الإهداء
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الإهداء
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
البدوية
البدوية
تأليف
إبراهيم رمزي
الإهداء
إلى العلامة الأمثل والأديب الأجل، زينة شباب مصر، وعمدة رجال العصر، حضرة صاحب العزة الأستاذ الدكتور عبد الحميد بدوي بك سكرتير مجلس الوزراء.
إنك لعاذري إذ أهدي إليك روايتي هذه غير مستأذن لها عليك، بيد أني تمنيت لروايتي الخلود فتوجتها باسمك الكريم؛ ليذكرها التاريخ كلما ذكر الألمعي الحكيم، ولن تأخذني بجريرتي هذي، وإن لم تكن روايتي مما يجمل أن يهدى إلى أدبك الأرفع، فإنك داع في حياتك النبيلة الحافلة بالعظائم إلى أن يكون كل ما نقتبسه عن الغرب موطنا ليستحيل وضعا من أوضاعنا القومية البحتة. وإذ كنت أستشعر هذا المبدأ العالي - على قدري - فقد عملت على تحقيقه منذ اتصلت بعالم الأدب التمثيلي، الذي لم يكن لمصري فيه قبلي نصيب، وكذلك انصرفت عن الترجمة والتعريب إلى التأليف، ووضعت للمرزح المصري - على قدري أيضا - قطعا عربية مصرية، ومصرية عصرية، ومن تلك رواية البدوية هذه التي تمت إليك باسمها، وبروح تأليفها، فقد ناديت ليلة مثلت لأول مرة في دار الأوبرا السلطانية حين تفضل الجمهور الكريم بتحية تشجيع للمؤلف: «إني أريد للتمثيل المصري استقلالا عن الغرب، برواياته وكتابه، كما يريد كل مصري منا الاستقلال التام في كل منحى من مناحي الحياة.» وهو ما تدعو إليه بلسانك، وتجد في تحقيقه بأعمالك، في نطاق أوسع وأشمل بجهد جبار لا يكلف المشقة إلا نفسه الكبيرة، وحكمة عبقري له في الغيب عين بصيرة.
من أجل هذا وذاك، لم أتردد في إهدائها إليك، وإلحاقها بساحتك، وثوقا بارتياحك إلى جهدي وإن قل؛ إذ يبشرك بمستقبل أجل، حين تتجه همتك العالية إلى التمثيل وأدبه، فتقيم ركن استقلاله فيما تقيم اليوم من صروح للوطن العزيز، والله يحفظك للمخلص.
إبراهيم رمزي
مصر الجديدة في 10 مايو سنة 1922
أشخاص الرواية
الخليفة الآمر بأحكام الله:
ملك مصر.
أبو علي:
رفيق الخليفة.
أسامة:
أبو البدوية.
حسين بن مياح:
خاطب البدوية وابن عمها.
زياد :
عبد أسامة.
أحد المعيدين:
مصري.
معيد آخر:
قاهري.
البدوية:
بنت أسامة ومخطوبة ابن عمها.
ريطة:
أم الأمير حسن بن نزار.
ناعسة:
أخت ابن مياح.
فاطمة المغنية:
مصرية من العوام.
عرب، وجند، ونساء قاهريات ومصريات، ومغنيات، وطبالة، وزمارة، ورقاقة، ونافخ في الأرغول ... وإلخ.
العهد: القرن الثاني عشر الميلادي. •••
ألفت هذه الرواية في مارس سنة 1918، ومثلتها فرقة الأستاذ رشدي في الأقاليم، ثم في القاهرة يوم عيد النيروز، وفي الأوبرا في 6 فبراير سنة 1919.
الفصل الأول
الوقت عشي قبل المغرب
يكشف الستار عن وصيد خيمة أعرابي قد فرش أمامها بساط (كليم) مقلم، جلست عليه أميمة البدوية، وأمامها نول نصبت عليه شالا وهي تطرز. والشال من الحرير الأبيض، وإذا تفحصها الناظر وجدها مشتغلة الفكر، مختلجة اللب، قوية النفس، ملئت صراحة وثباتا. أما هي فعينها براقة قوية النظرة، ذات رمش أسود طويل الشعر، يظل خدا أبيض مشربا بحمرة وردية ساحرة، إلى جانبه أنف صغير، حاد العرنين دونه، فم مثل فم الأطفال، طريء ندي صوتها في الحديث، بين النبرة لين النغمة. أما ملابسها، فغطفة زرقاء، وثوب أسود به أسماط من الفضة، وفي قدميها نعل بقبالين، يعلوهما خلخال من الفضة. وعلى الجملة، فهي فتاة لا تمتاز عن مثيلاتها إلا بفرط جمالها، وشدة سحر هذا الجمال.
البدوية (تنظر في النول وتقرأ) :
نعمة الحب يا حبيب فؤادي
متعة من نعيم جنة عدن
فاحفظ الحب بالوفاء لتحظى
بنعيم الفردوس في المنزلين
أجل، أجل، سيكون هذا الشال مذكرا لابن مياح بمن تطرزه الآن إذا أبعدته الأسفار عني، وحل عقاله عند الرقاد، لاح له البيتان فتذكر. آه! متى تنقضي أشهر الشتاء حتى أزف إليه وتسعد النفس بجواره ... لقد كان يزورني لا ينقطع عن داري حتى خطبني له أبوه، ليته لم يخطبني. وي ... كلا! كلا! إنا سنجتمع إن شاء الله ولا فراق (تسكت وتنظر في النول مدة، ثم ترفع رأسها كمن سمع صوتا وتنظر هنا وهناك)
من القادم يا ترى؟! إنهم لم يذهبوا إلى البادية إلا منذ قليل (تنادي)
زياد! (تنهض تدفع بالنول إلى جانب، وتنفض ملابسها، وتذهب صوب اليسار)
زياد ... إني سمعت وقع أقدام، أيكون أحد النور قد ألم علينا؟ (تنظر حذرة؛ فهي تمد عنقها كأنها تتسمع وبها شيء من الخوف، هنا تدخل ناعسة ابنة عم البدوية، وأخت ابن مياح، وهي فتاة عربية أكبر من البدوية سنا ... يكون دخولها من اليمين من وراء البدوية على أطراف أصابعها قصدا، فإذا التفتت البدوية ورأتها ذعرت، وأخذت تمسح صدرها بيديها، ثم وقفت يداها فوق ثدييها، وهي تتنهد).
ناعسة :
ها! ها! ها! (تجري إليها تقبلها، وتحتضنها).
البدوية :
ويحك ناعسة! لقد أفزعتني كافأك الله.
ناعسة :
لا روع عليك! لا روع عليك! كيف حالك يا ابنة عمي؟
البدوية :
بخير، وأنت؟
ناعسة :
بخير ولله الحمد، ما ظننت أنك وحيدة.
البدوية :
لقد ذهبوا إلى البادية جميعا.
ناعسة :
وأين صديقتك النورية؟
البدوية :
من؟ ريطة؟ لقد ذهبت إلى مصر منذ شهر.
ناعسة :
ما علمت ذلك.
البدوية :
كيف تعلمين عنها شيئا، وقد انقطعت عنا مدة طويلة، ليس بين مخيمنا ومخيمكم إلا مسافة ساعة، وي! ماذا جرى؟
ناعسة :
معذرة يا أميمة، إن أبي لم يعد يطيق أن يتولى له الطعام أحد سواي، وأنت تعلمين أن حكاية الطعام هذا لا تنقطع، بالله خبريني لماذا خلقنا الله نأكل ونشرب؟
البدوية :
وكيف كان يمكننا أن نعيش؟!
ناعسة :
لا أدري، لم تخبريني لماذا جاءت إليكم تلك النورية يا ترى؟
البدوية :
كيف؟! جاءت ضيفة.
ناعسة :
أجل أجل ... ولكن عهدي بالنور لا يسيرون فرادى.
البدوية :
إنهم قوم فقراء يا ناعسة، وليس من مصلحة الفقير أن يستصحب فقيرا يغالبه على ما ينال.
ناعسة :
نحن الفقراء لا هم؛ لأنهم يتسولون، ويسرقون، ويتاجرون بأثمن الأشياء عند الناس، وأرخصها عليهم.
