بحر المذهب
في فروع مذهب الإمام الشافعي
﵁
تأليف
الشيخ الإمام أبي المحاسن
عبد الواحد بن إسماعيل الرُّوياني
المتوفي سنة ٥٠٢ هـ
تحقيق طارق فتحي السيد
الجزء الأول
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأكرمنا بشريعة نبيه محمد المصطفي ﷺ وجعلنا من المتمسكين، والمتبعين لها، والمتفقهين فيها، ونسأله أن ينفعنا بما علمنا منها، وأن يرزقنا العمل بها، والنصيحة للمسلمين فيها، وأن نصلي أولًا وأخرًا على عبده ورسوله وخيرته من بين خلقه، وعلى آله وأصحابه الراشدين.
وبعد: لما كثر تصانيفي في الخلاف والمذهب مطولًا ومختصرًا، وجدت فوائد جمة عن الأئمة ﵃ أحببت أن أجمع كلامي في آخر عمري في كتاب واحد يسهل عليَّ معرفة ما قيد فيها، وأعتمد على الأصح منها وسميته: "بحر المذهب" راجيًا من الله تعالى الذكر الجميل، والثواب الجزيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.
1 / 19
[المقدمة]
فصل
الأصل من فضل العلم والعلماء قوله تعالى: لنبيه ﷺ ﴿وَقُل رَّبَ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، وقوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط﴾ [آل عمران: ١٨].
وروى أبو الدرداء ﵁ أن النبي ﷺ قال: "من سلك طريقًا يطلب به علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، [٢ أ/ ١] وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافرِ ". ومعنى قوله: (لتضع أجنحتها) يعني: بالتواضع والخضوع تعظيمًا لحقه وتوقيرًا.
وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ١٥]، وقوله تعالى ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذَُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ١٤]، وقيل: وضع الجناح هنا معناه الكف عن الطيران للنزول عنده. وقيل: معناه بسط الجناح وفرشه لطالب العلم لتحمله عليه فيبلغه حيث يقصده من البقاع في طلبه، ومعناه المعرفة وتيسير السعي له في طلب العلم. وأيضًا قال رسول الله ﷺ "يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء". وأيضًا قال النبي ﷺ: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
وقال فضيل بن عياض ﵀ في معناه: "كل عمل كان عليك فرضًا فطلب علمه عليه فرض، وما لم يكن العمل به عليك فرضًا فليس طلب علمه عليك بواجب".
وقال ﷺ: "اطلبوا العلم ولو في الصين". وأيضًا روى أبو هريرة أن النبي ﷺ
1 / 21
قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه.
وأيضًا روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسوله ﷺ بشر يتكلم في حال [٢ ب/ ١] الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأومأ إلى فيه، فقال: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق".
فإن قيل: روى المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن زيد بن ثابت دخل على معاوية فسأله عن حديث، فأخبره، فأمر إنسانًا فكتبه، فقال له زيد بن ثابت: إن رسول الله ﷺ أمر أن لا نكتب شيئًا من حديثه فمحاه. قيل: يحتمل أن يكون النهي متقدمًا وآخر الأمرين الإباحة. وقيل: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به فيشتبه على القارئ وهذا لأن النبي ﷺ أمر أمته بالتبليغ، وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب".
وروى زيد بن ثابت أن النبي ﷺ قال: "نضر الله أمر أسمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه ليس بفقيه". فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه بالكتابة يتعذر التبليغ فلا يؤمن من ذهاب العلم، لأن النسيان من طبع أكثر البشر، وقد قال رسول الله ﷺ، لرجل شكا إليه سوء الحفظ: "استعن بيمينك" وقوله: (نضر الله): معناه: الدعاء بالنضاره وهي النعمة والبهجة، ويقال: نضر الله بالتخفيف والتثقيل، وأجودهما [٣ أ/ ١] التخفيف، وفي هذا الخبر بيان أن الفقه هو الاستنباط، والاستدراك لمعاني الكلام، وفي ضمنه وجوب
النفقة والحث على استنباط معاني الحديث.
فإذا تقرر هذا، فاعلم أن العلم كبير والعمر قصير، فالأولى لمن طلب العلم بعد التوحيد أن يشتغل بالأحسن منه والأولى، وهو التفقه في الدين، لما روى أن النبي ﷺ قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". وروى أنه ﷺ قال: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".
1 / 22
ثم اعلم أن أفضل الفقهاء فقهًا وأحسنهم ترتيبًا ونظمًا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ﵁ حكي عنه أنه قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام قبل حُلمي، فقال له: "يا غلام" قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: "من أنت"؟ قلت: من رهطك يا رسول الله، فقال: "ادنُ مني"، فدنوت فأخذ شيئًا من ريقه ففتحت فمي، فأمره على لساني وفمي وشفتي، فما أذكر أني لحنت بعد ذلك في حديث ولا شعر".
وحكي عن تلميذه أبي إبراهيم المزني أنه قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام، فسألته عن الشافعي ﵀ فقال: من أراد محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي، فإنه قال: "الأئمة من قريش".
وقال أيضًا ﷺ: "قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا [٣ ب/ ١] منها ولا تعلموها". قال المزني: أي لا تفاخروها.
وقال أيضًا ﷺ: "من رأى رجلًا من قريش أفضل ممن رأى رجلين من غيره".
وقال أيضًا ﷺ: "لا تسبوا قريشًا، فإن عالمها يملأ طبق الأرض علمًا". وهذا متعين في الشافعي ﵀.
وقال أيضًا ﷺ في هذا: "البيان تبع لقريشٍ فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم". ولم نجد في الأئمة المشهورين قرشيًا سارت منه الكتب في الأقطار، واستظهرها الكبار وأدوجها إلى الصغار غير الشافعي ﵁، فلهذا اتبعناه وسلكنا مذهبه، وأيضًا فإنه جمع من العلم ما لم يجمعه غيره من الأئمة، فإن مالكًا والأوزاعي والثوري وغيرهم لهم قدم في الآثار ومعناهم ضعيف. وأبو حنيفة والعراقيون لهم قدم في المعاني وأثرهم ضعيف. والشافعي جمع الآثار والمعاني، فإنه لما قدم العراق سمى ناصر السنة والحديث، ولا يقول بتخصيص العلة لقوة معانيه بخلاف غيره، وصنف في الأصول وبني عليها الفروع فتكون أحوط، وانفرد لمعرفة اللغة وأيام العرب، فإنه عربي الدار واللسان. وحكي عن بعضهم أنه قال: تلقى شيئًا من غرائب كلام الشافعي ﵀ على الرياشي شيء قدر ما كف بصره، فقال: هذا من كلام مَنْ؟ فقلنا: هذا من كلام
الشافعي فقال: نعم، سمعت الأصمعي يقول: قرأت ديوان
1 / 23
الهذليين على فتى من قريش، يقال [٤ أ/ ١] له: محمد بن إدريس الشافعي. وأيضًا الشافعي ﵀ -أكثر احتياطًا في الطهارات، وشرائط العبادات، والأنكحة، والبياعات تمسكًا بالسنة، وذلك معروف في بيان مذهبه فكان أولى من غيره.
