بسم الله الرحمن الرحيم
رب تمِّم
الحمد لله كما هو أهله ومستحقه. والصلاة على رسوله محمد وآله.
قال الإمام الأجل الكبير، الأستاذ شيخ الإسلام علاء الدين عالم علماء الشرق والصين، محمد بن عبد الحميد ﵀:
وبعد- فإني كنت جمعت "طريقة الخلاف" وأدرجت في أثناء مسائلها قدر ما يحتاج فيها من أصول الفقه على وجه الاقتصار والاقتصاد، ثم إن بعض الأعزة من أصحابي لم يقنع بذلك، وسألني أن أؤلف فيه جمعًا مفردًا، يأتي على جميع أبوابها، وأستوفى الكلام في كل باب منها، على الرسم المعهود في مثله- فأجبتهم إلى ذلك، وسألت الله تعالى التوفيق لإصابة الحق، والعصمة عن الخطأ، إنه على ذلك قدير.
1 / 3
[المقدمة]
١ - باب - بيان وجوب العلم بأصول الفقه. وكيفية وجوبه
أما وجوبه:
فلتعلق دفع أعلى المضار به، وهو العقاب في الآخرة.
بيانه: أن دفع العقاب في الآخرة إنما يحصل بالجري على قضايا الأحكام الشرعية. ولا حصول للعلم بالأحكام الشرعية إلا بالعلم بأصول الفقه. فصار العلم بأصول الفقه شيئًا لا مدفع للعقاب بدونه، وما هذا حاله، فهو واجب عقلًا وشرعًا.
وأما كيفية وجوبه:
فهو واجب على التعيين في حق من تعين لذلك وتصدى به لفتوى العوام وتقليدهم إياه: إما بتعيين النبي ﵇ إياه، أو بتعيينه نفسه بالتصدي لذلك، لأن المقصود لا يحصل بدونه.
وفي حق العوام واجب على البدل، لأن المقصود يحصل بدونه، وهو تقليد العالم وإتباع فتواه.
٢ - باب- ماهية أصول الفقه. وكيفية الاستدلال به وما يتبع كيفية الاستدلال [بها]:
[ماهية أصول الفقه]:
فنتكلم أولًا في الفقه، وأصوله- لأن قولنا "أصول الفقه" مشتمل عليهما.
1 / 5
أما الفقه:
ففي اللغة عبارة عن الفهم والمعرفة- فقال الله تعالى: ﴿لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ أي لا يفهمون. وقال تعالى: ﴿واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ أي يفهموا. ومنه قول القائل "فقهت كلامك" أي عرفت غرضك ومقصودك.
غير أنـ[ـه] في عرف الفقهاء يفيد جملة من العلوم بأحكام شرعية، وهي الأحكام المستفادة بالشرع، لا الأحكام المدركة بالعقل، فإن للأفعال: أحكامًا عقلية نحو: كون الفعل عرضًا ويفتقر إلى محل يقوم به، ومخالفًا للجوهر،
1 / 6
وكونه كونًا وحركة وسكونًا ونحو ذلك. وأحكامًا شرعية من نحو: كونه حسنًا ومباحًا ومندوبًا وواجبًا وقبيحًا وحرامًا ومحظورًا ومكروهًا: فالحَسن هو المختص بحال يقتضي استحقاق المدح عليه. والمباح ما أزيل عنه الحظر والمنع ممن يتوقع منه ذلك. والمندوب ما بُعث المكلف عليه من غير إيجاب. والواجب هو المختص بحال يقتضي استحقاق الذم على الإخلال به. والقبيح هو المختص بحال يقتضي استحقاقه الذم عليه. والحرام هو المختص بحال يقتضي المنع منه والذم عليه. والمحظور ما منع عنه بالزجر لا بالحبس، فإن من قبض على يد غيره لا يقال "حظر عليه البطش". والمكروه ما الأولى أن لا يفعل- فالفقه عبارة عن معرفة هذه الأحكام دون العقلية.