البدوية :
وما هو هذا؟
ناعسة :
العرض.
البدوية :
وي! يتاجرون بالأعراض؟!
ناعسة :
أجل؛ يمرون بالقرى فإذا وجدوا ابنة سائمة غفل عنها أبواها، سرقوها، ثم ظلت معهم كواحدة منهم، حتى إذا كبرت عرفت أساليبهم، ولم تجد في ذلك غضاضة.
البدوية :
أستعيذ برب العالمين ... وهل تظنين أن ريطة من هؤلاء؟
ناعسة :
هذا الذي من أجله أردت أن أعرف شيئا عنها؛ لأني ما توهمت أنها منهم، إن بها شيئا من العزة وكبر النفس، وإن كنت أراها أحيانا على شيء من الجرأة.
البدوية :
ذلك لأنها كانت من جواري الخليفة المستنصر كما تقول.
ناعسة :
كانت من جواري الخليفة المستنصر؟!
البدوية :
سمعتها تقول إنها كانت في خدمة ابنه الأمير نزار، ثم هربت يوم نكب.
ناعسة :
نزار الذي حاربته قبيلتنا؟
البدوية :
هل حاربت قبيلتنا أحدا من أولاد الخليفة المستنصر؟
ناعسة :
كذلك سمعتهم يتحدثون.
البدوية :
من أجل هذا كان أبي يجادل ريطة ... وريطة تقدح عينها شررا، بل لقد قالت له يوما من الأيام إنه نصر ظالما على مظلوم، ودعت عليه بما فعل.
ناعسة :
دعت عليه؟
البدوية :
أجل، ولم تحتشم.
ناعسة :
وماذا قال أبوك؟
البدوية :
ضحك وانصرف، هل كان يستطيع أن يؤذي ضيفه؟!
ناعسة :
كلا! ومع ذلك فإن لأمثال هؤلاء الناس دلالا على الرجال؛ لأنهم لما كانوا يعيشون عيشة الدعارة لم يكن ينتظر منهم أن يتأدبوا.
البدوية :
صدقت، صدقت! بل لقد كان أبي يستطيب حديثها ويأنس بها، ولا يكاد يصبر عنها مع أنها امرأة مسنة.
ناعسة :
مسنة؟ ... إن بها أثرا من الجمال تخفيه تحت ذلك الكحل الذي تكسو به وجهها عمدا ... لقد رأيتها يوما وهي تغتسل قبل الرقاد، فرأيت وجهها أبيض كالقمر، نعم! إنها شريرة الطلعة والنظرة، ولكن الرجل ...
البدوية :
خسئت يا ناعسة! أتعنين أن أبي ...
ناعسة :
هاهاها! لا والله، ولكن ...
البدوية :
ويحك ناعسة! لم يكن أبي يأنس بها إلا لأنها كانت تعرف من أخبار الدنيا ما لا يعرفه إلا أمثالها، ولا تبالي في حديثها بشيء مما تعارف عليه الناس من الآداب، وفي هذا فرجة للقلوب أحيانا.
ناعسة :
أكنت تسمعين حديثها مع أبيك؟
البدوية :
بعض الشيء، ولكني أعرف ذلك مما كانت تحدثني به هي.
ناعسة :
كيف؟
البدوية :
كانت تحدثني، ولا تحتشم، ولا تذكر أني عذراء.
ناعسة :
كيف ذلك؟ بالله خبريني.
البدوية :
لقد كانت تذكر لي سعادة الزوجين في خلوتهما ... أف ... دعيني!
ناعسة :
ها، ها، وهل كان يسوءك هذا؟
البدوية :
كلا، ولكني كنت أخجل، وهي لا ترحمني ... تتبين ذلك مني فتضحك، وتقبلني، وتحتضنني.
ناعسة :
هاهاها! يا ليت أني ...
البدوية :
أعوذ بالله منك يا ناعسة! أتدرين ماذا قالت لي ليلة رحيلها؟
ناعسة :
ماذا؟
البدوية :
قالت إنها ذاهبة إلى مصر، وسترقص للخليفة، ثم تذكرني له، وتغريه بزواجي.
ناعسة :
فبماذا أجبتها؟
البدوية :
زجرتها ... بل لقد أهنتها؛ فقالت لي إنها تمزح معي.
ناعسة :
أما والله لئن سمع بك الخليفة لرحل إليك يا أميمة.
البدوية :
لا قدر الله ... لا قدر الله ... لم تحيريني؟ أجئت وحدك؟
ناعسة :
أجل! أم زعمت أن يجيء معي ...؟
البدوية :
دعي عنك هذا!
ناعسة :
آه منك يا أميمة ... لقد أصبحت الآن تكتمين كل شيء.
البدوية :
أنا؟! لا والله، ولكن ...
ناعسة :
لم يعد بك حاجة إلي؛ خطبك أخي وارتاح فؤادك، ولم يبق إلا ...
البدوية :
ناعسة!
ناعسة :
سأخبره أنك لم تعودي تسألين عنه، ولا تفكرين فيه.
البدوية :
ما أقساك يا ناعسة! تعالي، تعالي اجلسي (تترك لها فضلة من الكليم)
انظري ما على النول.
ناعسة :
ماذا؟
البدوية :
لقد أوشكت أن أنتهي من تطريز شال أخيك.
ناعسة :
شال أخي! ألا يزال أخي؟! لماذا لا تسمينه بغير هذا؟ أم يصعب عليك أن تقولي شال عروسي؟!
البدوية :
شال عروسي وسيدي، أيرضيك هذا؟
ناعسة :
كلا!
البدوية :
وي! لا يرضيك؟!
ناعسة :
إنه يسعدني يا أختاه؛ لم تكن لي في حياتي أمنية أرتجيها إلا أن يجمع الله بينكما، وقد أجاب سؤلي، فالحمد لله على ذلك؛ لقد ذاب أخي غراما بك ولوعة، وأنت كم مسحت لك هذي الأكف دمعة، ما أسعدني اليوم يا أختاه! (تقبلها وتقبلها البدوية.)
البدوية :
شكرا لك يا أختاه، شكرا.
ناعسة :
ماذا طرزت له؟
البدوية :
اسمه المحبوب، اقرئي!
ناعسة (تقرأ) : «حسين بن مياح» ما أسعده بك يا أميمة! وما أشد ازدهاءه بالشال فوق رأسه يوم تكونين له حقا! سيقال هذا عروس أميمة البدوية شاعرة الصعيد، وفخر بني قريظة.
البدوية :
شكرا شكرا، واقرئي هذا.
ناعسة :
ما هذا أيضا؟ بيتين من الشعر؟ لا عجب، إذا لم يكن شعرك لمن تحبين فلمن يكون؟!
البدوية :
إن الشعراء يمدحون الملوك تحببا ... ومن ملكي يا ناعسة من سلطاني؟ من خليفة أبي علي.
ناعسة :
بل من سيد أبيك لديك (تنظر في النول)؟
البدوية :
أنت وما ترين.
ناعسة :
لا أستطيع قراءتهما.
البدوية :
كيف؟ أليس الخط واضحا ... اسمعي (تقبض على النسيج، وتديره أربع مرات كلما انتهت من تلاوة شطر حولته عنها، وهنا يبدو ابن مياح، ولكنه لا يتقدم، وإنما يأخذ ينظر ويستمع، وهو يكاد يذوب اغتباطا وشوقا):
نعمة الحب يا حبيب فؤادي
متعة من نعيم جنة عدن
فاحفظ الحب بالوفاء لتحظى
بنعيم الفردوس في المنزلين
ناعسة :
أحسنت يا أميمة، أحسنت والله، أرنيها (تقدم البدوية نولها إليها)
أجل (تنظر فيه)
أعيديهما بالله عليك ... إن للشعر من فمك لحلاوة ... يخيل إلي أنك لا تنطقين بهما إلا بفؤادك. ها، حسين! (وإذا بابن مياح قد دخل عليهما، فإذا تقدم غلبه شيء من القلق والرغبة في عناق البدوية، فيتقدم منها، حتى إذا التفتت إليه مد ذراعيه، فمدت البدوية ذراعيها عفوا واحتضنته. أما الفتى فهو في العشرين من العمر أبيض اللون أصفر الشارب، قد تردى بقفطان أحمر تحزم عليه، وفوق القفطان عباءة من الحرير الأبيض، وعلى رأسه شال - كوفية - قد اعتقله بعقال).
