Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genre-genre
حبيبتي، لا تتلفتي وراءك، لا تبكي. لا تبكي. لا تبكي. (ينصرفان. يسمع وقع أقدامهما وبكاء أنتيجونا، حتى بعد أن تسدل الستار.)
1985م
هذه البكائيات
في ليلة ممطرة باكية أكتب عن هذه البكائيات. أسأل نفسي أسئلة تحاول الإجابة عليها أن تكشف الدوافع التي دفعتني إلى تدوينها أو تلقي الضوء على الغموض الذي يكتنفها:
لم البكائيات في وقت يدعونا كل شيء فيه لإطلاق الصرخات؟
إن كل من يفكر اليوم أو يكتب لا بد أن يصيبه اليأس، وهو ينظر في الهاوية التي تفصل الكلمة عن الفعل، ولا بد أن يتحسر على ضياع عمره في تجميع حروف في كلمات، وكلمات في جمل، وجمل في صفحات وصفحات لم تطعم جائعا، ولم تحرك ساكنا، ولم تنبه وعيا، ولم تنقل حجرا من مكانه. وهو في النهاية لا يستطيع أن يكتفي بحكمة سقراط وحواره، ولا بمصباح «ديوجينيس» في قلب النهار، ولا بنبوءات زرقاء اليمامة ورؤاها ودموعها، فعليه أن يدق نواقيس الخطر وأجراسه، ويستخدم «ديناميت» نيتشه ومطرقته، عليه أن يقرع آذان أهله بكل الطبول والأبواق الممكنة، نحن متخلفون متخلفون. العدو أمامكم والانقراض فيكم. تعلموا أن تفكروا بعقولكم لا بألسنتكم. غيروا ما بأنفسكم وواقعكم، حتى يغير الله ما بكم. آمنوا بالعلم والمنهج والخبرة. أعطوا القوس لباريها والعيش لخبازه. اتحدوا، اتحدوا، اتحدوا. فالذئاب تتربص بكم في كل ركن وعند كل منعطف. وذئاب أشرس منها ترعى في داخلكم. أمراضكم الثلاثة: الاستبداد، والتسلط، والطغيان لم يشفيكم منها إلا أدوية ثلاثة: الحرية، والحرية، والحرية. وهو يستطيع أن يمضي في هذه الصرخات، حتى آخر أنفاسه، لكنه سيسأل نفسه في النهاية: ماذا يغني البكاء أو الصراخ؟ ماذا يجدي القول أو الكتابة؟ أليس في آخر المطاف كلاما في كلام في كلام؟ أوليس الأولى من ذلك أن يدعو للفعل ويحدد معالمه ويكون قدوة له؟ إن الكتابة - أدبا كانت أو فلسفة، دررا كانت أو خزعبلات، همسات كانت أو صرخات - قد أصبحت عاجزة عن مقاومة الموت المستشري فينا. وربما كان الطريق الباقي هو أن يعمل الإنسان لا أن يكتب أو يتكلم، فالفعل وحده هو الذي يمكن أن يبرر نفسه وسط الاختناق بالحسرة والندم والصمت.
لكن هذا الكلام كله عن عجز الكلام والإيمان بضرورة الفعل ما يزال يختنق بالبكاء. والذي يكتبه هو أبعد الناس عن الصراخ؛ لأنه لا يميل بطبعه لإزعاج أحد أو لفت أنظار أحد. ولو قلت إن العبارات هي في الحقيقة صور لعلاقات وعمليات وأفعال، ولا يكون لها معنى، حتى تشير إلى علاقات وتترجم إلى عمليات، وتهدي لأفعال لقال نعم، ولكن هذا لم يحدث في السنوات الأخيرة من تاريخنا إلا في أندر الأحوال. أليس هذا كله مبررا لأن يبكي في صمت، وأن يضع ما يكتبه تحت عنوان البكائيات؟
أتكون هذه البكائيات لونا جديدا من أدب الاعترافات وصورة مختلفة من صور السيرة الذاتية؟
أما أنها جديدة أو مختلفة، فهذا أمر أوثر أن أتركه للقراء والنقاد. كل ما أستطيع قوله هو أنها صور «مقنعة» في أشكال متعددة، شاعرية وروائية ودرامية غلب عليها طابع المناجاة وأسلوب الحوار، الذي تديره الذات مع ذاتها. وربما أمكن أن يقال إنها أشكال مفتوحة أو على طريق البحث عن شكل محدد، ولهذا تتخفى وراء أقنعة تتكتم أكثر مما تفصح عنه.
إن فكرة القناع أو صورته من أهم الأفكار والصور التي تشغل الأدب والنقد الحديث، وتستحق البحث عن الدور الذي تقوم به في أدبنا الجديد. ولقد كان من قدر الشاعر والكاتب العربي المعاصر أنه يقوم بدور العراف والمتنبي. والشاهد عن العصر والبومة الحكيمة المنذرة بالأخطار «وكنت أنت بينهم عراف. وكنت في مأدبة اللئام، شاهد عصر ساده الظلام» (البياتي في قصيدته محنة أبي العلاء)، وكان من قدره كذلك أن يحاول أن يكون «المنقذ» - كما عبرت في كتاب بهذا العنوان عن أفلاطون - والصوت الهاتف في البرية بحثا عن طريق النجاة الوحيد: أن ننقذ أنفسنا بأنفسنا، ونغير وجه أرضنا وواقعنا وتاريخنا بإراداتنا. وننسج الثوب الذي يمكن أن يسترنا بأيدينا، ونبعث مدن الغد من قبور الماضي والحاضر التي دفنا فيها بأمر الطغيان على اختلاف صوره وأقنعته التي كشف شعراؤنا المجددون عن زيفها. هل أقول إن أوديب وأوفيليا والمتعب من الحياة أقنعة تخفي وجها واحدا تغمره الدموع، ثم تكشف عنه؟ هل كانت بديلا عاجزا عن السيرة الذاتية التي لجأ إليها الأدباء والمفكرون في الشرق والغرب أم حيلة جديدة للإمعان في تعذيب الذات؟ وحتى لو سلمنا بأن أي تعبير أدبي جدير بهذا الوصف - من الأساطير القديمة حتى أدب العبث واللامعقول وما بعده - قد لجأ بصورة أو بأخرى إلى التحجب خلف القناع، فهل نجحت هذه الأقنعة في التعبير أم لم تنجح؟ وهل انطبقت عليها شروط القناع الأدبي أم كانت رموزا واستعارات؟
Halaman tidak diketahui