وقال الربيع: سئل الشافعي ﵀ -عن مسألة، فقال: يروى فيها كذا وكذا عن رسول الله ﷺ فقال له السائل: يا أبا عبد الله، تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتفض، فقال: يا هذا أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله ﷺ حديثًا فلم يقل به نعم على السمع والبصر، نعم على السمع والبصر.
وقال أحمد: كان الشافعي إذا ثبت عنه الخبر قلده.
وأيضًا عن ابن عم رسول الله ﷺ فإنه أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، فهو يجتمع مع رسول الله ﷺ في عبد مناف؛ لأن النبي ﷺ هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
والمطلب هو أخو هاشم جد رسول الله ﷺ وله قربى برسول الله ﷺ من قبل جداته، فإن أم [٤ ب/ ١] عبد يزيد هي الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف وأم السائب بن عبيد الشفاء بنت أرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف، وأمها خليدة بنت أسد بن هاشم، وكان لجده الأعلى وهو المطلب فضيلة بتربية عبد المطلب، وبذلك سمي عبد المطلب، وكان بنو المطلب مع بني هاشم متناصرين، فإن بقية عبد مناف وهم بنو عبد شمس وبنو نوفل انفردوا
عنهم وأدخل النبي ﷺ بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى دون غيرهم. وقال: "نحن وبنو المطلب هكذا -وشبك بين أصابعه -إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". وكان السائب جد الشافعي ﵀ -قد أسر يوم بدر، وكان صاحب راية بني هاشم ففدى نفسه ثم أسلم. وكان ابنه شافع لقي رسول الله ﷺ وهو مترعرع رئيل مراهق، وإليه نسب الشافعي ﵀ -وكانت أم الشافعي أزدية.
واعلم أنه ولد بغزة قرية من قرى الشام قريبة من بيت المقدس، فمكث فيها سنتين ثم حمل إلى مكة فنشأ بها وتعلم العلم، ثم دخل العراق سنة سبع وسبعين ومائة، وأقام بها سنتين، وصنف كتابه القديم وسماء "كتاب الحجة"، ثم عاد فأقام بها مدة، ثم دخل بغداد فأقام هناك أشهرًا، ولم يصنف شيئًا، ثم خرج إلى مصر فأقام بها إلى أن تغمده الله برحمته، وصنف الكتب الجديدة هناك، ودفن بمصر، وكان له ابنان، اسم كل [٥ أ/ ١] واحد منهما محمد، مات أحدهما بمصر سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ومات الآخر بالجزيرة وولي القضاء بها وكان مسنًا، يروي عن سفيان بن عينية، وكان مولده سنة خمسين ومائة، ومات ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، وقد صلى المغرب ودفن يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين.
قال الربيع: انصرفنا من جنازة الشافعي، فرأينا هلال شعبان، وكان عمره أربعًا
1 / 24
وخمسين سنة، وقيل: مات يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن في ذلك اليوم بعد العصر، والأول أصح.
فرواة كتبة القديمة أحمد بن حنبل، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني
والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي. قال الزعفراني: ما ذهبت إلى الشافعي مجلسًا قط إلا وجدت أحمد بن حنبل فيه.
ورواة كتبه الجديدة أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيي المزني توفي بمصر ودفن يوم الخميس سلخ ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائتين. وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي صاحب الأم. وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي. وأبو حفص حرملة بن يحيى. ويونس بن عبد الأعلى. والربيع بن سليمان الجيزي. وعبد الله بن الزبير الحميدي المكي. ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكيم المصري، ثم أحتسب المزني
أفقه تلامذة الشافعي وأزهدهم وأحفظهم لكتبه وعلمه، بأن اختصر من علمه كتابًا سماه: "الجامع الكبير"، ثم اختصر منه "الجامع المختصر"، الذي [٥ ب/ ١] يتداوله أصحاب الشافعي ويتدارسونه، ولم يترك شيئًا من أصول مسائل الفقه وفروعها إلا وقد أتى عليه بحسن الاختصار والنظم، وربما يأتي في خطين أو ثلاثة ما أتى به الشافعي في أوراق، ومكث في جمع هذا الكتاب نيفًا وعشرين سنة، وما اعترض فيه باعتراض ولا اختار قولًا على غيره إلا بعد ما صلى ركعتين واستخار الله تعالى فيه.
وقال الإمام القفال ﵀: من ضبط هذا المختصر حق ضبطه وتدبره لم يشذ عليه شيء من أصول مذهب الشافعي في الفقه، وقال ابن سريج ﵀: هذا المختصر. لم يقيض، وأنشد فيه:
يضيق فؤادي منذ عشرين حجة وصيقل ذهني والمفرج عن همي
عزيز على مثلي إعارة مثله لما فيه من علم لطيف ومن نظم
جميع لأصناف العلوم بأسرها ... فأخلق به أن لا يفارق
فصل في وجوه اعتراضات المعترض على أول كلامه
فإن قال قائل: لِمَ ترك المزني -رحمه الله تعالى - حمد الله تعالى والثناء عليه في أول هذا الكتاب؟! وقد قال النبي ﷺ: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر" وروى: "أقطع"، فإن كان ذا بال كان من حقه أن يحمد الله تعالى، وإن لم يكن ذا بال فحقه أن يترك ولا يشتغل به؟ قلنا عنه أجوبة:
أحدهما: أنه ندب إلى حمد الله تعالى في ابتدائه بلسانه دون كتبه ببنانه، والظن بالمزني أنه قال ذلك لأنه كان يصلي ركعتين عند تصنيف كل باب، وقد قال ﷺ: [٦ أ/ ١]
1 / 25
"لا تظنوا بالمؤمن إلا خيرًا". والدليل على صحة هذا أنا نجد هذا الكتاب يتداوله العلماء وقبلوه، ولم يصر أبترًا ولا أقطعًا، يدل على أن المزني كان قد امتثل أمره ﷺ.
