6
حسبنا شهادة لمدارس الحكومة أنها أنجبت باحثة البادية ومن حذون حذوها. أما المدارس الأهلية التي قالت فيها الباحثة ما قالت فأنا لا أعرفها إلا بالاسم، فلا يمكنني تولي الدفاع عنها. ولكني أعرف بعض مدارس الراهبات حق المعرفة، وإني لأجاهر بأن انتقاد الباحثة لا ينطبق عليها. وقد تكون الباحثة عثرت صدفة على فتيات «تخرجن في مدارس الراهبات وهن لا يعرفن إلا العزف على البيانو والرطانة ولسن من العلم والتهذيب في شيء، وهن على جهلهن هذا شامخات بأنفهن نحو السماء فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع وهن على العموم أكثر النساء إسرافا وتبذيرا فضلا عن البهرجة وقلة الحياء»، وكن سببا في تكوين حكمها هذا الشديد. ولكن إذا وجد مثل هؤلاء بين خريجات مدارس الراهبات فلا تعدم أضرابهن المدارس الأخرى، ويوجد مثلهن بين اللائي لم يتخرجن إلا في منازل آبائهن على يد أمهر الأساتذة وأفضل المؤدبين. كذلك أنجبت مدارس الراهبات نساء كن سعادة ذويهن ونور محيطهن، كما أنه قد يرى من أفضل النساء في طائفة لم تتلقن العلم إلا من ذكائها الفطري ولم تتناول قواعد التهذيب إلا من الوجدان السليم.
إن تأثير المدرسة وتأثير الوسط عظيم جدا ولكنه ليس له القدرة المطلقة. والأهمية الكبرى إنما هي في قابلية التلميذ واستعداده. لقد قال أرسطو مرة: «إن عقل الطفل كالشمع اللين يكيفه المعلم كيفما أراد.» فاقتبس هذه النظرية قوم من علماء الأخلاق وجعلوها أساسا لتعاليمهم، لكن ما أكثر الذين قاموا يناقشونهم ويدحضون أقوالهم من المعارضين! ومن البديهي أن المدرسة لو كانت ذات فعل مطلق شامل متماثل لما رأينا الفروق الكبيرة بين طلبة المعهد الواحد والاختلاف الجوهري بين تلامذة الفرقة الواحدة المستقين العلم من أستاذ واحد المنفعلين بتأثير مؤدب واحد. ترى لماذا لم تخرج لنا تلك المدرسة العزيزة وذلك القسم الدراسي المبارك إلا «باحثة البادية» واحدة لا ثانية لها؟
لست بمدافعة عن مدارس الراهبات لمجرد الدفاع، ولكني تربيت فيها سنوات أربع فاختبرتها بنفسي، كما أني اختبرتها في غيري من بنات عمي وقريباتي ومعارفي اللاتي تهذبن وتعلمن فيها. لم أجد فيها العيوب المذكورة في «النسائيات»، بل ما يناقضها على خط مستقيم؛ منها الترفع الكثير عن الدنايا، والجري وراء مثل أعلى قلما يتراءى في سبل الحياة العادية، ورفع النفس إلى ما وراء المرئيات، والإكثار من الصلاة والتطرف في العبادة مما يؤهل الفتاة لاعتناق الحياة الرهبانية فتظل مدة بعد رجوعها إلى البيت حائرة في دوائر الهيئة الاجتماعية، غريبة بين هؤلاء البشر الذين يجهلونها ولا تفهمهم. وعلى رغم تلك العيوب ما زال الآباء يتهافتون على هذه المدارس، ورجال من أفضل المصريين حصافة وأوسعهم علما يأتمنونها على بناتهم واثقين بأن نوع التربية الذي ينلنه بين تلك الجدران الصامتة لهو من خير الأساليب التهذيبية.