1 / 7
وأما الأصل:
ففي اللغة عبارة عما يبتني عليه غيره ويتفرع عليه سواه، كأساس الجدار وساق الشجر ونحو ذلك.
فقولنا "أصول الفقه":
على موجب اللغة يفيد ما يتفرع عليه الفقه. وذلك يوجب أن يكون العلم بالله تعالى وبصفاته وبالنبوات من أصول الفقه، لما أن الفقه يتفرع عليه. غير أنـ[ـه] في عرف الفقهاء يفيد ما يؤدي إلى الفقه من الطرق. وذلك ضربان: دلالة وأمارة.
فالدلالة- هي التي النظر الصحيح فيها يفضي إلى العلم بالمدلول قطعًا، ككتاب الله تعالى والخبر المتواتر وإجماع الأمة.
والأمارة- هي التي النظر الصحيح فيها يفضي إلى غالب الظن، كخبر الواحد والقياس.
فالعلم الذي يوصلنا إلى الدلالة- هو الأمر الذي يوجب كون من قام به عالمًا. أعني يوجب التفرقة المعلومة بالضرورة بين المتيقن بالشيء المستبين له والجاهل به والشاكِّ فيه- على ما مرَّ في موضعه.
والظن- هو غلبة أحد التجويزين على الآخر في القلب والاعتقاد.
ثم كلامنا في طرق الفقه إنما يسمى كلامًا في أصول الفقه لو تكلمنا فيه
1 / 8
على الإجمال. والمعنيُّ بذلك أنها غير معينة، فإنَّا متى تكلَّمنا متى تكلَّمنا في أن الأمر للوجوب لا نشير إلى أمر معين. وكذا النهي، والقياس. فأما الدلالة المعيَّنة التي يتكلم فيها الفقهاء، نحو قوله ﵇: "الأعمال بالنيَّات" فالكلام فيه لا يكون كلامًا في أصول الفقه، وإن كان طريقًا إلى الفقه.
وأما كيفية الاستدلال بها:
فالمعنيُّ بها الشروط والمقدمات وترتيبها، التي معها يُستدل بالطرق على الفقه.
وأما ما يتبع كيفية الاستدلال بها:
[فـ] مما يلزم المجتهد من الحكم بكونه مخطئًا أو مصيبًا، لما أن ذلك يتبع استدلاله.
٣ - باب- قسمة أصول الفقه:
ولمَّا ثبت أن أصول الفقه طرق إلى الأحكام الشرعية، وكانت الأحكام تلزم المجتهد وغير المجتهد، فلا بدَّ أن يكون لهذا طريق، ولذلك طريق.
فطريق غير المجتهد -فتوى المجتهد، وذلك يوجب أن نتكلم في صفة المفتي والمستفتي، وما يدخل فيها من الأبواب- على ما سيجيء بيانه.
1 / 9
وطريق المجتهد ضربان:
أحدهما- الرجوع إلى حكم العقل، لأنا متعبدون بالبقاء على حكم العقل إلى أن يرد الشرع بالنقل عنه. وذلك يوجب أن نتكلم في أن الحظر والإباحة ثابتان بقضية العقل، ليصح لنا التمسك بهما إلى أن يرد الشرع بالنقل عنهما.
فلذلك صار الكلام في الحظر والإباحة من أصول الفقه.
والآخر- ضربان: أفعال وأقوال.
فالأقوال- هو القول الصادر: من الله تعالى وهو الكتاب، ووجه الدلالة فيه أنه كلام حكيم غني لا يجوز عليه الكذب والهذيان والمغالطة. أو من الرسول وهو الخبر، ووجه الدلالة فيه: أنه كلام مخبر صادق مؤيَّد بالمعجزة لا يكذب فيما يؤدي عن الله تعالى ولا يقصر في تبليغ الرسالة. أو من الأمة وهو الإجماع، ووجه الدلالة فيه: أنه عقائد قوم لا يجتمعون على ضلال: عرف ذلك بكتاب الله وخبر رسوله.