الثاني: أن المراد بحمد الله ذكرًا لله تعالى، وقد روي: "لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر". رواه الأوزاعي. وقد ذكرا لله ﷿ بأحسن الذكر، وهو قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فإنها أفضل آيات القرآن.
الثالث: القصد بالتحميد ذكر الله تعالى، ويقوم بعض الذكر مقام البعض كما قال صلى الله وعليه وسلم: "يقول الله تعالى: ﴿من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين﴾. فكذلك هاهنا تقوم التسمية مقامه.
الرابع: المزني اقتدى برسول الله ﷺ في ذلك، وذلك أنه اكتفي في كتبه إلى الملوك ودعوته إياهم إلى الإسلام بالتسمية، وكذلك كتب الصلح التي كتبها هو ومن بعده من الصحابة لأهل البلاد، ولا التحميد.
الخامس: أنه وجد له في بعض النسخ خطبة قال فيها: الحمد لله الذي لا شريك له في ملكه، ولا مثل له، الذي هو كما وصف نفسه، فوق ما يصف خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فحذف ذلك بعض الناقلين.
والسادس: أراد بالخبر الخطبة؛ لأن أعرابيًا خطب فترك التحميد، فقال النبي [٦ ب/ ١] ﷺ هذا، والذي يدل على هذا أن أول ما أنزل من كتاب الله تعالى قوله: ﴿اقْرَا بِاَسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١]، وقيل: ﴿يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١]، وليس في ابتدائها حمد الله تعالى.
والسابع: أن المزني ناقل ما هو مبتدي، ورواة الحديث لا يؤاخذون بأن لا يذكروا حمدًا وثناء كلما بدأو بالزاوية.
فإن قيل: فإذًا هذا السلوك يلزم الشافعي؛ لأنه صنف كتبًا لم يبدأ فيها بحمد الله. قيل: كتبه كلها كتاب واحد، وهو كتاب الفقه، وقد حمد الله تعالى في أول هذا الكتاب بأحسن تحميد، فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الحمد لله الذي مؤدى بشكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدي شكر ما مضى نعمة بأدائه نعمة حادثة يجب عليه شكره بها، ولا يبلغ الواصفون عنه عظمته الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، إلى أن قال: وصلى الله على محمد عدد ما ذكر الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون. ورؤى الشافعي ﵀ في المنام
1 / 26
فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بالصلاة التي صليتها على النبي ﷺ في أول كتاب "الرسالة".
وقيل: الخبر موقوف على أبي هريرة ورفعه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف [٧ أ/ ١].
فإن قيل: لِمَ قال اختصرت قبل أن يختصر؟ ومن قال فعلت ولم يفعل فهو كاذب.
قلنا: يحتمل أنه صنف الكتاب ثم كتب هذا الفصل وصدره بهذا.
والثاني: أنه قد يرد اللفظ على صيغة الماضي ويراد به المستقبل، كقوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ [الأعراف: ٤٤]، وقوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: ١] وقوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ [الكهف: ٩٩] ونحو ذلك، فمعنى قوله: (اختصرت) أي سأختصر.
والثالث: يجوز أن يعبر به عن شروعه فيه كما يكتب الرجل في صدر كتابه كتبت، أي: افتتحت الكتاب، أو لعزمه على ذلك، ويجري ذلك مجرى العلم بوجوده، كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف:٣٦]، ولكونه خبرًا عند وجود ما يختصره بلا خبرًا في حال الكتابة.
فإن قيل: لم تمدح بالاختصار والأحسن بسط الكلام وشرحه، والاختصار مذموم؟
قيل: الاختصار محمود عادة وشرعًا، قال النبي ﷺ: "أوتيت جوامع الكلم واختصر العلم اختصارًا" وقد أعجز الله تعالى العرب بقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]،
فإن أقل لفظًا وأجمع معنى من قولهم: القتل أنفي للقتل. وقال في صفة الجنة: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: ٧١] ويجوز ذلك.
وقال علي بن أبي طالب، والحسن بن علي ﵄"خير الكلام ما قل ودلّ [٧ ب/ ١]، ولم يطل فيمل"، ويروى هذا مرفوعًا إلى النبي ﷺ وفيه نظر.
وأما العادة فهي أن الكلام إذا طال مل الطالبون والسامعون، وإذا قل كثرة الرغبة وتاقت إليه النفوس.
فإن قيل: لم شرط الاختصار ثم الحال في مواضع؟
قلنا: شرط اختصار كلام الشافعي، وإنما الحال كلام نفسه، ثم الحكم للأغلب، والأغلب منه مختصر، ولأن للإطالة موضعًا تحمد فيه، ولذلك لم يكن جميع كتاب الله مختصرًا. وقد قال الخليل بن أحمد: نختصر الكتاب ليحفظ، ونبسطه ليفهم.
وأما معنى الاختصار فهو إيجاز اللفظ من غير إخلال بالمعنى، واشتقاقه من الجمع، ولهذا سمى المخصرة لاجتماع المتكئ عليها والحاضر لاجتماع البدن عليها، فكأنه يجمع معنى الكثير في القليل من اللفظ. وقيل: الاختصار هو ما دل قليلة على كثيرة
1 / 27
وقيل: هو رد الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى الكثير.
وقال المزني: هو إيجاز اللفظ مع إبقاء المعنى. وقيل: هو إيجاز من غير إخلال معنى بالمعنى.
وقيل: هو تقليل المباني مع تكثير المعاني. وقيل: هو جمع المعنى الكثير تحت اللفظ القصير. وقيل: هو حذف الفضول مع استبقاء الأصول والأول أولى.
فإن [٨ أ/ ١] قيل: لما قال هذا وهي كلمة يشار بها إلى حاضر، وهو لم يصنف الكتاب بعد؟ قيل: جوابه ما سبق، وأيضًا يجوز أن يشار إلى حاضر العين كما قال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ: ٣٥﴾ [المرسلات: ٣٥]، وقوله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ [الصافات: ٢١] الآية.
فإن قيل: لِمَ قال: من علم الشافعي وعلم الرجل صفته، ولا يمكن اختصار الصفة كالسمع والبصر وغيره، هذا لو كان الشافعي حيًا فكيف بعد موته؟.
