ليهنأ الرجل بمملكته. إننا لا نهز عرشه ليتداعى إلى السقوط كما تقولين، ولكنا نهزه لنطلب منه ... «الدستور».
الفصل الحادي عشر
مرثاة باحثة البادية1
أكتب اسم باحثة البادية فيتمثل لناظري ذلك الثغر البسام وذلك الوجه ذو السمرة المصرية العذبة، وأسمع صوتها الرخيم مرددا كلمات حلوة اللفظ لطيفة المعنى. وأضع يدي على مجموعة «النسائيات» فأشعر بالحياة الفائضة على تلك الفصول، وما هي إلا توقد النفس المتوهجة بين صفحاتها. كل ما لباحثة البادية مملوء حياة مفيدة نافعة، فكيف أصدق أن تلك الشعلة النادرة قد خمدت، وأن ذلك الوجه الوضاح قد اختفى وراء وشاح الردى؟
كانت عينا باحثة البادية مفعمتين ابتساما كثغرها. ولكن إذا أمعن المرء النظر في أعماقها وجد بعد الغور والكآبة المقيمة وراء الابتسام مما يرى في عيني المفكرين وفي عيني المزمعين على الرحيل العاجل، أولئك الذين لا تطول حياتهم أكثر من زهور الربيع فيذهبون تاركين الجو حولهم معطرا بعبير مآثرهم. •••
إن لباحثة البادية مركزا فريدا في الحركة الفكرية عندنا. بعد أن قام قاسم أمين يقول بتحرير المرأة وبإعطائها ما لها من حقوق أدبية واجتماعية، قامت باحثة البادية تؤيد كلامه مظهرة أهلية المرأة وكرامتها ودرجة الارتقاء العليا التي يمكنها تسنمها. قامت هذه المرأة العبقرية، ابنة الرجل الكبير، تدرس أحوال البيئة المصرية، فكان لها من ذكائها الفطري مرشد أمين، ومن شعورها العميق منبه مخلص، ومن قلمها العربي الصميم أبلغ ترجمان وخير رسول. رأت حاجة قومها إلى الإصلاح فصاحت صيحة ما زال يرن صداها. وظلت تكتب وتخطب ناشدة الإصلاح، وهي المرأة المسلمة الوحيدة التي فعلت ذلك في وسط ما زال رجعيا في ميوله، بشجاعة وكفاءة وتفوق لم ينل منها شيئا انتقاد الناقدين وتعنت المتحزبين.
كانت شديدة الحب لقومها، شديدة الغيرة على وطنها، شديدة التألم لما تراه من علامات التأخر والانحطاط في البيئة المصرية. ومجموع هذه العواطف من حب وغيرة وألم كان يتخلل كل ما تكتبه كأنين متواصل ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيرا وعويلا. كذلك يتألم صاحب العقل والقلب الكبيرين كأنما هو يتألم عن أمة بأسرها! •••
لما زارتنا للمرة الأخيرة كانت ترافقها صويحبة لها، فأخذت هذه تنقر على العود وأنشدت الباحثة بصوتها الشجي هذين البيتين من الموشح الأندلسي المشهور:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
Halaman tidak diketahui