أما النقص الشائن في إهمال تدريس التاريخ الإسلامي والتواريخ الشرقية الأخرى وإتقان اللغة العربية فإن اللوم فيه عائد على الأهل؛ إذ أي شيء يمنعهم عن تعليم ما يريدون لبناتهم بعد خروجهن من المدرسة؟! وذلك يسهل عليهن يومئذ لأنهن يدرسن مختارات لا مرغمات، فيجدن لذة تخلو منها أكثر الدروس المدرسية الجبرية، ويقفن على كثير في وقت قليل. إن الأجانب يهبطون ديارنا لترويج لغتهم ونشر علومهم وتاريخهم. وفي معرفتنا للغاتهم وآدابهم وتاريخهم وعلومهم سلاح في يدنا وقوة نجاهد بها في ميدان المسابقة المفتوح لنا ولهم، وهم فيه غالبا - غالبا فقط! - فائزون. وهل يكتفي المرء في هذا العصر بكونه حافظا لتاريخ الشرق مستظهرا متون سيبويه وحواشي الصبان إن لم يكن له إلمام بمعارف الغير مع إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل؟ إن ناموس تنازع البقاء ليقضي علينا بذلك، وإن أحكامه لنافذة سواء شئنا أم لم نشأ. فإن لم نسر بحكمة مع النظام سرنا جهلا ضده. ومن ذا الذي يستطيع معاندة ما لا يعاند ومغالبة ما لا يغالب؟! فإن لم نجر مع دولاب الحياة انقلب علينا فكنا فريسته المنسحقة تحته.
لندرسن علوم الأجانب من جهة ولندرسن تواريخنا من جهة أخرى نكن جامعين بين المعرفتين أقوياء بالقوتين. ومن لم يكن مهتما بشئونه فكيف يتوقع من الغير بأحواله اهتماما؟! •••
سيرى فريق أن باحثة البادية كانت متعصبة، ذلك مما لا ريب فيه، وكيف ينتظر أن تكون غير متعصبة؟! أليست بشرا؟! أوليس التعصب من أشد العواطف ملاصقة للنفس؟! حدثوني عن تسامح من لم يكن متعصبا لأضحك قليلا! من هذا الشخص؟ ومن أي مذنب مجهول في فيافي الفضاء قد هبط علينا؟ العالم في مكتبه، والمحسن في كرمه، والشاعر في عزلته، والفيلسوف في تأملاته، كل من هؤلاء متعصب تعصبا يتفاقم شره كلما كان خفيا تحت مظاهر الحلم والتساهل.
وإني لأرى استعمال المفرد في التعصب سخيفا، بل هناك تعصبات يجوز عليها جمع الجمع وجموع الجموع إلى ما لا نهاية له. فالتعصب الجنسي والقومي والعلمي والفلسفي والأدبي والاجتماعي والحزبي والفردي، وتعصبات أخرى لا أسماء لها تسير موكبا هائلا سريا لا يبرز فيه إلا التعصب الذي ننعته بالديني. قال قائل: إن التاريخ سلسلة حروب، وإن الشعب الذي لا حروب له لا تاريخ له. ولو قلنا إن الحروب إجمالا وتفصيلا ليست إلا حكاية تعصب البشر لكنا معبرين عن الفكرة نفسها بكلمات هن أقرب إلى معنى الصدق.
كثيرا ما أسائل نفسي: ترى هل يهدأ يوما ثائر العواطف المتطرفة وتتوازن قوى الإنصاف فيرتفع المرء بإدراكه إلى أفق يشرف منه على جميع النزعات الإنسانية؟ ترى هل يفطن البشر يوما أن كلا من الميول وكلا من الأديان ينطبق دون غيره على مطالب فئة واحتياجاتهم، فلا تطمئن منهم النفوس إلا بالتمشي مع نصوصها؟ لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، فمتى يذكرون؟ وما يسمونه عند الآخرين تعصبا يدعى عندهم غيرة قومية ونخوة وحمية، فمتى يذعنون؟ ومتى يقولون مع الشاعر:
هذي المذاهب كلها دين الهدى
Halaman tidak diketahui