: الوفدية أصبحت تهمة فانظر وتأمل!
وكاد محمد أن يجزع وهو ينتظر أن تسفر الثورة عن وجهها فتعلن حكم الإسلام ليحتل هو مكانته المشروعة. ولم يكن طموحه شخصيا فقط، فقد ملكته التجربة الدينية التي انساق إليها قديما هاويا وبمحض المصادفة، فبات يحلم بحكم الإسلام كأنه غاية من الغايات. وأنجب محمد شفيق وسهام، كما أنجبت منيرة أمين وعلي وتورد الأفق. وإذا بأزمة تعترض سبيل الثورة، وصراع عنيف يقوم بين رئيسها الأول ورئيسها الثاني، وبين شد كادت تصفى به الثورة وجذب رجعت به إلى قواعدها انقض طوفان الإخوان! وبدلا من أن يجد محمد نفسه على رأس مؤسسة أو وزارة ألقي به في أعماق سجن رهيب. وبالرغم من أنه لم تثبت عليه تهمة إلا أنه قضى في الاعتقال عامين، وخرج منه بعين واحدة وساق عرجاء. وهرع الجميع إلى شقة باب اللوق، واجتمعت للمرة الرابعة سنية وميرفت حتى قالت سنية لنفسها «قضي علي ألا أراها إلا عند حلول المصائب!» وضمت محمد إلى صدرها وهي تبكي وهتفت: عند الله الحساب يا ابني!
وتقنع محمد بوجه جديد خبر الموت والعذاب، ولكنه تجلد أمام الأعين، وقال: إني أحسن حظا ممن أهلكتهم المشانق أو غيبتهم السجون إلى الأبد.
وحاول أن يبتسم ثم قال بإصرار حقيقي: بقي لي إيمان لا يتزعزع.
Halaman tidak diketahui