مياح :
أجل يا أميم أجل، إن الحب من نعيم الجنة لا من الدنيا، بل إن عناق العشاق لأجمل منظرا من اتكاء الأبرار على الأرائك، وأنت يا أميمة، أنت أجمل من الحور، وأرق من ولائد النور ... أين الشراب الطهور من كؤوس تزفها عيناك (يقبلها).
ناعسة :
لا يفتك أنهم يحسبون هذه الدنيا لهم وحدهم، فهم لا يشعرون بوجود غيرهم معهم، كأنما خفقت عيونهم لا ترى إلا وجه المحبوب، ولا تسمع آذانهم إلا صوت الغرام من أعماق الفؤاد.
مياح :
معذرة يا أختاه معذرة (يمد إليها ذراعه اليسرى إذ تكون الثانية حول البدوية)،
لقد طال شوقي إلى ابنة عمي كما تعلمين فأنسانيك فرط لهفتي.
البدوية :
معذرة يا ناعسة!
ناعسة :
لماذا تعتذران؟ والله ما سر قلبي بمثل ما رأيت اليوم ... إني لموضع سرك وسرها، وربما عرفت من أمرها أكثر مما تعرف.
مياح :
أتقول حقا؟ (يخاطب البدوية).
البدوية :
لا تخفي الفتاة عن صديقة لها شيئا من أمور فؤادها.
مياح :
ولا الأخ عن أخته التي يحبها.
ناعسة (إلى البدوية) :
ولقد جئت إليك، والله عمدا؛ أردت أن أكون لكما في مثل هذه الساعة.
البدوية :
آه! ولماذا لم تخبريني بأنه قادم؟
ناعسة :
أكنت تريدين أن أخبرك بقدوم من تحبين لكي تظلي تفكرين فيه، وتشتغلين عني!
البدوية :
ها ها ها!
مياح :
ها ها ها!
البدوية :
ومن أدراك أنني اليوم وحدي؟
مياح :
ألممت عليك بالأمس خفية، ودنوت من الدار فسمعت عمي يأمر عبيده بتسريح جماله في البادية، وسمعته ينذرهم بمجيئه، فعدت وأسررت الخبر إلى ناعسة، وها هي قد تقدمتني لكي لا نفاجأ.
البدوية :
ويل للمتأمرين!
ناعسة :
لعمري لئن ظللت معها على هذا الحال ودخل عليك أهلها، ما حمدت ستري في شيء.
البدوية :
وي! (تبتعد عنه).
مياح :
آه! إن ذكرى العواذل - ذكراهم وحدها لتنفر الأليفين، وتشقي العاشقين.
ناعسة :
لا روع عليكما، هأنذا بمرقب فاطمئنا (تخرج من حيث أتت).
مياح :
أميمة!
البدوية (وقد دنا منها ابن مياح) :
لا تدن مني ... اجلس بعيد هذا النول (تذهب هي إلى مجلسها منه).
مياح (يذهب وراءها) :
لماذا؟ ماذا جرى؟
البدوية :
أنت أدرى ...
مياح :
لا أدري والله، ألا إنك تنكرت لي على حين فجأة في ساعة لم نظفر بمثلها منذ شهرين.
البدوية :
أجل ... فماذا خبأك عني طول هذه المدة؟
مياح :
آه يا أميمة! ... خبأني عنك أبوك يا ابنة عمي، كأنه أوجس أني غدا أصبحت على وشك أني أحملك إلى بيتي أغالبه على محبتك؛ فهو يغار مني ...
البدوية :
يغار منك؟!
مياح :
أجل ... ما رأيته نظر إلي منذ ذلك اليوم الهني إلا نظرة الحاسد المخجول.
البدوية :
حقا؟
مياح :
أجل، والله!
البدوية :
وهل يمنع المحب رؤية من يحب أمر كهذا؟!
مياح :
كلا ... كلا، ولكن لعمي هيبة يا أميمة ومحبة في قلبي، أردت أن أقيله تلك النظرة وأحميه ذلك الخاطر؛ فامتنعت عن غشيان دارك على مضض مني ولوعة ... ولطالما يممت هذا المخيم - كما يممت بالأمس - فألفيت عمي فيه، وعدت أدراجي والعين بالدار عالقة، أتلفت تلفت الأم خلت رضيعها حتى تعود إليه كما عدت إليك الآن يا أميم.
البدوية :
إذن فادن، ولكن إياك أن تغيب عني بعد اليوم أو تبالي بأحد.
مياح :
كلا، كلا (يدنو منها)
لن أبالي بأحد بعد اليوم ... يالله! ما أشد دلالك يا أميمة! لقد - والله - أذعرني فكيف بالهجر ... يالله! إني لا أطيق مسماه.
البدوية :
إذا أنت غبت عني بعد اليوم؛ فوالله لن أقبلك هذه القبلة في حياتي (تقبله).
مياح :
يومئذ آخذها أنا عنك يا أميمة هكذا (يقبلها).
البدوية :
لم أرد أن أبدهك بذلك ساعة جئت؛ لكي لا أحرمك لذة اللقاء، ولكني كنت واجدة عليك، ولذلك ...
مياح :
مددت ذراعيك لتضربيني، فعانقتني من حيث لا تعلمين.
البدوية :
على غير قصد مني، ولا هوى.
مياح :
إذن فعانقيني الآن بقصد، وهوى.
البدوية :
إلي، إلي (يتعانقان، وهنا تنادي ناعسة من خلف الستار).
ناعسة :
أميمة!
البدوية :
صوت ناعسة (تبتعد عنه، ويظل ابن مياح جالسا في مكانه متكئا على يده، وهو متطلع إلى البدوية، وهي واقفة).
مياح :
ما سمعت شيئا، تعالي.
ناعسة :
أميمة (على بعد كبير أيضا).
البدوية :
هذه هي تنادي، لبيك.
مياح :
لا تبالي بأحد.
البدوية :
كيف؟! انهض من مجلسك يا أخي، إن ناعسة تنذرك.
مياح :
أنا لا أبالي بأحد، كذلك أمرتني.
البدوية :
قم! لقد أقلتك أن تطيع.
مياح :
هذه المرة وحدها.
البدوية :
أجل، أجل، انهض! (ينهض ابن مياح).
ناعسة (قبل دخولها المرسح) :
أين أنت يا أختاه؟
البدوية :
لبيك، هأنذا ...
ناعسة (تدخل) :
قد رأيت أباك يعدو على بعيره الأبلق ... ماذا تفعل يا حسين؟
مياح :
لا شيء، لقد وعدت أن لا أبالي بأحد، ولا سيما بعمي، بل لقد أمرت بذلك.
ناعسة :
ويحك ... حسين ... هلم ... انصرف إذا لم تكن تريد لقاء عمك، أو فانحدر في الوادي ريثما يعود ... ثم أقدم علينا كأنك وافد.
مياح :
ولا هذا أيضا.
البدوية :
فماذا أنت فاعل؟
مياح :
سأقف بالعراء حتى يعود ... فإذا حط رجله ودخل عليك ورآك؛ فاستأذني لي عليه ودعيني أظل على ما عهد في من الإباء وحفظ حقه علي، لا أريد أن يرى أنني دخلت دار عروسي على غير علمه ورضاه.
ناعسة :
ما أعرفك بحق الأعمام!
البدوية :
هذا رأي حسن.
ناعسة :
انصرف على بركة الله!
مياح :
وداعا، لا لا! لقاء يا أميمة، لقاء (يهم بالذهاب بظهره) ...
ناعسة :
فهمنا، فهمنا، انصرف (يعود ابن مياح فيتقدم من البدوية)
ماذا؟ ...
مياح (يقرب من البدوية ويقبلها) :
لماذا أحرم نفسي قبلة الوداع (يبتعد وهو يتكلم)
إن من العشاق من يشتهي فراق المحبوب رغبة في عناقه ساعة النوى.
البدوية :
إليك ... إليك ... (يخرج ابن مياح جاريا)
لقد ضرج خدي أخوك يا ناعسة.
