كتاب البالغ المدرك

بالله تعالى أستعين وأتوكل.

قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: يجب(1) على البالغ المدرك في بلاد الكفر وغيرها؛ أن ينظر إلى هذه الأعاجيب المختلفات؛ المدركات بالحواس، من السماء والأرض وما بث فيهما من الحيوان، المجتلبة إلى أنفسها المنافع، ، النافرة عن المضار؛ أنها محدثة؛ لظهور الإحداث فيها، معترفة بالعجز على أنفسها؛ أنها لم تصنع أنفسها، ولم تشاهد صنعتها، وتعجز أن تصنع مثلها، وتعجز أن تصنع ضدها. فلما شهدت العقول على أن هذا هكذا؛ ثبت أن لها مدبرا حكيما دبرها، ومعتمدا اعتمدها، وقاصدا قصدها، ليس له شبيه، ولا مثيل؛ إذ المثل جائز عليه ما جاز على مثله؛ من الانتقال والزوال، والعجز والزيادة والنقصان. وأن بإحداثه إياها له المنة عليها، إذ كانت الرغبة(2) منها في البقاء، ونفورها عن الفناء؛ دالة على المنة عليها بالبقاء، وأن الممتن عليها ببقائها؛ هو المنعم عليها بإحداثه إياها.

Halaman 168

فإذا علم البالغ(1) أن هذا هكذا، كان عليه أن يشكر المنعم عليه، فإذا علم أن شكر المنعم عليه واجب؛ كان عليه يشكر المنعم(2)، وشكر المنعم عليه هو: الطاعة له، وفي الحكمة التقويم بين المطيع والعاصي، وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب. فلما تصرمت أعمار المطيعين ولم يثابوا، وتقضت آجال العاصين ولم يعاقبوا؛ وجب على قود التوحيد واطراد الحكمة أن دارا بعد(3) هذه الدار؛ يثاب فيها المطيعون، ويعاقب فيها المسيئون. وهذه أمور أوجبتها الفطرة، واستحقت بالإيمان، وقليل من تقررت المعرفة في قلبه إلا باستقرار أوليها، وشهادة بعضها على بعض، وتضمين كل شيء منها ما قبله وبعده، واستطراد ذلك كله في العقول.

فلما أن كان ذلك كذلك، كان في ضرورة العقل أن لا سبيل له إلى علم كيفية الطاعة دون الخبر(4) من عند المنعم بكيفية الطاعة، إذ لا يمكن الخبر من الله ملاقاة لله، فإذا علم أن الخبر لا يمكن من الله مشافهة لله، علم أن خبر الطاعة لا يمكن إلا برسول من عند المنعم، بائن من البشر في أعلامه وأفعاله.

فمن هاهنا لزم البالغ المدرك أن يعلم أن لله رسولا من قبل(5) أخبار الناقلين، فلما لم يجز إلا بعثة الرسل، وكانت الرسل من البشر، وفي مثل تركيب المبعوث إليهم، وعبادا لله مثلهم؛ لم يجز تصديقهم على الله إلا بدلالة بينة، وحجة قاطعة؛ يعلم الخلق بعجزهم عنها أن الله تولى ذلك على أيديهم، فجاءت الرسل بالآيات التي ليس في قوى الخلق المجيء بمثلها، فوجب تصديقهم على الله بعد الحجة والبيان.

Halaman 169

فمن أدرك أزمنتهم، وشاهدهم في عصورهم، وقامت عليه حجتهم، لزمه الإقرار بهم، والتسليم لأمرهم، والقبول لما جاؤا به، وسقط عنه كثير من الكلفة في تمييز الأخبار، وامتحان الناقلين. وبحسب ما قامت عليه الحجة؛ كلفه الله الذب عن دينه، والقيام بحجته.