والأفعال- هي الأقيسة والاجتهادات.
فهذه جملة أصول الفقه وأقسامها.
1 / 10
فنبدأ بـ:
١
كتاب الله تعالى
إذ هو الأصل.
فيحتاج إلى: معرفة الحقيقة والمجاز، ليصح منا حمل كلام الله تعالى على الحقيقة إذا تجرد عن القرينة. وعلى المجاز إذا جامع القرينة.
وذلك يوجب أن نتكلم في حقيقة الكلام أولًا. لأن الحقيقة والمجاز من أقسام الكلام.
1 / 11
٤ - باب- حقيقة الكلام وأقسامه:
اعلم أن اسم الكلام يقع على أمرين:
أحدهما- كلام النفس، وهو المعني الذي يقوم بالمتكلم، فيوجب كونه متكلمًا، وينافي الخرس والسكوت والآفة.
هذا هو حقيقة الكلام. وقد عرف ذلك في موضعه.
والتالي- هذه العبارات التي تقع دلالة على مراد المتكلم، وهو المراد هنا، وبه يتعلق غرض الكتاب.
وحدُّه ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة. وقد دخل في هذا الحدِّ جميع ما هو كلام كالحرفين فصاعدًا. وانفصل عما ليس بكلام: لأنه انفصل عما ليس بحروف، بذكر الحروف. وانفصل عن حروف الكتابة، لأنها ليست بمسموعة. وانفصل عن الحرف الواحد، لأنه لا يوجد فيه الانتظام. وانفصل عن أصوات كثير من البهائم والطير، لأنها ليست بمتميزة.
1 / 13
وبعضهم شرطوا في كون هذه الحروف كلامًا وقوع الاصطلاح عليها، حتى إن كل ما لم يصطلح على استعماله في المعنى لا يكون كلامًا- وهذا بعيد، لأن أهل اللغة قسموا الكلام إلى مهمل ومستعمل: فالمهمل ما لم يوضع لشيء، والمستعمل ما وضع ليُستعمل في معنى. فالأول لا يدخله الحقيقة والمجاز. والثاني يدخله الحقيقة والمجاز، فلا بد من بيانهما.
1 / 14
١
باب
الحقيقة والمجاز
اعلم أن الحقيقة- هي ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع فيه التخاطب.
وإنما حدَّدنا الحقيقة بهذا ليدخل فيه جميع أقسام الحقيقة، لأن الحقيقة قد تكون لغوية، وقد تكون عرفية، وقد تكون شرعية. فاللفظ إذا أفيد به معنى وضع له في اللغة فإنما يكون حقيقة في ذلك. [أي] لو كان الاسم في مخاطبات الناس يُستعمل بناء على مواضعه أهل اللغة. أما إذا كان الاسم في مخاطبات الناس يُستعمل بناء على مواضعة أهل الشرع، [فـ] لا يكون حقيقة في ذلك المعنى، بل في المعنى الثاني، وهو ما تواضع عليه أهل الشرع.
وأما المجاز- فهو ما أفيد به معنى مصطلحًا عليه، غير ما اصطلح عليه في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب فيه.
وقيل: إن الحقيقة هي ما أُفيد بها ما وثَعت له، والمجاز غير ما وُضع له. وهذا غير صحيح، لأنه: يقتضي أن اسم الصلاة إذا استعمل في اصطلاح أهل الشرع وأريد به الدعاء، دون الأركان المعهودة، يكون حقيقة، لأنه أُفيد به ما وضع له في الجملة، أعني بمواضعة أهل اللغة، وليس كذلك.
1 / 15
وبمقتضى أيضًا أن من أطلق اسم السماء على الأرض ودل على مراده فقد تجوز به، لأنه أُفيد به غير ما وضع له، وهذا بعيد.