ناعسة :
آه! هذا افتئات على الغلام يا أختاه.
البدوية :
كيف ... ألا ترين ماذا صنع بي؟ (تقدم خدها).
ناعسة (تقبلها) :
لقد ضرجه الخالق يا أختاه ... لا تأخذي أخي بجريرة غيره.
البدوية :
ويحك ناعسة!
ناعسة :
أتريدين أن أمنعه أنا قبلة من خديك ... أأنا موكلة بخفارتهما، ومع ذلك فلن أسمح لكما بعد اليوم بشيء مما رأيت؛ فإني - ولا أكذبك - قد ملكتني اليوم غيرة (تنظر خارج المرسح)
أين عمي؟ لماذا لم يحضر؟ ها هو الآن بمنعطف الجبل يسير الهوينى، ليتني لم أذعر الفتى.
البدوية :
إذا كانت قد ملكتك غيرة مني ... فأمريه الآن أن يكون حيث هو.
ناعسة :
والله لقد غرت حقيقة.
البدوية :
ها ها ها! ها هو ذا بالعراء، اذهبي إليه، دعيه يقبلك ألف قبلة ... فوالله لا أغار.
ناعسة :
لا تغارين ... حنثت، ورب الكعبة!
البدوية :
وي! أجل والله، لقد حنثت ... شعرت إذا تمثلت قبلات أخيك بلذعة في فؤادي يا ناعسة ... يالله ما هذا؟!
ناعسة :
ها ها!
البدوية :
معذرة معذرة! لن أغار بعد اليوم، ولكن لماذا تغارين أنت يا ناعسة؟
ناعسة :
لا أدري، ولكني تمنيت من حيث لا أدري أن ...
البدوية :
أن يكون لك عروسا!
ناعسة :
أخي ... عروسا ... أجل ... كلا، وي ... لا أدري لقد اختلط لبي.
البدوية :
ها ها ها!
أسامة (من الخارج) :
أميم.
البدوية :
لبيك يا أبي (تخرج إليه).
ناعسة (لنفسها) :
قوادة، ورب الكعبة!
أسامة (يدخل، وهو رجل في الخمسين من عمره ذو لحية، وخطها الشيب، وشاربه غير طويل، وهو لابس لبسه العربي البدوي) :
سلام على ابنة أخي ناعسة ... كيف حالك يا بنية؟
ناعسة (تتقدم منه ساعة الدخول، وتقبل يديه) :
بخير يا عماه.
أسامة :
كيف حال إخوتك وأمك؟
ناعسة :
نحمد الله على العافية يا عماه.
أسامة :
كيف جئت وحدك؟
ناعسة :
جئت برفقة أخي حسين.
أسامة :
حسين، وأين هو؟ (يلتفت).
ناعسة :
إنه بالعراء يا عماه حتى يأذن له أهل الدار.
أسامة :
وي! (لنفسه)
لقد أخذ الغلام علي غضي (لناعسة)
اذهبي إليه ... علي به.
ناعسة :
سمعا يا عماه (تخرج من اليسار).
أسامة :
فارس العين والضمير حسين لحظ مني أني أستحيي أن أرى فارس أميمتي بعيني فأقالني، بارك الله ... مضى اليوم أشهر أربع لم أره فيها إلا فواقا في حظيرة أبيه، كأنما كان يتجنب لقائي، وكان لا يفارق مجلسي لحظة، ولا يميل عني هنيهة ... أحبه ورب الكعبة، ولكن، واسوأتاه ... ماذا يخجلني منه وأنا أسلمه عرض ابنتي بيدي؟! ... آه! هذا يؤلمني، لعن الله الشيطان! يلقي في روعي كأني أبيح عرضي مستبيحا ... لا ... رب آمنت بك، وبكتابك، وسنة نبيك، ولكني لا أطيق تخيل ابنتي بين ذراعي سواي ... آه! إنك اللهم تعذبني بما أخذت به حماي؛ إذ حماني رؤية أمها بعد الخطبة ... لقد آليت يومئذ لا أحرم الخاطب رؤية ابنتي، وأراني اليوم حنثت، وإن لم أمنعه. كلا، سأقلع عن هذا أو فلأزفها إليه وشيكا لأقال طول النظرة، وي! كلا ... لا أفارقها، ليعش معي ... أجل ... ليعش معي ... (يسكت ويراجع نفسه)
لا أراه بعيني ... كلا ... ليعش بعيدا عني فلن أراه، هذا عرض يباح فما يهمني أحل أم حرم! كلا، من يطيق هذا؟! (يعاود نفسه)،
وأعيش كالشجرة الملحاة! أعيش، ولا أميم. أعيش، ولا حسين (يسكت)
رب أولني منك عطفا ... أنزل على نفسي السكينة ... رب اهدني بهداك (يركع مستقبلا القبلة ويسجد)
حمدك اللهم هذي سنة خلقك يا أكرم الأكرمين (ويظل راكعا مستقبلا القبلة، ويدخل حسين تتبعه أخته ناعسة، فينتظر أن حتى يتم صلاته، فإذا سلم أسامة يسارا ورأى حسينا نهض إليه)
هلم إلى صدري يا بني ... أنت أحب الناس إلى نفسي ... لا تأخذني بما أجرمت إليك، ابق هنا، لا تبرح حتى أزف إليك أميمة.
مياح :
عماه! عماه! (يقبل يده، وعمه يقبله وناعسة تمسح دموعها، وعند ذلك تدخل أميمة).
أسامة :
تعالي يا ابنتي ... هذا بعلك ... خذيه ... لا تبارحي مجلسه، لا تفارقيه، لن يكون أبوك في هذا المنزل إلا ضيفا عليكما، وسأقضي بقية أيام حياتي أشم في أردانكما ريح شبابي الماضي، وأدعو الله لكما بالسعادة (أميمة ومياح يركعان ويقبلان يده)
انهضا انهضا، بارك الله لي فيكما، إلى الدار، علينا بالعشاء يا أميمة، عاونيها عليه يا ناعسة.
ناعسة :
حبا وكرامة (تخرج هي وأميمة من اليسار).
أسامة :
حسين!
مياح :
لبيك!
أسامة :
إني راحل إلى المغرب عما قريب.
مياح :
إلى المغرب يا عماه! ... لماذا؟
أسامة :
لقد استنفرنا مولانا أبو علي المنصور خليفتنا الآمر بأحكام الله؛ لنفقأ عين فتنة أثارها ابن عمه حسن.
مياح :
من حسن هذا يا عماه؟
أسامة :
الأمير حسن بن نزار، نزار الذي حاربناه عام مولدك يا بني حتى سقناه أسيرا إلى أخيه المستعلي بالقاهرة، ثم قضى في السجن نحبه.
مياح :
وما كان جرمه يا عماه؟
أسامة :
آه! هذا ما تغضى له عيني يا بني.
مياح :
كيف؟! أكان على الحق يا عماه؟
أسامة :
كان مظلوما يا بني ... لما مات الخليفة المستنصر ترك ولدين: نزار وأحمد، وكان نزار أكبر من أخيه بثلاثين عاما، ولكنه كان زعيم فرقة دساسة خبيثة تسمى الإسماعلية؛ نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ... كانت تكره صاحبنا الوزير الأفضل شاهنشاه، فلم يشأ الأفضل أن يبايع نزارا هذا خشية منه على البلاد، وبايع أخاه أحمد ونعته المستعلي بالله.
مياح :
هذا أبو مولانا الخليفة الآمر.
أسامة :
أجل يا بني هو ... إنه مدين لنا بما هو فيه اليوم من الملك ... لذلك فإنه يبعث إلي أنا وأبيك بهدايا كريمة كل عام ... إن قبيلتنا هي التي أخضعت نزارا هذا، وهي الآن مدعوة لقتال ولده حسن في برقة.
مياح :
ولماذا ترحل يا عماه إذا كان نزار مظلوما؟ فإن المعاونة على ولده إثم فيما أرى.
أسامة :
ما كانت الخلافة ميراثا يا بني، إنها للأصلح منا نحن المؤمنين، وأنت تعلم أنا لم نر في الفاطميين مثل أبي علي رجلا ... يا بني إنه رجل يحب الشعر، ويكرم العرب، ولا يفرط في تراث أجداده ... لم تزهر الدنيا كما أزهرت في أيام هذا الخليفة.
