أو هي منقولة عنه والرجلان متعاصران، وليس هذا موضع الفصل في أيهما السابق وأيهما السارق. ومن الطبيعي أن تكثر في بغداد وسائل الطرب وبيوت الملاهي؛ لأن هذه من مستلزمات الترف والبذخ اللذين أخذت بغداد منهما أوفر نصيب، والحضارة إذا استبحرت وتحكم سلطانها ظهر معها كل مستلزماتها - حسنة كانت أم سيئة، رفيعة كانت أم وضيعة - وعلى كثرة ما توفر في مدينة السلام من عوامل الترف ومتع الطرب، فإن ذلك لم يكن يحول بين الناس وبين التحلي بأسمى الفضائل وأسنى الشمائل. (3)
العناية بالنظافة:
كان البغداديون مضرب المثل في نظافة الأجسام والثياب والمساكن والطرق والرحاب. ولأمر ما أكثروا في بلدهم من الحمامات والأنهار والسواقي والبرك، وكل وسائل التنظيف والتطهير والأناقة في الملابس والمطاعم والمساكن. (4)
السخاء والأريحية:
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، نجتزئ منها بالمثال التالي الذي يدل على كرم العامة: نقل عن ذي النون المصري أنه قال: «من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: لما حملت إلى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيدا، فمر بي رجل متزر بمنديل مصري، معتم بمنديل دبيقي، بيده كيزان خزف رقاق وزجاج مخروط، فسألت: أهذا ساقي السلطان؟ فقيل: لا! هذا ساقي العامة، فأومأت إليه أن اسقني؛ فتقدم وسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارا. فأعطاه الدينار، فأبى وقال: لست آخذا شيئا، فقلت له: ولم؟ فقال: أنت أسير وليس من المروءة أن آخذ منك شيئا. فقلت: كمل الظرف في هذا.»
أما الخاصة فحدث عن سخائهم ولا حرج. فلم يذكر التاريخ بلدا من بلاد الله تبارى أهله في بذل الجوائز السنية، والهبات الجزيلة، والعطايا السخية للشعراء والأدباء وطلاب الخير مثل بغداد، وأخبار البرامكة في هذا الباب أشهر من أن تذكر، وهم وإن لم يكونوا بغداديي الطينة فإنهم بغداديو المدينة، ولو لم تكن سوق الكرم في بغداد رائجة يومذاك لما أقدم البرامكة وأمثالهم على ما أقدموا عليه من بسط أيديهم كل البسط، والسوق إنما يجلب إليها ما يروج فيها، حتى إن المعاصرين اليوم ليشكون كل الشك في صحة تلك الأخبار التي غصت بها كتب السمر ودواوين التاريخ؛ لما في أرقامها من الضخامة التي لا يكاد يحلم بها المفلسون من المتأخرين. وقد وقع هذا الشك لبعض الأقدمين، فذكروا أن أحد وزراء العباسيين في العصر الرابع قال في مجلسه إن هذه الأرقام من مبالغات الوراقين والأدباء المملقين تعمدوها ليصطادوا بها أموال الأمراء والوزراء، ويستدروا بها أكف أولي الأريحية من الأغنياء، وكان في المجلس أحد الأذكياء، فقال له: يا سيدي، لماذا لا يكذب الناس على مولانا الوزير؟! فلم يحر الوزير جوابا. وإذا كان لا بد من ذكر الأمثلة الجزئية في هذا الباب، فهناك مثال ذكره هلال بن المحسن الصابئ في تاريخ الوزراء، قال: «كان لأبي الحسن بن الفرات مطبخان في داره، فأما مطبخ الخاصة فلا أحصي ما كان يدخله من الغنم والحيوان لكثرته ... وأما مطبخ العامة فكان يستعمل فيه كل يوم تسعون رأسا من الغنم، وثلاثون جديا، ومائتا قطعة دجاجا سمانا وفراريج مصدرة، ومائتا قطعة دراجا، ومائتا قطعة فراخا، وهناك خبازون يخبزون الخبز السميذ ليلا ونهارا، وقوم يعملون الحلواء عملا متصلا، ودار كبيرة للشراب وفيها ماذيان يجعل فيه الماء المبرد، ويطرح فيه الثلج ويسقى منه جميع من يريد الشرب ... ومزملات فيها الماء الشديد البرد، وبرسم خزانة الشراب خدم نظاف، عليهم الثياب الدبيقية السرية، وفي يد كل واحد منهم قدح فيه سكنجبين أو جلاب ومخوض ، وكوز ماء، ومنديل من مناديل الشراب نظيف، فلا يتركون أحدا ممن يحضر الدار إلا عرضوا ذلك عليه ... وفي جانب الدار أدراج كثيرة «من الكاغد» لأصحاب الحوائج والمتظلمين؛ حتى لا يلتزم أحد منهم مئونة لما يبتاعه من ذلك، وأنصاف قراطيس وأثلاث.»
وقال أبو العلاء في بعض رسائله ما معناه: إن معارفه من البغداديين عندما علموا بعزمه على الرجوع إلى المعرة زاروه في مثواه وعرضوا عليه أن يقاسموه أموالهم ويخلطوه بأنفسهم، فأبى عليه البر بالوالدة أن يجيبهم إلى رغبتهم. ومن قوله في هذا الباب:
وكم ماجد في سيف دجلة لم أشم
له بارقا والمرء كالمزن هطال
من الغر تراك الهواجر معرض
Halaman tidak diketahui