ومن تراخت به الأيام عن لقائهم، وكان في غير أعصارهم، كانت الحجة عليه في معرفتهم، والقبول لما جاؤا به، والديانة لما دعوا إليه : توالي الأخبار التي في مثلها يمتنع الكذب، ولا يتهيأ بالاتفاق، ويكون سامعها مضطرا في فطرته إلى أن ناقليها لا يمكن مثلهم الكذب، ولا التواطؤ على مقالة(1)، كقوم مختلفي الأجناس، متبايني الديار، متقطعي الأسباب، متفاوتي اللقاء، متراخي الأزمنة، ينقلون خبرا واحدا، متسق النظام، محروسا عن الغلط، محصنا عن الوهم، ولعله يجرح(2) في مال أحدهم وبدنه، لا يعارضهم فيه معارض بتكذيب، قد كاد ولما أن يكون عيانا(3). وقد يجيء بين ذلك أخبار بعضها مستحيل كونه في العقول، ويبعد أن يجيء بمثلها رسول؛ لما فيها من الكذب والزور(4)، ولن تجيء هذه الأخبار مجيء إجماع أبدا، وإنما سبيلها الشذوذ، والغلط في التأويل، وفي معرفة مخرج الخاص(5) من العام، وفي معرفة المحكم من المتشابه.

Halaman 170

فمن هذه الأخبار(1): ما هو في أصله منسوخ. ومنها: ما هو في مخرجه عام وفي معناه خاص.

ومنها: متشابه يحتاج إلى بيان. ومنها: ما حفظ أوله ونسي آخره. ومنها: ما روي مرسلا بلا حجة فيه، ولا تبيان لمتدبريه(2). ومنها: ما دلس على الرواة في كتبهم(3). فيا لله كيف حارت العقول، وقلدت الأتباع، وتقسمت الأهواء، وتفرقت الآراء، ونبذ القرآن، وغيرت السنن، وبدلت الأحكام ، وخولف التوحيد ، وعاد الإسلام غريبا، والمؤمن وحيدا خائفا، والدين خاملا.

فتسديدك اللهم وعونك، فإنا لم نؤت في تفرقنا من قبلك، ولا في اختلافنا من قدرك، كذب المدعون ذلك فيك، وهلك المفترون ذلك عليك، ونحن الشهود لك على خلقك، والناصبون لكل من عند عن دينك، واتهم قضاك، وجانب هداك، وأحال ذنبه عليك، ونسب جوره إليك، أو قاسك بمقدار، أو شبهك بمثال، وقد قطعت العذر بكتابك المنزل، وأكملت دينك على لسان نبيك المرسل، محمد صلى الله عليه وآله وسلم(4).

أما بعد: فإن الدين لما عفت آثاره، وانطمست أعلامه، واضمحلت أنباؤه، وسدت مطالعه، عندما فقد من أنصاره، والقائمين بحفظه وحياطته؛ نطق الكاظمون(5)، وظهر المرصدون، ولله جل ثناؤه إلى كل رصد من الباطل طلائع من الحق، ومع كل داع إلى الضلال بينات من الهدى، وإلى جنب طريق كل حيرة سبب واضح من الإرشاد، وفي كل شيء حجة قاطعة.

Halaman 171

فأما رسل الله صلوات الله عليهم فقد قاموا بحجج البلاغ، وأدوا وظائف الحقوق، وبلغوا ما عليهم من فرض النصيحة، وأنفذوا شرائط الله عليهم في خلقه، وأوقفوا العباد على سبيل النجاة(1)، وسلكوا بهم منهاج السلامة، وحذروهم طرق الحيرة، واحتملوا في جنب مرضاته الصبر في البأسآء والضرآء، صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته.

وفيما بين أزمنة الرسل فترات في مثلها يتحير الضلال، ويدفن الحق، ويغمض البرهان، بتظاهر(2) الجبارين على أولياء الله وأهل طاعته، وهنالك يندب الشيطان ولاته، ويبث دعاته، وينصب حبائله، ويدخل على الناس الشبهة، ويضطرهم إلى الحيرة.

Halaman 172