قيل: أراد بالعلم المعلوم ومعلومه مسائله والاختصار فيها ممكن، ويجوز أن يسمى المعلوم علمًا، كما يقال: هذا الدرهم ضرب للأمير، أي مضروبة ويقال: هذا قدرة الله، أي مقدوره، وهذا قول الرسول ﷺ ويراد به مقوله: ويقال في الدعاء: اللهم اغفر علمك، أي
معلومك والثاني: أنه أراد به من كتبه ومنصوصاته، ويجوز أن يعبر عن الكتاب بالعلم، قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] أي من كتاب. وقال ابن عباس، ﵁: من يشتري لي علمًا بدرهمين.
فإن قيل: لم قال: ومن معنى قوله، والاختصار من المعنى لا يمكن إذ يصير الكلام به غير معقول، وإنما يمكن من الاختصار بالألفاظ مع توفير المعنى؟
قيل: أراد اختصرت من معاني، فقوله: واختصرت من عدة معاني على ذكر معنى واحد، ويجوز أن يراد بالمعنى المعاني، كما قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢]، أي الناس بدليل أنه قال: ﴿إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر: ٣].
والثاني: أراد اقتصرت [٨ ب/ ١] على ذكر معنى تعم مسائل كثيرة، وهذا اختصار المعنى في الحقيقة.
والثالث: أنه أراد بالمعنى الدليل كما يقال: ما معناك في هذا وما دليلك عليه؟ وهذا قريب من الأول.
والرابع: معناه على معنى قوله، أي خرجت المسائل في كتاب الحوالة والضمان وغيرهما على قياس مذهبه فيما لم أجد فيه نصًا، ويوضع من مكان عالي، قال الله تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٧]، أي على القوم الذين كذبوا. وقيل: أراد من قوله: ربما هو في معناه، وسماه معنى قوله لأنه مثله في المعنى.
فإن قيل: لم قال: لأقربه على من أراده، وإنما يقال قربته منه وإليه، ومن أراد تقريب شيء إلى فهم يقول: قربت عليه، كما يقال سهلت عليه. ويقال
1 / 28
لمن أراد سفرًا: قرب الله عليك الخطا، أي: سهل، ومعناه غرض في هذا الاختصار للتسهيل على ما أراد هذا الكتاب، ويعبر عن التسهيل بالتقريب؛ لأن كل قريب سهل، ولك بعيد صعب.
فإن قيل: قد قال مع إعلامية نهيه عن تقلده وهو كلام يحمل معنيين.
أحدهما: مع إعلامي يريد الكتاب نهي الشافعي عن أن يقلدوا ويقلد غيره، فتكون التاء كناية عن اسم المزني، والهاء الأولى راجع إلى مريد الكتاب، والهاء الثانية راجع إلى الشافعي، ولم يبين المزني مراده، فكيف يدعي التقريب والتسهيل قلنا: إذا احتمل الكلام معنيين صحيحين لا يلزم البيان، بل يجوز تركه بحاله [٩ أ/ ١] لتكثير الفائدة، كما في ألفاظ القرآن، وكلا المعنيين صحيح هاهنا، وهو منه بسط لعذره في اعتراضات، اعترض بها على الشافعي في تضاعيف هذا الكتاب، فكأنه يقول: إن كنت اعترضت على الشافعي في
تصانيف هذا الكتاب ورددت عليه شيئًا، فليس ذلك مني خلافًا له، بل هو الذي أمرني به، والمعنى الأول أصح.
فإن قيل: لم قال: لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه، والأولى والاحتياط في التقليد ليسلم المقلد عن مخاطرة الخطأ والصواب فيه؟ قيل: الأولى والاحتياط في الاجتهاد؛ لأن المجتهد يقدم على الأمر على علم، والمقلد يقدم عليه على جهل، قيل: هذا بيان للعلة في النهي عن التقليد، يعني إنما نهى عن التقليد ليستقصى طالب العلم في تعرف وجوه الأحكام ودلائلها، ثم ينظر فيها لدينه ويحتاط.
وقوله: (وبالله التوفيق): بيان أن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى وقضائه وقدره. وقيل: التوفيق ضد الخذلان، وهو تسهيل طريق الخير وسد طريق الشر، يعن بعون الله بتيسير ما فصلت، ويتم ما نويت.
وقيل: هو درك الأسباب مع موافقة الصواب. وقيل: هو الرجوع في الخبر من غير استعداد له. وقيل: توفيق المتعلم أربعة: ذكار القريحة، استواء الطبيعة، وشدة العناية، ومعلم ذو نصيحة.
فصل
التقليد: قبول قول الغير بلا حجة، واشتقاقه من التلاوة كأنك قلدته عهدة ذلك القول من صواب وخطأ [٩ ب/ ١] كالعلاقة في عنقه.
والعلوم ضربان.
أحدهما: ما لا يسوغ فيه التقليد، وهو الأحكام العقلية، من معرفة الله وتوحيده وتصديق رسله، ويلزم فيه الرجوع إلى الدليل، وقد ذم الله تعالى من قلد في ذلك، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠]، فبين أن من يجوز عليه الخطأ والضلال لا يجوز تقليده. وقال أيضًا حكاية عن الكفار: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢] ونحو ذلك. وكان طريق معرفة العقل والناس كلهم في العقل سواء، فلا
1 / 29
يجوز لأحد منهم تقليد غيره كالبصراء في القبلة، ولهذا خاطب الله تعالى جميع المكلفين وقال ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: يجوز فيه التقليد، ونسب هذا إلى أحمد بن حنبل، ولا يصح عنه عندي. وعلى هذا من العلوم ما أنفع فيه التقليد أصلًا، وهو ما ثبت في
شرعنا بأخبار التواتر، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، لأنه وقع العلم بها ضرورة بتواتر الأخبار.
العلم الثاني: ما يسوغ فيه التقليد، وهو من أحكام الدين من الحلال والحرام، وقدر الزكاة، وأحكام الصلاة والصيام ونحو ذلك. والناس فيه ضربان: عالم، وعامي. فالعامي يجوز له تقليد العالم في كل هذا. وقال بعض المتكلمين: لا يجوز حتى يعرف علة الحكم، وهذا غلط؛ لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] ولأنا لو ألزمناه ذلك لشق [١٠ أ/ ١] واحتاج إلى الانقطاع عن المعيشة بتعلم ذلك، وهذا لا يجوز فأما العالم: فلا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون الوقت واسعًا أو ضيقًا فإن كان واسعًا لا يجوز التقليد بل عليه الاجتهاد. وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: يجوز له التقليد. وقال محمد: يُقلد من هو أعلم منه ولا يقلد من هو مثله. وقال أبو حنيفة: يجوز قضاء العامي، ويجوز له أن يقلد غيره عند الحكم، ولذلك لو كان عالمًا ولكنه يتكاسل عن الاجتهاد والنظر، يقلد ويحكم، وهذا غلط؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى حكم الحادثة، فلا يجوز له التقليد كما في العقليات. والدليل على بطلان قول محمد خاصة، أن من لا يقلد من هو مثله لم يقلد من هو فوقه، كما في القبلة، وهذا لأنه يجوز أن يخطئ من يعتقد أنه أعلم في الدليل وهو يصيب ذلك. وإن كان الوقت ضيقًا فعامة أصحابنا على أنه لا يجوز له التقليد أيضًا، وهو ظاهر قول الشافعي فيؤدي تلك العبادة في الحال كلما أمكن، ثم يجتهد ويعيد.