وقال بعضهم: الحقيقة هي ما انتظم لفظه معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل عن موضوعه. والمجاز ما انتظم لفظه معنا، إما لزيادة أو نقصان أو نقل عن موضوعه. أما الذي لا ينتظم لفظه معناه لزيادة -[فـ] هو ما انتظمه إذا أسقطت الزيادة- مثاله قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ والكاف هنا زائدة، فإذا أسقطناها صار الكلام منتظمًا معناه. وأما الذي لا ينتظم لفظه معناه لنقصان-[فـ] هو ما انتظمه إذا زيد في الكلام ما نقص عنه- مثاله قوله تعالى: ﴿واسْأَلِ القَرْيَةَ﴾ فإذا زدنا "الأهل" في الكلام صار الكلام منتظمًا معناه. ومثال النقل- قول القائل: "رأيت الأسد" وهو يعني به الشجاع -إلا أن هذا غير صحيح، لأن لاذي لا ينتظم لفظه معناه لزيادة أو نقصان ففيه نقل أيضًا، فلا معنى لجعلهما قسمين آخرين- بيانه: إن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ظاهره يقتضي نفي مثل المثل، وذلك غير مراد، إنما المراد نفي المثل، فصار الكلام منقولًا عن معناه إلى معنى آخر. وكذلك قوله تعالى: ﴿واسْأَلِ القَرْيَةَ﴾ ظاهره يقتضي السؤال عن الحيطان
1 / 16
والجدران، وذلك غير مراد، إنما المراد هو السؤال عن الأهل، فصار الكلام منقولًا عن معناه إلى معنى آخر.
* * *
إذا عرفنا حدَّ الحقيقة والمجاز -[فـ] لا بد من بيان أقسامهما، فنقول:
الحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حقيقة لغوية، وحقيقة غرفية، وحقيقة شرعية. وكل ذلك داخل تحت الحدِّ الذي ذكرناه. لن اللفظ إذا أُفيد به معنى: إن أُفيد بمواضعة أهل اللغة سمَّيناه حقيقة لغوية، وإن أُفيد به بمواضعة أهل الشرع سمَّيناه حقيقة شرعية.
وكذلك المجاز، لأن المجاز قد يكون في اللغة، وقد يكون في العرف، وقد يكون في الشرع.
والله أعلم.
* * *
[أ- الحقيقة]
٥ - باب في: إثبات الحقائق المشتركة:
اعلم أنه يجوز أن يكون اللفظ الواحد موضوعًا للشيئين على سبيل الاشتراك، كما يجوز أن يكون موضوعًا للشيء الواحد على سبيل الانفراد- وهذا عند أكثر الناس.
وذهبت طائفة إلى منع جواز ذلك.
واستدلوا في ذلك بأن قالوا: إن الأسامي وضعت أعلامًا على المسميات وعلى المعاني ليمتاز البعض بها عن البعض، فيقع بها الإفهام. ولو كان اللفظ الواحد
1 / 17
موضوعًا للشيئين على سبيل الاشتراك لا يقع الإفهام بواحد منهما، وفيه نقض الغرض بالمواضعة.
لكنا نستدل على جواز ذلك، فنقول:
إن الإفهام على سبيل الإجمال قد يكون مقصود العقلاء، كما أن الإفهام على سبيل التفصيل مقصود العقلاء، فإن واحدًا منا قد يشاهد سوادًا فيريد أن يخبر غيره عمَّا شاهده على سبيل التفصيل، فيقول: "شاهدت سوادًا". وقد يريد أن يخبره على سبيل الإجمال فيقول: "شاهدت لونًا". ومتى جاز تعلق الغرض بكل واحد من الإهامين، جاز أن يضعوا اسمًا يطابق كل واحد من الإفهامين، ليكون كل واحد منهما وصلة إلى الغرض المطلوب منه. وفي هذا جواب عمَّا قالوه. وهذا دليل الجواز. والدليل على ثبوت ذلك -أن أهل اللغة قالوا في كتبهم: إن قولنا "شفق" من أسماء الأضداد وهو مشترك بين البياض والحمرة، وكذا اسم "القرء" من أسماء الأضداد، وهو مشترك بين الحيض والطهر- فدل [ـت] أقوالهم على ثبوت الأسماء المشتركة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن "القرء" في الأصل موضوع لفائدة مخصوصة، ثم يقع ذلك في الحيض والطهر، لوجود تلك الفائدة. فإذن الاسم من الأسماء المشتقة لا من الأسماء المشتركة- قلنا: إنما يصار إلى هذا التكلف إذا لم يجز أن يكون اللفظ الواحد موضوعًا للشيئين على سبيل الاشتراك- أما إذا جاز ذلك، ونقل عن أهل اللغة أن هذه الأسامي مشتركة، [فـ] لا يصار إلى هذا التكلف، وقد دللنا على جواز ذلك، فلا يُصار إلى ما قلتم، لأنه قول لا دليل عليه.
