كذلك تظل يدها سائرة على هواها والنكتة جزء من معانيها. وقد تدري بها فتضحك لها بعد رسمها على القرطاس، وقد لا تلتفت إليها مطلقا. فتبقى في إعراضها والظرف يتسرب بين مقاطع الخطاب حتى يجيء الانفعال الشديد يهزها فتتطاير إذ ذاك من حول صحيفتها أسراب الملح والنكات والتهكم ويتفرغ اليراع لصب مقذوفات العاطفة المشتعلة والشعور المعاني. •••
أما المصرية الوطنية فمضمرة دائما وإن لم ترفع القناع إلا الوقت بعد الوقت. وربما تكلمت الوطنية أحيانا باسم الإسلام وتارة باسم الشرق بأسره كقولها:
إننا لو سلمنا بما يقترحه الكتاب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون؛ إذ يفني الضعيف في القوي، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجري مجراه . فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدن الحديث.
رأي في منتهى العقل والاعتدال، وإخاله يتفق غرضا مع الجمعية النسائية التي تألفت في هذه الأيام لمقاومة تيار المدنية الأوروبية في هذا القطر. أنا الشرقية المحبة لكل ما هو شرقي أتمنى لكل من أقطارنا طابعا شرقيا. لكن حسن أن يبسط المرء مدى فكره إلى ما وراء حدود ما يتمنى؛ لأن جدران «التمني» ضيقة أحيانا. ثم إذا مال الإنسان إلى أمر ووجد من نفسه دافعا يحمله على طلب ذلك الأمر بقوة كان ملبيا نداء سريا منبثقا من أعماق مزاجه. وكأن خفايا المزاج تعلم أن في الأمر المطلوب ما يكمل منه قوى لم يبرز إلا بعضها، أو أن في ذلك الأمر اقتدارا لتنبيه قوى جديدة مجهولة؛ إذ ذاك ما تنفع الآراء، وهل يستفيد المرء منها حقيقة ولو تظاهر بالإصغاء والطاعة؟ إن كان من قوة الإرادة بحيث يتيسر له التملص من هذا الانجذاب فهل في ذلك خيره أم كان خاسرا ظرفا من الظروف النادرة التي تهيئها الحياة لتوسيع الممكنات وإنماء الملكات؟ ترى هل فنيت قوة اليابان منذ احتضنت المدنية الأوروبية واستخدمت مظاهرها أم تحسب اليابان من الرابحين؟
أما ساعة تتكلم الباحثة بلسان المرأة فهي تحذف اسم الشرق والأقطار الإسلامية ولا تهتم إلا بالمرأة المصرية دون غيرها كقولها:
إن من يتصفح تاريخ المرأة المصرية الحديثة يرى أنها كانت دائما مظلومة مهضومة الحقوق؛ ففي عصر إسماعيل هجم علينا جيش من الشركسيات انهزمنا أمامه وخرج ظافرا منا بأحسن رجالنا، فلم يكن شريف ولا نابه بمصر إلا وأم ولده جارية شركسية من شراء إسماعيل. ثم ابتدأ رجالنا بعد ذلك الزمن يتزوجون بالأوروبيات. «أما وقد صار الآن بمصر من المتعلمات من يصلحن للزواج بأبناء جلدتهن أفليس من العار أن تقدر على أن تجعل ابنك شريفا من أم ذات حسب فتختار أن يكون ابن جارية شركسية أو راقصة أوروبية؟» ... «ألا رب معترض يقول أن قد بطل الرق الآن ، وإن من يصاهر الترك يصاهر أكفاء . هذا صحيح ولكن الأم تغذي الطفل بأميالها وطباعها كما تغذيه بلبنها، فإذا ما حنت التركية لوطنها (وكل يحن بالطبع لوطنه) نشأ متشبعا بأميالها؛ يحب تركيا ويميل عن مصر وهو معدود من رجالها» ... «وسبب فشل المصريين وعدم ميلهم الفطري للاتحاد هو على ما أرى ناشئ عن تشعب أجناس أمهاتهم؛ فابن الفرنساوية يحب فرنسا، وابن الزنجية يذكر خصب السودان، وابن العربية يفتخر بمحتده، وولد المغربية لا يفتأ يذكر بلده، وهكذا أضعنا وطنيتنا المصرية عن طريق المصاهرة بالأجانب» ... «ثم أجدني محقة إذا قلت إن الدم يحن إلى نوعه؛ فإذا تكافأ الرجل والمرأة في العلم والتربية وكانا مصريين مثلا فإن الحب بينهما يكون أصدق وأمتن منه لو كانا مختلفي الجنس.»
6
عندي اعتراض صغير على كلمتي «أصدق وأمتن». إن للحب درجة واحدة من المتانة والصدق، وتلك الدرجة كعبة تدركها قلوب المخلصين قبل أن يفطنوا لها، بل إن الإخلاص المجرد من انتباه الشخص المخلص لوقوع إخلاصه كان دائما من الصفات الودادية الأولية. ثم إن الحب هو العالم الأنور والأفق الأطهر الذي تتلاشى عنده كل جنسية وكل تحزب، ولا يخطو بابه إلا المخلصون. كلا، لا يكون الحب «أصدق وأمتن» بين مصري ومصرية منه بين مصري وفرنساوية، أو إنجليزي وزنجية. إلا إذا أرادت باحثة البادية أن أبناء الوطن الواحد والطبقة الواحدة يكون لهم في الغالب أذواق متشابهة متقاربة فلا يولد الاحتكاك فيما بينهم نفورا. وهي نظرية أصادق عليها نصف مصادقة فقط؛ لأن أخوة الجنسية والطبقة لا تعني أخوة النزعات. كم من الناس رأوا أنفسهم منعكسين في مرآة نفوس الغرباء المختلفين عنهم جنسية وعقيدة وأطماعا ومصالح، فكانوا معهم متفاهمين متفقين؛ لأنهم وجدوا أن بينهم وبين هؤلاء الغرباء علاقات معنوية وقرابة روحية لم يربطهم مثلها بذويهم وأقرب الناس إليهم! ذلك لأن للنفوس والميول وطنا غير وطن الجسد. على أن هذا لا ينفي أن أبناء الوطن الواحد أقرب إلى الاتفاق فيما بينهم إزاء المصلحة الوطنية.
باحثة البادية تحب كل ما هو مصري؛ ما ألطف هذه الكلمة في وصف اللون المصري:
وما أحلى السمرة الجاذبة لو فهمنا معناها. إنها جميلة لأنها جميلة ولأنها مصرية ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى.
Halaman tidak diketahui