وقال ابن سريج: إذا نزلت نازلة وضاق زمنها وخقت فوت الواجب، عليَّ فيها أن أقلد من هو في مثل حالي، وهذا غلط، لأن الاجتهاد شرط في صحة هذه العبادة، كالطهارة
شرط في صحة الصلاة، ولا يختلف ذلك بخوف فوتها وعدم الخوف كذلك هذا.
فإن قيل: أليس قلد الشافعي زيد بن حارئة ﵄ في الفرائض [١٠ أب ١]، وقلد عثمان بن عفان ﵁ في بيع الحيوان بشرط البراءة وقال: تقليدًا لعثمان بن عفان ﵁ وقلد في قبول خبر الواحد؟ قلنا: وافق رأيه رأي زيد في الفرائض وما قلده، واستأنس بقول عثمان ﵁ في مسالة بيع الحيوان بشرط البراءة؛ لأنه ذكر الدليل، يقال: والحيوان يفارق ما سواه لأنه يفتدى بالصحة والسقم، وقلما يبرأ من عيب يخفي أو يظهر. ومن أصحابنا من قال: قام الدليل على وجوب قبول قول الصحابي فلا يسمى تقليدًا كقول الرسول ﷺ: إذا قبلناه لا يسمى تقليدًا؛ لأنه لا يتوهم الشرفيه. وقيل: يسمى تقليدًا، ولكنه تقليد جائز بل واجب، لكونه معصومًا وأما خبر الواحد: فيجوز تقليد المخبر به إذا كان ظاهر الصدق؛ لأنه لا
1 / 30
يقع التسليم لقوله ذلك، فعد الاجتهاد في عدالته، فصار قوله مقبولًا، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، وهذا لا يصح؛ لأن عدالة المخبر لا تدل على صحة الخبر، كما لا يكون عدالة العالم دليلًا على صحة فتياه، وإنما الدليل ما اختص بالقول المقول لا ما اختص بالقائل من عدالة وصدق. فإذا تقرر هذا، نعني بالعالم هو الذي لا يجوز له التقليد من بلغ رتبة الاجتهاد، وهو من عرف الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة وآثار السلف وإجماع الأمة [١١ أ/ ١] واختلافهم والعربية والاستنباط بالقياس، ونعني به أن يعرف من كل واحد من هذه العلوم معظمه، لا أن يأتي على جميعه؛ لأنه لا يمكن، ومن لم يبلغ هذه الرتبة لا يحل له أن يفتي، بل يحكي الحكاية فيقول: قال فلان كذا، أو يعرف فإنه يفتي على مذهب فلان، فحينئذ يجوز أن يطلق الجواب إطلاقًا. وقيل: من يجوز تقليده أربعة أصناف؛ النبي ﷺ، لأن ما أمر به أو نهى عنه لا يسأل عن دليله، وهذه صفة الدليل، ويجب تقليده فيما أمر لقوله تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وهذا أصح من قول من قال: لا يسمى تقليدًا لقياس الدليل على صدقه.
الثاني: المخبرون عن الرسول ﷺ على ما ذكرنا من تقليد أخبار الواحد.
الثالث: المجمعون على حكم، فتقليدهم فيما أجمعوا يجب.
الرابع: الصحابة، فتقليدهم يختلف على حسب اختلافهم فيما قالوه على ما سنذكر إن شاء الله.
فرع
اختلف أصحابنا في أن النبي ﷺ هل يأمر باجتهاد أم لا؟ على وجهين أحدها: يجوز له ذلك، لأن للاجتهاد فضيلة تقتضي الثواب، فجاز له ﷺ. والثاني: لا يجوز له لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤].
فرع أخر
اختلف أصحابنا في أن لأهل الاجتهاد في عصر رسول الله ﷺ أن يجتهد، أو يلزمه [١١ ب/ ١] سؤاله على ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لقول معاذ ﵁: "أجتهد رأيي"، فلم ينكر عليه رسول الله ﷺ.
والثاني: لا يجوز؛ لأن النص ممكن في عصره بسؤاله.
والثالث: يجوز لمن بعد منه دون من قرب للتعذر على البعيد الرجوع إلى النص، ولا يتعذر ذلك على القريب.
فرع آخر
لو علم العامة حكم الحادثة ودليلها، وأراد أن يفتى به لغير ما فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لأنه وصل إلى العلم به بمثل وصول العالم إليه.
والثاني: لا يجوز وهو الأصح؛ لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها هي أقوى منها.
1 / 31
والثالث: إن كان الدليل نصًا من كتاب أو سنة جاز، وإن كان نظرًا أو استنباطًا لم يجز.
فرع آخر
لا يجوز العمل بخر الواحد إلا بعد ثبوت عدالته، وقال أبو حنيفة إذا علم إسلامه جاز العمل بخبره وقبول شهادته من غير سؤال عن عدالته، وهذا غلط؛ لأنه كما لا يجوز خبر من جهل إسلامه لا يجوز خبر من جهل عدالته.
فرع آخر
لا يجوز للمخبر أن يروي إلا عن أحد أمرين؛ إما أن يسمع لفظ من أخبره، وإما أن يقرأه عليه فيتعرف به، فأما بالإجازة فلا يجوز أن يروي عنه، ومن أصحاب الحديث من أجاز الرواية بالإجازة، ومنهم من قال: إن كان الإجازة بشيء معين، وإن كانت عامة لا يجوز. وقيل: إن دفع المحدث الكتاب من يده، وقال: أجزت لك هذا، جاز أن يرويه وإلا فلا [١٢ أ/ ١] يجوز، وكل هذا عند الفقهاء غلط؛ لأن ما في الكتاب مجهول، ويكون فيه الصحيح الفاسد، ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، ولا ستغني الناس عن معاناة السماع.