1 / 18
فيثبت بما ذكرنا جواز الأسماء المشتركة، وورود اللغة بها.
إلا أنه مع هذا خلاف الأصل، أعني أنه على خلاف قضية الدليل المقتضي لوضع الكلام.
وبيانه -أن الغرض من وضع الكلام والأسامي إفهام ما وضع له. هذا معلوم بالضرورة. فالاسم إذا كان مشتركًا بين شيئين: إما أن يكون موضوعًا لكل واحد منهما على التعيين والانفراد، أو يكون موضوعًا لأحدهما غير عين، أو يكون موضوعًا لأحدهما عينًا دون الآخر، أو يكون موضوعًا لهما على الجمع فكانا جميعًا مسمى واحدًا لهذا الاسم: لا وجه إلى الثاني لأنه لا قائل به، فإن أحدًا لم يقل بأن المطلقة مأمورة بالاعتداد بالحيض أو الطهر غير عين، ولأنه لو كان كذلك لكان، إذا أرايد به أحدهما عينًا، مجازًا فيه، وليس كذلك. ولا وجه إلى الثالث، لأنه لا قائل به أيضًا، ولأنه لو كان كذلك لكان يفهم عند إطلاقه أحدهما عينًا، ولما جاز استعماله في كل واحد منهما في حالين إلا بطريق المجاز، والأمر بخلافه. ولا وجه إلى الرابع، لأنه لا قائل به أيضًا: فإن أحدًا لم يقل إن المطلقة مأمورة بالاعتداد بهما على الجمع، ولأنه لو كان كذلك لكان يسبق إلى الفهم عند إطلاقه كلاهما، ولما جاز استعماله في أحدهما إلا على طريق المجاز، والأمر بخلافه. وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه موضوع لكل واحد منهما على التعيين والانفراد. فقضية الوضع أن يفيد إفهام ما وضع له، وأنه لا يفيد إفهام أحدهما إلا بقرينة، وكان مخالفًا لقضية الأصل.
٦ - باب في: إثبات الحقائق العرفية:
اعلم أن الحقيقة العرفية هي اللفظة المفيدة لمعناها، باصطلاح طارئ من أهل اللسان على ما مرَّ. وذلك نحو: اسم "الدابة"، فإنه في اللغة اسم لكل
1 / 19
ما يدبُّ على وجه الأرض، وفي العرف صار اسمًا للفرس أو الحمار. وكذلك اسم "الراوية": موضوع في اللغة للجمل، وفي العرف صار اسمًا للمَزادَة. وكذا اسم "الغائط": في اللغة موضوع للمكان المطمئن من الأرض، وفي العرف صار اسمًا للحدث المعتاد -حتى لا يفهم عند إطلاق هذه الأسامي إلا هذه المعاني.
فإن قيل: اسم "الدابة" في اللغة يفيد الفرس، لأنه اسم لكل ما يدبُّ على وجه الأرض، والفرس ممَّا يدب على وجه الأرض، فإذن لم يختلف فائدته الوضعية- قلنا: اسم "الدابة" في اللغة يفيد الفرس لاشتقاقه من الدبيب، وفي العرف يفيد الفرس لا على سبيل الاشتقاق من الدبيب، فإذن أفاد اللفظ في العرف معنى لم يكن أفاده في اللغة.
