قرأ فؤاد كتاب بديعة فارتجف كالورقة، وكان وهو يقرؤه يشعر بنار محرقة من الكلام الذي جاء فيه، وباضطراب داخلي عظيم، وبعد أن أتم قراءته تضاربت أفكاره، وتكاثرت فلم يقدر أن يحكم: أكانت والدته صادقة وبديعة خائنة، أم كانت بديعة صادقة وقد ذهبت مرغمة كما دل فحوى كتابها؟ ولكنه على كل حال لم يقدر أن يصدق كلمة «خائنة»؛ لأنها كانت نارا محرقة تكاد تلتهم قلبه.
وراجع قراءة مكتوب بديعة مرارا فصدق إذ ذاك بأنه صادق وصادر عن قلبها؛ إذ قد قيل إن الكلام الصادر عن القلب يذهب إلى القلب، وأما الصادر عن اللسان فلا يتعدى الآذان.
وكان يردد في فكره جملة أخيرة جاءت في كتابها وهي:
متى رجعت إلى البيت واستلمت هذا الكتاب فاذكرني واسأل عني قلبك فهو يدلك.
فوضع يده على قلبه وقال: نعم، إنه يدلني بأنك بريئة يا حبيبتي، ولكن آه لو كنت أقدر الآن على معرفة سبب ذهابك. ولما ذكر «سبب ذهابها» ذكر قول والدته فيه، فاضطرب وقال: لا يبعد أن تكون بديعة كاذبة؛ إذ في النساء طبع هو أنهن يظلمن نفوسهن نفوس الغير، وينادين مستغيثات قائلات: «لله يظلم من ظلمنا!» ولهذا ارتاب في كلام بديعة. ولا يلام فؤاد إذا شك بصدق بديعة وهو رجل من الرجال يبدي رأيه في «امرأة» من النساء، وكل رجل يحسب «كل امرأة» مهما بلغت من الكمال النسائي لا بد لها من إتيان بعض الأمور الذميمة الموصوفة بها بنات جنسها، ولو كانت تخالف مبدأها، وهو يحسب بأن «العادة طبيعة» ولو كان مصدرها الجهل، وأن العقل يدني الإنسان من الكمال سواء كان امرأة أو رجلا، وأنه حيث وجد العقل مرشدا وجدت الفضائل الغراء السامية، ولا فرق بين المرأة والرجل بهذا؛ لأنهما من جبلة واحدة، ولكن ما يجعل المرأة تنقص الرجل في بعض الأمور هو جهلها، وهو كثير عندها، وقليل عنده وما عدا ذلك فالمرأة كالرجل بكل شيء.
فرحماكم أيها الرجال بالمرأة، وإذا قلتم عن البعض من هذا الجنس إنه «ماكر أو نمام أو ثرثار» قبلنا قولكم بشرط أن لا تقولوا: «كل الجنس»، وبودكم أن تبرهنوا بأن العلم والجهل عند هذا الجنس سيان؛ لأنه كما خلق يموت ولا يؤثر فيه شيء، وما هذا هو الحق؛ لأن المرأة مادة كمادة الرجل قابلة للتعقل والتهذيب، فمتى جربناها فيها كالرجل تماما يعرف إذا كان من فرق بينهما، ومتى فعلتم ذلك فلوموا نفوسكم على رذائل المرأة ولا تلوموها هي.
ولو كان فؤاد يقرأ كتابا من رجل إذ ذاك لصدقه وقال: «إن الرجل شجاع وصادق.» أما وهو من امرأة فقد قال عنها وهو حبيبها بأن مكر النساء مشهور ...
فهل هو العدل أن نسلم سرنا لأشقى رجل معروف ونكتمه عن أفضل امرأة مثلا، ونقول: إن الرجل يكتم السر لأنه رجل والمرأة تفشيه لأنها امرأة؟! ما أضل هذا الوهم الذي يماثله اعتقاد بعض الجهلاء من كل طائفة بأن الرجل الذي من طائفتهم يجب أن يعتبر ويحترم ويعترف له بالفضل رغما ولو كان من أشقى الأشقياء، كما يجب أن يحتقر رجل آخر ولو كان فاعلا الخير فاضلا صالحا ... والسبب هو أن الأول من مذهبهم والآخر من غير مذهبهم! اعتقاد فاسد سداه الغباوة والجهل ولحمته التعصب والمكابرة.
ولما ذهب فؤاد إلى سريره قال: «قبح الله مكر بعض الرجال والنساء!» لأن الشر يكون مشتركا بين الجنسين دائما، ولا يكون نصيب أحدهما منه أقل أو أكثر من نصيب الآخر، وهذه قصة بديعة وما شاكلها أكبر شاهد، إنما قضت الضرورة بأن يستقل الجنس الغالب بالخير وينسب الشر إلى الآخر، وأن ينصت الجنس المغلوب عن عجز وضعف. وما كان الله ظالما وجائرا فهو لم يخص النساء بالشر والرجال بالخير، بل خلق الجنسين وخلق الفضائل والرذائل متساوية بينهما.
الفصل الخامس والعشرون
Halaman tidak diketahui