فرع آخر
إذا سمع على ما ذكرنا من الوجهين وكتبه جاز أن يرويه إذا كان قد وثق به وعرف خطه، إن لم يكن حافظًا لما يرويه ولا ذاكرًا له. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يروي عن خطه وإن عرفه، إلا أن يذكره ويحفظه، كما لا يجوز أن يشهد بمعرفة خطه حتى يذكر ما شهد به، وهذا غلط؛ لأن المسلمين عملوا بكتاب رسول الله ﷺ، منها كتابه إلى عمرو بن حزم، ومنها الصحفية التي أخذها أبو بكر الصديق من قراب سيف رسول الله ﷺ في نصب الزكوات. وروى أنس ﵁ أن النبي ﷺ قال: "قيدوا العلم بالكتاب". فلولا أن الرجوع إليه عند النسيان جائز لم يكن لتقيده بالخط فائدة، ولأنه لما جاز أن يروي عن سماع صوت المحدث وإن لم يره لزخمة أو ذهاب بصره بخلاف الشهادة، جاز أن يروي من خطه الموثوق به بخلاف الشهادة.
فرع آخر
إذا أراد العامي أن يقلد العالم هل عليه الاجتهاد في أعيان أهل العلم؟ قال ابن سريج: عليه ذلك؛ لأنه لا يشق فيطلب الأعلم والأوثق بقول الثقات والسؤال، فإن استويا قلد الاثنين؛ لأنه أقرب إلى الإصابة [١٢ ب/ ١] لطول الممارسة. وقال غيره من أصحابنا وهو الأصح: لا يلزمه ذلك، ويقلد من شاء من العلماء المشهورين بالعلم،
1 / 32
كما لا يلزمه الاجتهاد في طلب الدليل، ولأن كل واحد منهم هو من أهل الاجتهاد، فكان له إتباعه ولا
يلزمه الأخذ بالأحوط، كما لا يلزمه الأخذ بما أجمعوا عليه، مثل أن يمتنع من بيع المكيل متفاضلًا. وقد قال الشافعي في الأعمى، كل من دله من المسلمين على القبلة ويتبعه إتباعه ولم يأمر بالاجتهاد وفي الأوثق، ولأن في خبر العسيف قال والد الزاني: فسألت رجلًا من أهل العلم وهناك رسول الله ﷺ هو أعلم الكل ولم ينكر عليه.
فرع آخر
استفتى عالمين فأفتياه بجواب متفق عمل عليه بلا إشكال، فإن أفتياه بجوابين مختلفين، فعلى قول ابن سريع يجتهد في الأوثق والأدين، وعلى قول غيره من أصحابنا فيه أوجه:
أحدها: يعمل بقول من شاء منهما وهو الأصح؛ لأنه يجوز قبول قول كل واحد منهما على الانفراد.
والثاني: يأخذ بأغلظ القولين احتياطًا، وهذا غلط؛ لقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦].
والثالث: يأخذ بالاثنين والأخف؛ لقوله ﷺ: "بعثت بالحنفية السمحة السهلة" وهذا أيضًا غلط؛ لأن هذا صفة لجهة الشريعة؛ لأن في أحكامها ما يشق على المحكوم عليه مثل ما يحتسبه المحرم، والغسل في شدة البرد، ومثل ذلك.
[١٣ أ/ ١] والرابع: أن يتبع آمنهم عنده، فإن استويا قلد أيهما شاء، لأن الشافعي قال في القبلة: إن اختلفوا على الأعمى تبع آمنهم وأبصرهم ويفارق قبل السؤال حيث لا يلزمه الاجتهاد، بخلاف ما قاله ابن سريج، لأن في الاجتهاد في أعيانهم مشقة، وليس في الرجوع إلى الأوثق في نفسه مشقة بعد السؤال، ومن قال بالأول أجاب عن هذا، وقال: هذا يفارق استقبال القبلة؛ لأنه قد يكون له في إتباع أحدهما هاهنا غرض، ولا غرض في استقبال القبلة، ولا شك في القبلة في إتباع الأوثق.
والخامس: أنه يأخذ بقول الأول لأنه لزمه حين سأله، وهذا أيضًا ضعيف.
فرع آخر
إذا قلد مرة في حادثة ثم نزلت مرة أخرى، فإن تيقن أنه أفتاه عن نص لا يحتمل
التأويل لا يلزمه السؤال ثانيًا بلا إشكال، وإن لم يعلم هذا ففيه وجهان: أحدها: يلزمه السؤال لجواز تغير اجتهاده وهو الأصح، واختاره القفال.
والثاني: لا يلزمه لأنه عرف حكم الحادثة، والظاهر بقاء رأي المفتى عليه، وهو كالوجهين فيمن صلى الظهر إلى جهة باجتهاده ثم حضرته العصر، هل يعمل على
1 / 33
اجتهاده الأول؟ وجهان. وهذا عندي إذا مضت مدة من الفتوى الأولى يجوز تغير الاجتهاد فيها غالبًا، فإن كان الوقت قريبًا لا يلزمه الاستفتاء ثانيًا.
فرع آخر
إذا أراد العامي أن يقلد مفتيًا كالشافعي وأبي حنيفة ومالك، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه [١٣ أ/ ١] الآن ليس هو من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته وهو القياس.
والثاني: يجوز وهو اختيار كثير من أصحابنا؛ لأن الموثق لا يؤثر فيما قبله من شروط الاجتهاد، فلا يؤثر فيه، كما لو شهد بشهادة ثم مات، فإنه يحكم بشهادته.
فرع آخر
لو لم يعرف المستفتي لغة المفتي أجزأه ترجمان واحد، لأنه خبر، ولو بعث بمسألته رسولًا إلى فقيه فأفتاه مطلقًا، فنقل الرسول إليه الجواب وهو عدل، جاز له قبوله كما يجوزن فنزل خبر الرسول ﷺ من واحد، ولو بعث رفعه إليه فأجابه بالخط جاز له أن يعمل عليه أيضًا.
فرع آخر
لو استفتى العامي فقيهًا فلم تسكن نفسه إلى فتياه ففيه وجهان: أحدها: أنه يلزمه أن يسأل ثانيًا وثالثًا حتى يصير عددًا تسكن نفسه إلى فتياهم. والثاني: لا يلزمه، ويجوز له الاقتصار على قبوله؛ لأنه ليس نفور نفسه شبهة ولا سكونها حجة.