فإن قيل: أكثر ما في الباب أنهم استعملوا هذه الأسامي في هذه المعاني، ولم يجب كونها حقيقة منقولة إليها- قلنا: أمارة كون الاسم حقيقة في الشيء عرفًا أن يسبق إلى فهم السامع معنى [و] لم يسبق ذلك المغني في اللغة، وقد وجد ههنا: فاللفظ إذا صار مستعملًا في معنى بحيث يسبق إلى فهم السامع
1 / 20
المعنى الثاني دون الأول كان حقيقة فيه منقولًا إليه، وإذا كان يتردد فهم السامع بين المعنى الأول والثاني، صار اللفظ حقيقة لهما على سبيل الاشتراك.
٧ - باب في: إثبات الحقائق الشرعية:
اعلم أن الحقيقة الشرعية هي اللفظة المفيدة لمعناها بمواضعة أهل الشرع- على ما مرَّ.
وقد دخل فيه ما وُضع له الاسم ابتداء، ودخل فيه أيضًا ما نقل الاسم عن غيره إليه.
فالأول- لا خلاف فيه.
والثاني- اختلفوا في جوازه:
ذهب الأكثرون إلى جواز ذلك.
وحكى عن بعضهم منع جوازه. وقالوا: إن اللفظ متى كان حقيقة في الشيء وسُلب عن معناه وعُوِّض غيره لانقلبت الحقيقة، وقلب الحقيقة لا يجوز.
لكنا نستدل على جواز ذلك، فنقول:
إن كون الاسم اسمًا للشيء ليس بواجب، بل هو تابع للاختيار- ألا ترى أن الاسم منتف عنه قبل المواضعة، وحالة المواضعة جائز أن يسمى الشيء باسم غيره، فيسمى السواد بياضًا والبياض سوادًا. ومتى كان تابعًا للاختيار، جاز أن يختار مختار سلب الاسم عن معنى ونقله إلى معنى آخر.
وقوله: بأن هذا قلب الحقيقة- قلنا: إن عنيت به خروج الاسم عن
1 / 21
أن يكون حقيقة في الشيء بعد أن كان حقيقة فيه وصيرورته حقيقة لشيء آخر، فذلك جائز، لأنه لا مانع للاختيار على ما مرَّ. وإن عنيت به شيئًا آخر، فنحن لا نعقل ذلك الشيء.
فإن قيل: لمَّا كان الله تعالى قادرًا على وضع اسم له ابتداء، فلا معنى لنقل الاسم من غيره إليه- قلنا: الشريعة جاءت بعبادات لم تكن معهودة بين أهل اللغة، فلا بد من وضع اسم لها، ليمتاز به عن غيرها، كما يجب ذلك في ولد يُولد للإنسان وآله يتخذها بعض الصناع. ومتى لم يكن من ذلك بدٌّ، فلا يمتنع أن تتعلق المصلحة بنقل الاسم من غيرها إليها، كما لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بوضع اسم لها ابتداء، وإذا جاز ذلك جاز ورود الشر عبه- هذا دليل الجواز.
والدليل على ثبوت ذلك- أن اسم "الصلاة" في اللغة لم يكن موضوعًا لمجموع هذه الأفعال، ثم صار اسمًا له بالشرع، حتى لا يفهم عند إطلاقه سوى مجموع هذه الأفعال.