مياح :
ولكنه سفاك للدماء، ألم يقتل الأفضل شاهنشاه وزيره، ثم يقتل بعده المأمون البطائحي؟
أسامة :
آه يا بني! إنك لا تدري لماذا قتلهما ... قتلهما لأنهما عملا على نزع الخلافة منه؛ فالأفضل ود أن يظل وزيرا يعمل بقوة الخلافة كلها، وجعل الخليفة ألعوبة في يديه، وأما المأمون فقد استكشفنا مؤامرة دبرها كان يريد بها خلعه من الخلافة، ومبايعة محمد بن نزار الذي كان في اليمن، وقد تحقق له الأمر؛ إذ وجد الخليفة محمدا هذا قد جاء ووجد المأمون وإخوته في بيت مختفاه ...
مياح :
لقد فعل الخليفة حقا ... لا مراء في ذلك، ولكني سمعت يا عماه أنه فاسق ... لا يني عن العبث بالأعراض غير خجل ولا وجل.
أسامة :
آه! هذا ما يحزنني يا بني، لعن الله الشيطان، هكذا الملوك يا بني إلا من عصم ربك! (يسكت)
لعلي ذاهب بعد الحصاد يا بني.
مياح :
في حفظ الله يا عمي.
أسامة :
أجل. سأرحل مطمئنا ... اسمع يا حسين، إني أترك هذا البيت وابنتي ومالي وعبيدي لتقوم عليهم، فإن أسعدني الله بالشهادة فهي لك، فاعمل بما أمر النبي - عليه السلام - إذ قال: «اتقوا الله في الضعيفين: المرأة، والرقيق.» إن الرق مفسدة والحرية مكرمة، فلا تأخذ عبدا بما جنح وإلا كنت دونه خلقا، ولكن إياك والتفريط في الكرامة ... إياك والرضاء بالضيم، وإذا استنفرت من بعدي لقتال فلا تحجم، دع ابنتي في بيتها حتى تعود إليها أو تعود في ذمة الله. هذي وصيتي إليك، وأنت عند ظني بك إن شاء الله.
مياح :
سمعت، ووعيت، وأطعت، والله خير الشاهدين:
نحن يا عم معشر إن دعينا
لقتال العدا نفرنا سراعا
دأبنا الجود فالنفوس عطاء
خالص بيد أنها لن تباعا
أسامة :
أحسنت يا بني أحسنت، من أجل ذلك ارتضيتك فارسا لها (هنا يدخل عبد أسود)
ما وراءك يا زياد؟
زياد :
إن بالوادي قوما وفدوا من عند مولانا الخليفة.
أسامة :
من عند الخليفة! أخبروك بهذا؟
زياد :
أجل يا مولاي ... قابلوني أنا وسعيد وسائر العبيد عند منعطف الوادي، وحادثني بذلك فارس منهم يلتمع النبل في عينيه.
أسامة :
مرحبا بالأضياف مرحبا، اخرج إلى العبيد فاجمعهم، وحيوا الأضياف في اللقاء.
زياد :
سمعا يا مولاي (يخرج من حيث أتى).
أسامة (لنفسه) :
لقد استبطأوني لعن الله الشيطان ... حسين!
مياح :
لبيك.
أسامة :
اذهب يا بني، وانظر في العشاء ... اعقر لهم بعيري الأبلق، وألقه إلى العبيد ليعدوا لنا طعاما؛ إنا لم نعد شيئا قيما.
مياح :
كيف أعقر بعيرك الأبلق يا عماه وقد دفعت فيه مائة جمل لطي؟! إنهم لا يأكلون دما بل لحما، والجمال في هذا سواء.
أسامة :
أجل يا بني، ولكن وفد الخليفة لا بد أن ينحر له خير النعم.
مياح :
ومن أين لهم بمعرفة ذلك يا عماه؟
أسامة :
ما بك يا غلام؟! ألست من أبيك؟! إن العربي لا يكتفي من الكرم بظاهره، وما كريم من يموه على الناس كرمه.
مياح :
ولكن الأبلق هذا ...
أسامة :
ويك! قل لي يا ابن مياح متى
عزت الدنيا علينا في الكرم
هانت النفس علينا، عجبا
نبذل النفس، ونستبقي النعم!
مياح :
صدقت يا عماه صدقت ... ولكن ...
أسامة :
إذن فلأنحره بيدي، هلم (يخرجان من اليمين، ويدخل رجلان قد ترديا رداء أهل البادية إلا أنه على غاية ما يكون من الحسن، أما هذا اللباس فيستر من تحته ملابس الإمارة، فالأول وهو الخليفة الآمر بأحكام الله ظاهر الجلال، والثاني إذ هو الأمير أبو علي بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش جليل، إلا أنه أقل مظهرا، والرجلان متنكران).
الخليفة :
هذا هو المكان الذي وصفته ريطة يا أبا علي.
أبو علي :
إن ريطة دقيقة الوصف يا مولاي، لا يفوتها صغير ولا كبير، كيف؟! تلك كانت مهمتها في الحياة، ومن أجل هذا ارتضيتها أمينة سرك.
الخليفة :
لقد - والله - أنصفت يا أبا علي ... إن القوم في القاهرة قد عرفوا كل نساء سري، وعيوني على ملاحهم، فوجب علي أن أتخذ غيرهن لذلك، ولا أكذبك أني سئمت وصال التركيات والصقلبيات؛ إن بهن لكنة لا تسر العربي، وأراني ظفرت في ريطة بمفتاح خزائن الأعرابيات.
أبو علي :
عسى أن تكون صادقة فيما خبرت يا مولاي.
الخليفة :
أما وربي لئن تبين لي أنها أرسلتني إلى الصعيد عبثا لأستلن لسانها من قفاها، ولأفقأن عينها التي كذبتها فكذبتني.
أبو علي :
ما أظنها تخطئ الوصف يا مولاي.
الخليفة :
لقد أبصرت بفتاة كاللؤلؤة على المخمل الأسود تدخل خيمة بجوار هذي، وهي كما وصفت لي ريطة ... لولا أنني لم أملأ كل عيني منها.
أبو علي :
تعني تلك الفتاة البيضاء ذات الخلخال الأبيض، والخمار الأزرق، والثوب الأسود.
الخليفة :
أجل هي يا أبا علي ... لعمري لئن كانت هي البدوية التي ذكرتها ريطة لأغدقن عليها نعمتي، ولأجعلنها قهرمانة قصري ما حييت ... هذي الفتاة ساحرة يا أبا علي، والله لئن كانت هي البدوية لاستوجبت أن أهبها كل ملكي.
أبو علي (يضحك) :
ها ها ها! هب أنها فتاة أخرى يا مولاي، ألا تهبها ملكك سواء بسواء؟!
الخليفة :
لا أدري.
أبو علي :
لا تدري ... كيف؟ إنك لا تطلب من البدوية إلا جمالها الفتان الذي روت عنه ريطة، وقد فتنك جمال من رأيت الآن قدر ما فتنك وصف الأولى، فماذا يفضل هذي عن تلك؟
الخليفة :
إن للبدوية هوى قديما في نفسي يا أبا علي، والأذن تعشق قبل العين أحيانا ... لقد ذكرت لي ريطة ما ذكرت عن جمالها فصورته لنفسي، وعشقته، وهمت به في الفلوات والبوادي كما تراني الآن. أليس مجيئي من مصر مقر ملكي إلى سيوط هذي غراما وهياما؟
أبو علي :
وفوق الهيام يا مولاي.
الخليفة :
ليس فوق الهيام إلا الجنون (يضحك)
أتعني ذلك؟ أجل إنه جنون، ولكن لذة العيش في الجنون ... فأنا إذا آثرتها على غيرها فذلك ائتمارا بأمر الهوى، ولا مرد لما قضى.
أبو علي :
صدقت يا مولاي ... ما عجبت لشيء في الحياة عجبي للإنسان.