فصل في الإجماع
إذا قال علماء الصحابة قولًا فهو حجة مقطوع بها، وهكذا لو قال واحد مهم قولًا وانتشر في الباقين فصوبوه، ومن خالفه يكون كمن خالف نص الكتاب والسنة. وقال النظام والإمامية: لا تكون حجة ويجوز مخالفتهم، وهذا غلط لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ [النساء: ١١٥] الآية، فأوعد على ترك [١٤ أ/ ١] إتباع سبيل المؤمنين كما أوعد على مشاققة الرسول، فدل على أن إتباعهم واجب. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "لا تجتمع أمتي على الضلالة". وقال أيضًا ﷺ: "أنتم شهداء الله في الأرض، فما رأيتموه حسنًا فهو عند الله حسن". وهكذا إجماع سائر العلماء: في سائر الأعصار حجة لا تحل مخالفتهم، وإنما يعتبر إجماع من هو من أهل الحل والعقد لا من سمى عالمًا. وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه يعتبر إجماع معظمهم لا كلهم؛ ولأنه يشق وهذا لا يصح؛ لأن
1 / 34
عندنا خلاف الواحد يعد مخالفًان فربما يخالف ذلك الواحد ولا يشق ذلك؛ لأن الإمام يكتب إلى الأقطار وينقل من قولهم فيه. وقال داود: إجماع غير الصحابة لا يكون حجة، وهذا غلط؛ لأنه اتفاق أهل العصر من العلماء على حكم الحادثة، فكان حجة كإجماع الصحابة. فإذا تقرر هذا فلا ينعقد الإجماع إلا عن أصل من كتاب أو سنة، ولو انعقد عن قياس هل يكون حجة مقطوعة؟ قال عامة أصحابنا، وهو المذهب: أنه حجة مقطوعة. وقال داود، وابن جرير الطبري من أصحابنا: لا تكون حجة، وهذا غلط؛ لأن القياس دليل من دلائل الله تعالى منعقد عنه الإجماع، كالكتاب والسنة والإجماع المنعقد عن السنة مثل ما روي أن امرأة أتت
عمر بن الخطاب ﵁ -تطلب ميراثها من دية زوجها فاستشار أصحابه، فقام حمل بن مالك من التابعة، وقال: أشهد أن رسول الله [١٤ ب/ ١] ﷺ ورث امرأة أشيم الضبائي في دية زوجها، فأجمعوا على ذلك، والإجماع المنعقد عن القياس مثل قول الصحابة في إمامة أبي بكر الصديق ﵁ -رضيه رسول الله ﷺ لديننا فنحن نرضاه لدنيانا، يعني الإمامة في الصلاة حين قدمه للصلاة.
ثم أعلم أن الإجماع ضربان:
أحدهما: ما علم من دين الرسول ﷺ ضرورة، كوجوب الصلاة والصيام وتحريم الربا ونحو ذلك، فيجب الانقياد له من غير اعتبار الإجماع فيه.
والثاني: ما لا يعلم ضرورة، وذلك على ضربين: أحدها: ما استدل الخاصة والعامة في معرفة حكمه، كأعداد الركعات، ومواقيت الصلوات، وستر العورة، وتحريم بنت البنت، فهذا يعتبر فيه إجماع العلماء، وهل يعتبر إجماع العامة معهم فيه، ولولا وفائهم عليه ما بثت إجماعًا؟ فيه وجهان: أحدها: يعتبر، ولولاه ما ثبت إجماعهم لاشتراكهم والعلماء في العلم به.
والثاني وهو صحيح: لا يعتبر، لأن الإجماع إنما يصح إذا وقع عن نظر واجتهاد، والعامة ليسوا من أهل الاجتهاد، فلم يكونوا من أهل الإجماع، وأيضًا خلافهم لا يؤثر فلا يعتبر إجماعهم.
والضرب الثاني بما اختص العلماء بمعرفة حكمه دون العامة، كنصب الزكوات، وتحريم نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، فيعتبر فيه إجماع العلماء من أهل الاجتهاد ومن العامة، وهل يراعى فيه إجماع غير الفقهاء من المتكلمين؟ وجهان [١٥ أ/ ١] أحدها: يراعى ويؤثر؛ لأن الفقهاء هم أقوم بمعرفة الأحكام وأكثر حفظًا للفروع، وأكثر ارتباطًا بالفقه.
فرع
لا يشترط انقراض العصر فيما ذكرنا من الإجماع، بل القصد الإجماع في الحال، فإن رجع أحدهم عنه لا يقبل رجوعه، بل يكون قوله الأول مع قول الآخرين حجة
1 / 35
عليه، كما هو حجة على غيره. ومن أصحابنا من قال: يشترط فيه انقراض العصر، وهذا غلط؛ لأن من كان قوله حجة لم يشترط موته في صحته، كالرسول ﷺ.
فرع آخر
إذا قال واحد من الصحابة قولًا وانتشر في الباقين، وهم من بني قائل به وساكت عن الخلاف فيه، فذلك ضربان: أحدها: أن يظهر الرضا من الساكت كما ظهر النطق من القائل، فهذا إجماع لا يجوز خلافه.
والثاني: أن لا يظهر من الساكت الرضا ولا الكراهة، فهو حجة مقطوع بها، وهل يكون إجماعًا؟ فيه قولان وقيل وجهان:
أحدهما: يكون إجماعًا، وهو قول الأكثرين؛ لأنهم لا يغضون عن المنكر، ولا يسكتون عليه، ولو كان فيهم مخالف لتبعته الدواعي على إظهار خلافه؛ لأنه لا يجوز كتم الشريعة.
الثاني: لا يكون إجماعًا؛ لأن الشافعي ﵁ قال: "لا ننسب إلى ساكت قول". وهذا اختلاف في الأعم؛ لأنه لا خلاف أنه حجة يجب إتباعه ويحرم مخالفته قطعًا. وقال داود وجماعة من المتكلمين: [١٥ ب/ ١] لا يكون حجة، وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى خلو العصر عن معرفة الحق في الحادثة بخطأ المتكلم وسكوت غيره، وهذا محال.