فإن قيل: ما أنكرتم أن "الصلاة" في الأصل موضوع للاتباع، ولهذا يسمون الطائر "مصليًا" لأنه يتبع السابق، فكذلك إنما سمى مجموع هذه الأفعال "صلاة" لأنها اتباع الإمام -فإذن لا تختلف فائدته الوضعية- قلنا: هذا يقتضي أن لا يسمى صلاة الإمام وصلاة المنفرد "صلاة" لأنه ليس فيها اتباع الإمام، ولكان يجب فيمن تكلم بهذه الصيغة أن يعني به الاتباع ويفهم السامع منه ذلك، ومعلوم أنه لا يخطر ببال السامع ولا ببال المتكلم عند إطلاق هذا الاسم إلا مجموع هذه الأفعال.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الصلاة في اللغة عبارة عن الدعاء- قال القائل:
1 / 22
"صَلَّى على دَنِّها وارتسمْ"، أي دعا عليه، وفي الشرع جعل علمًا على مجموع هذه الأفعال لأن فيها دعاء، فإذن لم يختلف فائدته الوضعية- قلنا: إن عنيتم بهذا الكلام أن اسم "الصلاة" واقع على مجموع هذه الأفعال، لأن فيها دعاء- فقد سلمتم ما نريده من نقل الاسم عن معنى إلى غيره، فبعد ذلك لا يضرنا أن تعللوا ذلك بما ذكرتم من العلة وهو أن فيه دعاء. وإن عنيتم به أن اسم "الصلاة" واقع على الدعاء من جملة هذه الأفعال دون مجموعها- فهذا باطل، لأن المفهوم من هذا الاسم عند الإطلاق مجموع هذه الأفعال لا البعض- ألا ترى أن قائلًا لو قال: "فلان في الصلاة" فُهم منه أنه في جزء منها، أي جزء كان، دعاء أو غ ير دعاء. ولو قال: "فلان خرج من الصلاة" يُفهم منه أنه فارق مجموع هذه الأفعال لا البعض. ولو كان الأمر كما ذكرتم، يجب أن قائلًا لو قال: "خرج نم الصلاة" يُفهم منه أنه فارق الدعاء، ولو عاد إلى الدعاء يستقيم أن يقال: "عاد إلى الصلاة" والأمر بخلافه. وكذا هذا في اسم الزكاة والحج وغيرهما- فدلَّ ذلك على ثبوت الحقائق الشرعية.
فإن قيل: نقل الاسم اللغوي عن معناه في الشرع يؤدي إلى الإغراء بالجهل والحمل على اعتقاد قبيح، وذلك لا يجوز- وبيانه: وهو أن الشرع إذا استعمل الاسم اللغوي في معنى، [فـ] لا بد أن يتعلق به حكم وتكليف، فالسامع إذا كان قد عرف كون الاسم حقيقة في شيء، يسبق إلى فهمه ذلك ويعتقد التكليف به، فإذا أراد الشرع غير ذلك [فإنه] يؤدي إلى ما ذكرنا من القبيح- قلنا: نحن، وإن جوزنا نقل الاسم في الشرع عن معناه إلى غيره،
1 / 23
فإنما تجوزه بشرط إشعار سابق أو بيان مقارن وغير ذلك، فلا يؤدي إلى ما ذكرتم من الحمل على القبيح.
والله أعلم.
[ب- المجاز]
٨ - باب في: إثبات المجاز في اللغة:
ذهب الأكثرون إلى ثبوت ذلك.
وحكى عن بعضهم منع ثبوته.
واختلافهم في ذلك إما أن يكون اختلافًا في المعنى أو في العبارة.
أما الاختلاف في المعنى- فمن وجهين:
أحدهما- أن يقولوا: إن أهل اللغة ما استعملوا هذه الأسامي فيما نقول إنه مجاز فيه، كاسم الأسد في الشجاع واسم الحمار في البليد - وهذه مكابرة لا يرتكبها أحد.
والآخر- أن يقولوا إن أهل اللغة استعملوا اسم الحمار في البليد لكنهم قالوا إن اسم الحمار كما هو موضوع للبهيمة المخصوصة، فهو موضوع للبليد. وهو أيضًا بعيد، لأنا نعلم- كما نعلم باضطرار أن أهل اللغة استعملوا اسم الحمار في البلد- نعلم باضطرار أيضًا أنهم استعملوه في البليد تبعًا وتشبيهًا له بالبهيمة،
1 / 24