كنت أتدرج من هذه الأسئلة إلى غامض المعاني التي يحاول علماء النفس استكناهها وأردفها بهذا السؤال الواضح: «أهذه المرأة التي سأصافحها بعد هنيهة هي الباحثة التي تنشر على الناس أفكارها، أم صدق الزاعمون أن ليس لها من فصولها إلا التوقيع كما هي الحال عند بعض السيدات الشرقيات اللاتي تعمدن التظاهر بالتفكير والتحبير؟»
والجواب عن مثل هذا السؤال قد يظهر في نظرة واحدة أو بسمة، أو حركة يأتيها الغريب فيستجلي منها اللبيب حياة ذلك الغريب وقواه الخفية وما يمكنه القيام به من الأعمال. هذا على شرط أن يكون الاثنان من درجة معنوية واحدة أو
Attuned
كما يقول الإنجليز. •••
وصلت إليها وقد تزركش رداء الليل بوشي الكواكب، ثم نشرت في الغد وصف زيارتي في إحدى الصحف الفرنساوية
2
فأستعين الآن ببعض ما جاء في ذلك المقال؛ لأني كتبته تحت تأثير المقابلة الأولى. وهاك وصف غرفة الاستقبال:
قضينا ساعة ونيفا في غرفة الاستقبال، واللون المتغلب في تلك الغرفة هو الأحمر العقيقي، تتخلله نقوش خضراء فستقية ومزيج ألوان أخرى تبدو واهية الخطوط تحت نور الكهرباء. ولم يكن ثمة ما يخبر عن عبوس الحجاب الإسلامي في تلك «الفيلا» الأوروبية، بين أثاث دقيق الصنعة ومقاعد فصلت على أحدث طرز، مع ما نشر على الطاولات النحيفة القوائم من الأشياء الفنية الصغيرة التي لا اسم لها وهي من صنع عمال المغرب أو من قلدهم من عمال المشرق الحاذقين.
كان هتافها الأول هتاف ترحيب وكلمتها الأخيرة كلمة حب. واستغرقت الوقت بين طرفي الزيارة مناقشة ودية في بعض ما عالجته الباحثة من الموضوعات كتعليم البنات، والحجاب، والسفور، وكانت تحدثني بصوت أغن الرنين تملؤه لهجة الواثق مما يقول، المعتقد بصلاح فكره، العالم أن آراءه مفيدة كل الفائدة لو كان لها الناس تابعين. وإذا وجدت الكلمة العامية ركيكة إذا ما عبر بها عن بعض المعاني، استعملت الكلمة اللغوية مكانها بنطق عربي فصيح مستشهدة بأبيات شهيرة وحكم سائرة تعزيزا لآرائها، وعلى وجهها هيئة المحقق الجاد وفي عينيها نظرة بعيدة. وإذ نحن على هذه الحال إذا بقريبة لها قد هبطت علينا من الصعيد على غير انتظار. وكانت باحثة البادية سبقت وقالت لي حين وصولي: «رغب بعض صديقاتي في المجيء للتعرف بك، على أني أردت أن نكون وحدنا في اجتماعنا الأول.»
ولكنها لم تبد انزعاجا بل ظهر السرور في وجهها وتحولت المرأة المفكرة دفعة واحدة امرأة ضحاكة كأنما لم تكن هي التي كانت منذ هنيهة تستشهد بالمعري والمتنبي. وقد ذكرت ذلك في مقالي الفرنساوي: «جاءت قريبتها من الفيوم فأخذتا تتكلمان عن أشياء يعرفانها وتهمهما معا. ذكرتا الأقارب والأصدقاء والصديقات والجارات والمعارف وهما تحلفان تارة بالله وطورا بالنبي محمد مشتركتين في الضحك والتنكيت بين جملة وأخرى. الزائرة تحدث عن الديار والباحثة تستزيدها من التفصيلات عن نساء الحي والمواشي والخياطة المصدورة والحمى المتفشية في البلد، ثم اتفقتا في الثناء على البقرة الحلوب، وهبط صوتهما إلى قرار الأسف لذكر البقرة الصغيرة المتوفاة في الأسبوع السابق. فقلت وقد أسفت لأسفهما: «أماتت تلك البقرة المسكينة؟»»
Halaman tidak diketahui