الخليفة :
كيف ذلك ؟
أبو علي :
أنت أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، تخفق راية عزك برا وبحرا، ويزأر أسد مجدك شرقا وغربا،
1
ومع ذلك تصبو إلى جمال فتاة عربية شريدة في الفيافي، ولا تجد غضاضة عليك أن تهبها كل جاهك وعزك كما تقول، فما هذا يا مولاي؟
الخليفة :
أصغ يا أبا علي، هاك الجواب: لقد شبعت نفسي من كل شيء؛ نلت كل ما تشتهي النفوس، وبلغت أقصى المقاصد، وهدأت ثائرة النفس مني، فأنا أستطيع اليوم أن أعرف السر ... أتدري ما هذه الدنيا التي نعيش فيها؟ وما دنيا من سبقونا في الجاهلية، وما بعدها ... في الشرق والغرب على اختلاف العادات، والمشارب؟!
أبو علي :
هات لنرى!
الخليفة :
الدنيا هذه ... أي طريقة معاش الناس، أمر افتعلوه؛ خلقوه لأنفسهم، ونشأوه لأنفسهم كما تنشئ لنفسك دارا تحشوها أثاثا، وتهيئها كما تشتهي، وقد تتقوض، وتبنى على نظام آخر يختلف عن الأول في كل شيء؛ تتغير أو تفنى، ولكن الأرض التي تقيم دارك عليها باقية لا تتغير ولا تفنى.
أبو علي :
هذا صحيح، كل ما خلقه الله يبقى ولا يتغير، وكل ما خلقه الإنسان يتغير ويفنى. هذا شيء صريح؛ فما المراد؟
الخليفة :
الإنسان على الفطرة. لا يستطيع التخلي عنها مهما حاول، ومهما قيد نفسه أو قيد غيره بشرائع، وأديان، وآداب، وواجبات ... وأول شيء ركب فيها حب البقاء على أحسن حال، وآخر مجهود الإنسان الحصول على المرأة ليبقي منها في ولده من حيث لا يدري، والأمم كالأفراد يتزاحمون ويتشاحنون ويتضاربون ويتقاتلون؛ لتحصيل ذلك على أحسن حال، وكل ذلك تحقيقا لفكرة البقاء التي ركبت عليها أنفسهم من حيث لا يعلمون إلا بإعمال الفكر.
أبو علي (بعد التفات وإصغاء بتلطف) :
لو نهض أفلاطون اليوم من قبره ما كان عجبه لهذه الحكم دون عجبي ودهشتي.
الخليفة :
ليست هذه فلسفة يا أبا علي، هذا ما رأيته كما قلت لك بالاختبار والنظر، دخلت بيت الحياة ... الدار التي وصفتها لك ... أو الواحة التي أخصبها الإنسان بيده، وهيأها كما اشتهى، وسط الصحراء القديمة الخالدة التي لا تفنى، وسرت في الواحة من أدناها إلى أقصاها، وأمعنت في طلب آخرها؛ فرأيتني خرجت إلى الصحراء مرة ثانية.
أبو علي :
فماذا شعرت يومئذ؟
الخليفة :
شعرت - بل تبينت - أن المرأة سيدة العالم، وأن الرجل خادمها، ولكن ضعف جسمانها وقلة حيلتها اليدوية توهمانه أنه السيد وأنها المسود ... وقد جمد الرجل على هذا الوهم وظل مغتبطا به فزادت سيادة المرأة عليه؛ لأنه لما لم يعرف ذلك لم ينازعها سلطتها الحقيقية، وقد زادته الأديان والشرائع ثباتا على هذا الظن؛ ولذا فهو الآن لا يعمل إلا لها ولا يقاتل إلا لحمايتها ولا يعنى إلا بلذتها، فإذا قصر في ذلك تكدر وغضب، لا لأنه لم يحصل غرضه بل لأنه جدير يومئذ أن تزور عنه المرأة وتغضب عليه؛ فكان مصابه عظيما. أما إذا هي عزته أو هونت عليه الأمر اطمأن وأفرخ، كأنه يشعر من أعماق نفسه أنه لا يعمل إلا لها، وإن كان هناك بون شاسع وفرق عظيم بينه وبينها حسبا ونسبا. إن الفطرة لا تعرف المراتب ولا تقر المناصب ... حسب المرأة أن تكون جميلة لتكون سلطانة، تأمر وتنهى، وتحل وتبرم بلسان الرجل ويده. يتوهم الرجل إذ ذاك أنه يفعل ذلك بملكه، والحقيقة أنه مسوق بيد خفية هي يد المرأة التي تلبسها يد الفطرة كالقفاز.
أبو علي :
صدقت ... صدقت يا مولاي ... مرحى لك مرحى.
الخليفة :
ولذلك فإني لا أراني أتردد في أن آخذ من كانت فتانة الحسن، لا لأهبها ملكي تكرما بل لأعطيها ما أمرتني الفطرة أن أعده لسيدة آمرة مطاعة، وأنا أتظاهر من حيث لا أرى بأنني أنا الآمر بأحكام الله، لا المأمور بأحكام النساء.
أبو علي :
ها ها ها، إذا كنت اليوم على وشك أن تهب ملكا وتمنح تاجا؛ فإني سائلك بالله أن لا تنساني، أعطني الوزارة التي كانت لأبي، يغفر الله لك.
الخليفة :
ها ها ها! إذا شاءت البدوية أن تنالها يا أبا علي فهي لك بإذن الله ... ألم تع ما كنت أقول؟!
أبو علي :
معذرة يا مولاي ... ما أنا إلا رجل واهم مثلك.
الخليفة :
ها ها! هلم بنا نرجع، أنا في انتظار رسول أسامة، وأرانا غبنا عن العسكر طويلا ... سنظل متنكرين في هذه الثياب حتى نرى الفتاة، ونستطلع رأي أبيها.
أبو علي :
هو كذلك يا مولاي، هلم بنا، عوضني الله خيرا.
الخليفة :
ها ها ها! هلم بنا (يخرجان من اليسار، وتدخل البدوية عجلة تتبعها ناعسة ومعها وسائد).
البدوية :
هلمي يا ناعسة، هلمي! أعدي الوسائد؛ إني رأيت الجمع يدنون من مخيمنا، أسرعي (تلقي لها الوسائد فتأخذها ناعسة، وتهيئها إلى اليسار).
ناعسة :
وفد الخليفة يجلس على هذه الأرض، يا للعجب!
أسامة (يدخل، وهو يرخي كمه كأنه كان مشتغلا بشيء يخشى أن تتسخ منه أطراف الكم) :
إن هذه الأرض أرفع منزلا من عرش الخليفة نفسه، هذي أرض لم يدنسها دنس، ولم يقترف عليها محرم، هذه الأرض أخرجت للناس عمك وأباك، وأهلك الذين أجلسوا ابن فاطمة على عرش الخلافة، هلم أسرعي، أعدي العشاء.
ناعسة :
حبا وكرامة (تخرج أثناء حديث أسامة، لا ينقطع الطبل، وعليه فإذا خرجت ناعسة يقدم الموكب يتقدمه بعض الجند والخليفة وأبو علي في وسطه، ويحيط بهم جملة عبيد وبعض رجال ونساء جاؤوا على الصوت، وهم ينشدون):
يا مرحبا بالوافدين
يا مرحبا بالأكرمين
قد زارنا كل منى
وجاءنا الخير المبين
أسامة وعبيدة :
أهلا بوفد الآمر
مولى موالي المسلمين
خليفة الله على
كل البرايا المؤمنين
الخليفة وأبو علي ورجاله :
شكرا لمن أنتم له
خير الموالي الصالحين
ما كان عبدا من يكون
كمثلكم في العالمين
أسامة :
مرحبا بكم يا سادة، مرحبا برسل أمير المؤمنين، نزلتم أرضا سهلا ومكانا رحبا، تفضلوا بالجلوس على بركة الله.
الخليفة :
سلام على أسامة شيخ أعراب الصعيد ونصير مولانا الخليفة، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ...
أسامة :
وعلى أمير المؤمنين وعليكم السلام.
الخليفة :
إنا وفدنا على ديارك قاصدين، لقد طالما ود أمير المؤمنين أن تكون معه في القصرين جليسا يأنس بك ويستعز، وتكون له نعم النصيح الأمين، وقد بلغه أنه لا يقعدك عن الرحيل إليه إلا فتاة حسناء تؤثر البادية على الحاضرة، ولبس العباءة على الشف ، فجئنا إليك بأمر مولانا نستدعيك إليه أنت وابنتك لتنزل بها في منظرة اللؤلؤة ...