فرع آخر
يشترط في هذا الذي ذكرنا انقراض العصر عليه حتى يحكم بموته حجة قطعًا أو إجماعًا ما فإنه إن رجع أحدهم يصح رجوعه ويعد خلافه خلافًا. ومن أصحابنا من قال: لا يشترط فيه انقراض العصر كما في الإجماع السابق، وهذا لا يصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون في التفكير والتروي، ويؤدي اجتهادهم إلى الخلاف، فإذا انقرضوا ولم يخالفوا انقطع هذا الوهم، وإن ظهر هذا القول من الإمام أو الحاكم، لا يفتات عليه ولا يجوز الاعتراض عليه، والأدب في السكوت عنهن وتفارق الفتيات؛ لأن إظهار الخلاف فيه ليس بافتيات، وهذا هو اختيار ابن أبي هريرة. وقال الأكثرون من أصحابنا بالعراق: لا فرق بين الإمام وغيره في ذلك، وقد نقل عنهم إظهار الخلاف على الإمام، فخالفوا أبا بكر ﵁ في الخبر، وعمر بن الخطاب ﵁ في المشركة وغير ذلك. وأظهر ابن عباس
﵄ الخلاف في القول بعد موت عمر، مع أنا اعتبرنا في هذا انقراض العصر، ومحاباة الإمام أو الحاكم يختص بمجلس حكمه دون غيره، وهذا أصح عندي، فعلى هذا القول يصير بمنزلة قوله وحده، هل يترك به القياس؟ قولان: قال أبو إسحاق بعكس هذا، فقال: إن كان قياس لم يكن إجماعًا، وإن كان حكمًا كان انتشاره [١٦ أ/ ١] منهم وسكوتهم عن الخلاف فيه دليل الإجماع أن الحكم لا يكون إلا من مشورة قطعًا ومطالعة، وبعد نظر ومباحثة.
1 / 36
فرع آخر
إذا قال واحد من الصحابة قولًا لم ينشر في الباقين، أو انتشر في نفر منهم دون الكل، ولم ينقل عن أحد منهم خلافه لا يكون إجماعًا، وهل يكون حجة؟ فيه قولان:
أحدهما: قاله في "القديم"، وهو قول مالك، وأبي حنيفة: أنه يكون حجة؛ لقوله ﷺ: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
والثاني: قاله في "الجديد": لا يكون حجة؛ لأنه يجوز عليه الخطأ في اجتهاده كالتابعي إذا قال قولًا ولم ينتشر في التابعين لا يكون حجة بالإجماع. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما جاء عن الله فهو الحق، وما جاء عني فهو السنة، وما جاء عن أصحابي فهو سعة" ولأن القياس حجة شرعية فيترك به قول الصحابة كالسنة.
ومن أصحابنا من قال القولان: إذا لم يكن معه قياس أصلًا. فأما إذا كان مع قوله قياس ضعيف فقوله مقدم على القياس القوي، وهذا اختيار القفال وجماعة، وهو ضعيف عندي؛ لأنه لا يجب الرجوع إلى قول الصحابي بانفراده، ويجب الرجوع إلى القياس القوي والضعيف من التباس ساقط إذا خالفه القوي، فلا ينبغي إذا اجتمع ضعيفان أن يتناويا القوي، وهذا كالخبرين الضعيفين لا يعارضان خبر الواحد القوي. وحكي عن [١٦ ب/ ١] أبي الحسن الكرخي أنه قال: يكون حجة جارية مجرى القول المنتشر، وهو خطأ ظاهر.
فإذا قلنا بقوله الجديد كان قوله كقول أحد الفقهاء، مثل الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك فيجوز للشافعي مخالفته، ويترك له القياس، وهل يخص بقوله العموم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يخص لأنه إذا خص بالقياس فلأن يخص بقوله أولى.
والثاني: لا يجوز، لأنه يترك قول نفسه بالعموم فلا يخص به العموم.
وقال القفال: هل يخص به العموم؟ قولان بناء على القولين الأولين، والذي تقدم هو الأصح.
فرع آخر
إذا اختلفت الصحابة على قولين، فإن لم يكن فيهم إمام ينظر، فإن كانوا في العدد سواء فهما سواء، وإن اختلف العدد فهل يرجح العدد؟ فعلى قول الجديد لا يرجح ويعود إلى ما يوجبه الدليل ويقتضيه الاجتهاد. وعلى قوله القديم يرجح به كما في الأخبار يرجح بكثرة الرواة، وإن كان فيهم إمام.
فإن كانوا في العدد سواء فالتي فيها الإمام هل تكون أولى؟ قولان: أحدها: يكون
1 / 37
أولى قاله في القديم. وقال في "الجديد": لا يكون أولى فإن اختلف العدد وكان الإمام مع الأقل فعلى كلا القولين هما سواء.
فرع آخر
لو اتفقت الفرقتان في العدد، وفي إحداهما أبو بكر وعمر ﵄ -وفي الآخرى عثمان وعلي ﵄، فعلى قوله القديم فيه وجهان:
أحدهما: يرجح قول أبي بكر وعمر على غيرهما لقوله ﷺ: "اقتدوا باللذين [١٧ أ/ ١] من بعدي أبي بكر وعمر".
والثاني: سواء لاستواء العدد وعدة الأئمة، وقد قال ﷺ: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وذكر الشافعي في "القديم" أنه يقدم أبي بكر، وعمر، وعثمان ولم يذكر عليًا ﵁ -فمن أصحابنا من قال فيما ذكر تنبيه عليّ وهو الصحيح. ومنهم من قال: يرجح قول الثلاثة لأنهم كانوا في دار الهجرة والصحابة متوافرون عندهم فينشر القول بينهم، وعلي ﵁ انتقل إلى الكوفة وتفرق عنه كثير من الصحابة وهذا ليس بشيء.
فرع آخر
من عاصر الصحابة من التابعين وهو مجتهد يعتبر وفاته في صحة الإجماع ومن أصحابنا من قال: لا يعتبر، وهذا غلط؛ لأنه من أهل الاجتهاد وعند الحادثة، فيعتبر وفاته فيه كالواحد من الصحابة، ومن عاصر الصحابة وهو حبس عند إجماعهم، ويعقل عقل مثله، إلا أنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ثم بلغ رتبة الاجتهاد فخالفهم هل يعد خلافه خلافًا للمذهب أنه لا يعد، لأن من لم يكن من أهل الاجتهادة فهو كالمعدوم والعامي. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما هذا. والثاني يعد خلافًا، لأن ابن عباس ﵁ -خالف الصحابة في القول، ويوم جرت مسألة القول كان قد بلغ رتبة الاجتهاد، فإنه قيل له: هلا قلت ذلك في زمان عمر؟ فقال: كان رجلًا مهيبًا فهبته.
فرع آخر
إذا اختلفت [١٧ ب/ ١] الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحدهما هل يصير إجماعًا وقد يقع حكم الخلاف السابق؟ وجهان. قال أكثر أصحابنا وهو الصحيح: أنه لا يصير إجماعًا؛ لأن الموت لا يبطل القول، والتابعين لو كانوا موجودين في عصر الصحابة، وكانوا أحد القولين لم يضر الآخرين شيئًا، كذلك إذا
1 / 38