أسامة :
شكرا لأمير المؤمنين وحمدا، لا مرد لحكمه ولا تعقيب لكلماته ... ولكني استنفرت لقتال أعدائه في المغرب وسأرحل في سبيل الله وشيكا، إن أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - كثير الوزراء والنصحاء، بيد أن له من حكومته وصواب رأيه عصمة من الزلل، وحمى من الخطل، وما أنا إلا أعرابي لا أعرف إلا الله والسيف، فأما السياسة ومناهجها والممالك ونظامها، فما لي فيها حيلة ولا اقتدار، وما خسر امرؤ عرف قدر نفسه ...
الخليفة :
إن الخليفة قد أقالك الرحيل إلى المغرب؛ لأنه يريدك لأمر أهم لديه وأعظم ...
أسامة :
إن كان الخليفة قد أقالني فما أقالني ربي، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هذا يوم أيها الفرسان يغتبط به المسلم، فإما نال الشهادة فزف إلى جنة عدن، وإما استبقي حتى يتم حق الله عليه في قومه ودينه، أفتعرض لي الجنة ثم آباها، أوثر عليها مجلسا في منظرة على الخليج من القاهرة؟! كلا، كلا ...
الخليفة :
لك ما ترى يا أسامة، ولكنا أتينا إليك بأمر مولانا نلقي إليك جملته، فإن يكن لك على حكاية بره بك اعتراض فليس من الجود أن تحملنا إياه، تعال معنا أنت وابنتك شاكرا ثم اعتذر؛ فإنه لا يأبى عليك السؤل متى استبان له العذر ...
أسامة :
سأذهب معكم أيها الوفد الكريم وحدي، أما ابنتي فلم تعد تقعدني حمايتها عن الرحيل ...
الخليفة :
كيف؟
أسامة :
لقد عزمت أن أزفها إلى ابن عمها فهو اليوم يحميها، بل لقد نزلت لهما عن ضيعتي ومالي ورجالي، وأصبحت اليوم ضيفا عليهما، فإذا قضى مولاي أن أجيء إليه فإني أملك ذلك، أما ابنتي فلم أعد أملك رحيلها أو بقاءها لنرحل معا حتى ألاقيه، ثم لأرحل بعد ذلك في سبيل الله (يرى ابن مياح داخلا)
هذا بعلها ابن أخي حسين بن مياح ...
الخليفة (يؤخذ) :
بعلها! هذا؟! ... سلام يا ابن مياح.
مياح :
وعليك السلام أيها الفارس، مرحبا بك وبصحبك في ديارنا.
الخليفة :
شكرا لك يا ابن مياح. (عند ذلك تدخل أميمة وناعسة، فإذا رآها الخليفة امتلكته دهشة لروعتها، أثناء التفات الخليفة يلتفت الجمع وأسامة أيضا إلى القادمتين.)
أسامة :
وهذه ابنتي أميمة، وبنت أخي ناعسة. (أثناء نطق أسامة بالجملة ينطق الخليفة بجملته الآتية دون أن ينتظر أسامة.)
الخليفة :
هذه! هذه! ما أبهى هذا الجمال! لقد صدقت ريطة.
البدوية (عند انتهاء أبيها والخليفة من جملتهما) :
مرحبا بالفوارس أنصار مولانا أمير المؤمنين.
الخليفة :
مرحبا بك يا زهرة العرب، إن أمير المؤمنين يهدي إليك هذا العقد تذكارا لشكره القديم الباقي.
أسامة :
شكرا لأمير المؤمنين؛ إنه يطوقنا منة كبرى، تقدمي يا أميمة فتقبليه. (تتقدم أميمة إلى الخليفة فيقلدها العقد وهو مأخوذ.)
الخليفة :
سبحان الخلاق العظيم!
البدوية (وقد ابتعدت وتعرضت المرسح في عودتها إلى الجمع) :
لتلك والله مكرمة تملأ بيت آبائي عزا وفخرا، ما لنا بشكر أمير المؤمنين يدان.
الخليفة :
يا أميمة، لقد كلفني مولاي أمير المؤمنين أن أستأذنك أنت وأبوك الكريم في الرحيل إليه لتكونا في جواره بقصر اللؤلؤة؛ اعترافا بفضل أبيك على آل بيته، وأملا في الائتناس به وبرأيه.
البدوية :
إن أمير المؤمنين يستكثر قليلنا ويستكبر صغيرنا، فاحمل إليه سلامنا وشكرنا ثم ابذل له عذرنا، إنا قوم لا نطيق سكنى الحضر ولا نستلذه، فما ظنه أمير المؤمنين برا بنا ليس إلا شقوة لنا، له منها ثواب حسن نيته ولنا فيها عذاب إيثاره.
الخليفة :
ولكن قصر اللؤلؤة يا أميمة مغنى ليس له في القصور مثيل.
البدوية :
من ذا يترك هذه البادية الواسعة الأرجاء، يؤثر عليها غرفا ضيقة الصدر مقيدة الهواء؟ من ذا يترك سماء الله انتثرت فيها نجوم اللؤلؤ والجمان، إلى قبة دانية افتعلتها يد الإنسان؟ إن العربي أيها الفارس لا يعتاض عن خيمته إيوان كسرى، ولا حاضر نعمته نعمة أخرى، يذود عن المدينة ليبقي على نفسه سيفه وخلقه ودينه، يرى أهل الحضر فيشفق عليهم، ويستنظر الله إليهم؛ خلق غير وثيق، وتنكر للصديق عند الضيق، سعاية يوم الامتحان، ووشاية يوم الكتمان، وما نرضى لأنفسنا أيها الفارس، ولا لأعقابنا حالا كهذا:
نحن قوم نرى الحياة اعتزازا
بنفوس أبية وصوارم
قد خلقنا لا نعرف المين في الحق
ق ولا نرتضي بصغرى المظالم
ديننا دين عزة وإباء
ومضاء ونجدة ومكارم
والبوادي كفيلة ببقاها
وسواها كفيلة بالمحارم (تنسحب إلى الوراء هي وابن مياح، وتدخل وسط جماعتها.)
أسامة :
أحسنت يا بنية!
مياح :
أحسنت يا أميمة!
الجميع :
مرحى! مرحى! (تظل البدوية وابن مياح مشتغلين عن حديث الخليفة وأسامة بما يجري بينهما من الكلام الذي لا يسمع.)
الخليفة :
لقد استلبت هذه الفتاة لبي، وأفحمتني فما تنفع حيلتي، دبرني يا أبا علي.
أبو علي :
لقد - والله - أرتج علي، فلا أدري بماذا أشير، ولكن لماذا لا تخطبها إلى أبيها؟
الخليفة :
أما سمعت أنها مخطوبة لابن عمها هذا؟
أبو علي :
قد ينزل عنها إيثارا لأمير المؤمنين.
الخليفة :
لا أرى ذلك؛ إن هؤلاء الأعراب لا يروننا مثلهم بما خالط دماءنا من دماء الأعاجم، ومع ذلك (يلتفت إلى أسامة)
يا شيخ العرب، لم أشأ أن أبدهك بما يريد أمير المؤمنين، إن أمير المؤمنين ليعرف صدق مقال ابنتك ويقره، بل لقد كان منذ أيام في قاعة الذهب يثني على الأعراب، ويذم عشرة الأخلاط، ولقد ود أن يحيي في نفسه سنة آبائه الأولين ويحفظ نسب الفاطميين باتصاله ببيت كريم؛ فنظر وتدبر فإذا أنت قطرة العطر المشتارة من أزهار العرب؛ فأوفدني إليك خاطبا، ولكني لم أشأ أن أنفض إليك الخبر إذا استطاع أن يكون هو أول النافضين، كذلك أمرني وكذلك فعلت، فلما لم تجبه إلى طلبته في القدوم عليه، لم أر بدا من أن أنفض إليك عبارته، وأنت ترى أن مصاهرة أمير المؤمنين ...
أسامة :
آه! ويح نفسي من لكنة تصيبني وعي يتولاني (للخليفة)
لقد كان فيما فات بلاغ أيها الفارس (يلتفت عنه، ثم يعود إليه ويتكلم)
إن أمير المؤمنين سيد البلاد له الأمر وعلي الطاعة، ولكن ابنتي - كما خبرتك - قد خرجت من يدي، عزمت أن أزفها إلى ابن عمها.
أبو علي :
ليس العزم نفاذا يا أسامة.
أسامه :
كيف؟! إني ما عزمت على شيء ترددت فيه؛
فإذا عزمت فتوكل على الله ، بيد أني وهبتها لابن عمها، ولن يحل الله أن أهب ما ليس ملك يميني ... فإذا عدت إلى مولاي أمير المؤمنين فانشر له بلاغي وما قد رأيت.
الخليفة :
ولكن الهبة لم تتم يا أسامة ... إنك لم تعقد له عليها.
أسامة :
ما حتم الله علينا أن يكون العقد كتابة، لقد رضيت بزواج الفتى من ابنتي وأنا وليها، فتم العقد والحمد لله.
الخليفة :
ولكن شرعة الناس في مصر أن يكتبوا بذلك؛ حفظا للأنساب وقطعا للارتياب.
أسامة :
إنهم هناك في حاجة إلى ذلك؛ لأنهم يخشون تعنت الأزواج ونحن لا نخشى عنتا، وقد زوجت ابنتي بملكي لكفؤ لها ولن يغلبه أحد عليها، بل لعمري لئن لم أفعل ذلك وكانت ابنتي في يدي، لأبيتها إلا على طاهر الخؤولة والأعمام.
الخليفة :
وي ... أفأنت لا ترى خؤولة أمير المؤمنين؟! ...
أسامة :
أنا وما أرى أيها الفارس ... أقلني الحديث في هذا الشأن.
الخليفة :
إنك لجريء المقالة يا أسامة!
أسامة :
ما عهدتني أخشى في الحق لومة لائم ... إن هؤلاء الفاطميين قد استباحوا الخلافة لأنفسهم بما لهم من صلة بفاطمة الزهراء لا بزوجها علي عليه السلام، وإلا لتساووا هم وبنو العباس في حق الخلافة ... فإذا كانت المرأة قد ميزتهم؛ إذ كان دم محمد في ابنته كل شرفهم، فلماذا نراهم لا يستولدون إلا الروميات، والصقلبيات، والتركيات؟! أف لهم كيف يكذبون؟!
الخليفة :
ويحك يا أسامة! إن لأمير المؤمنين حرمة ...
أسامة :
ما دام على الحق، ولا أراه في هذا على شيء من الحق.
الخليفة (لنفسه) :
إذن فلا سبيل ...
أبو علي :
إلا بالاقتسار.
الخليفة :
هذه جرأة لا تحمد يا أسامة.
أسامة :
لا أجرؤ إلا على الظلم أيها الفارس ... أما سمعت مقال ابنتي؟! ... أين الفتاة؟
ناعسة (تنادي) :
أميمة.
أسامة :
أميمة.
البدوية (تأتي من بين الصفوف) :
لبيك يا أبي.
أسامة :
تعالي واسمعي ... إن أمير المؤمنين يخطبك لنفسه.
البدوية :
يخطبني! فضل من أمير المؤمنين، ولكني لا أبيع ابن عمي هذا بتاج بني فاطمة الأكرمين.
مياح :
ولا أنا إياك بحور الجنة أجمعين.
البدوية :
إن كان العقد سبيل الخطبة ؛ فهذا عقده أرده إليه مع الشكر العظيم (تنزعه، وتقدمه للخلفية وهو مضطرب).
الجميع :
مرحى! مرحى! (تظل أميمة ممسكة بالعقد تقدمه إلى الخليفة، وهو ملتفت عنها).
الخليفة :
لقد أشعلت الفتاة نار غرامي، وزادني الرفض هياما. (عند ذلك تعلق البدوية العقد على يد الخليفة وهي ممدودة، ثم تنسحب وهو في غفوته الأولى، وتبقى يده ممدودة، والعقد مدلى منها وهو لا يشعر.)
أبو علي :
اقتسر، إنما العاجز من لا يستبد، دع لي الكلام (إلى أسامة)
لقد بقي لنا يا أسامة أن نبلغك وعيد الخليفة ... إذا أنت لم تجبه إلى طلبته فقد أهدر دمك.
أسامة :
أهدر دمي! اخسأ أنت ومن عنه تتوعد، تنذرني بوعيد الخليفة المأفون؟! وي! لعمري لئن بغى علي لتموجن البوادي بكل عربي في صدره نفس يتردد، وليسيلن الوادي قبائل إلى القصرين فهدوهما هدا، وثلوا عرشه ثلا.
مياح :
أراكم يا قوم شر الرسل! متى كان أمير المؤمنين يهم بمنكر كهذا، وبخرق كالذي عنه تنذرون؟! إن ابنة عمي هذه زوجتي بسنة الله ورسوله؛ فهل قام أمير المؤمنين لينقض سنة الله ورسوله؟! لعمري لئن كان كذلك لأهدرت أنا دمه.
أبو علي :
ويحك! يا زعنفة العرب.
أسامة :
خسئت من أحمق ثرثار، أيقال هذا لهذا الفتى؟! لعمري لنقطة دم من دمه لأشرف من دمائكم أجمعين، انصرفوا خبروا خليفتكم بما سمعتم، وافتقدوا زادكم على الأبواب، لقد نحرت لكم أكرم نعمي - حسن ظن بكم وإجلالا لمن أرسلكم - ولكني، وإن غضبت، لا يصرف الغضب نفسي عن الجود، اذهبوا على بركة الله، ولا تحملونا على أذاكم بما تهترون.
أبو علي :
ويحك! أتقول هذا؟! يا رجال (يدخل عدة رجال مسلحين).
البدوية :
ويلاه!
أبو علي :
اعتقلوا هذا الشيخ، واذهبوا بالفتاة إلى العشاريات.
أسامة (وقد دنا منه بعضهم شاهرين السيوف) :
إليكم يا أعوان الشيطان (يجرد سيفه ويضاربهم، ولكنهم في النهاية يضربونه فيقع، ويكون الجماعة الذين ذهبوا ليأخذوا البدوية قد ضاربوا ابن مياح، وهو متعلق بأهدابها حتى جرح فسقط، وخرج الناس حاملين البدوية على أيديهم).
البدوية (أثناء خروجها) :
حسين، حسين!
مياح (وهو ملقى على الأرض) :
لبيك، لبيك!
ناعسة (تعود بعد فرارها فترى أخاها) :
أخي، أخي، ويلاه جرحت؟
البدوية (من الخارج) :
حسين، حسين!
مياح :
لبيك هأنذا (يحاول النهوض فيسقط)،
ويلاه! خارت قواي.
ناعسة :
ويلي! ويلي (تضمد جرحه بالشال تنزعه عن المنسج).
البدوية (على بعد) :
حسين، حسين!
ناعسة (تسمع تأوه عمها فتلتفت) :
من هذا؟! عمي يحتضر، ياويلتاه! (تذهب إليه.)
أسامة :
عاطني سيفي، عاطني سيفي.
ناعسة (تبحث عن السيف، ثم تقدمه له) :
ها هو ذا، رباه!
مياح :
أميمة! أميمة!
أسامة (يحاول أن ينهض، ولكنه لا يستطيع، فيمد يده ليقبض على السيف فيتناوله، ثم لا يلبث أن يسقط من يده) :
سيفي، سيفي ... آه، آه، آه. (يظل على الأرض يتأوه ويسدل الستار.)
الفصل الثاني
يكشف الستار عن قطعة أرض من بستان الروضة، فيه إلى اليمين مقعد من الخشب جميل الصنع عليه متكآت من الريش، وهذا البستان على نهر النيل، وطريق الجيزة ظاهر من وراء الماء، وإلى يسار المرسح بالنسبة للمتفرج قصر عربي جميل البناء، هو قصر الهودج الذي بناه الخليفة الآمر للبدوية. أما هذا القصر فيقع عند الممثلين في منتصف الجدار الأيسر للمرسح، بحيث تبقى مسافة بينه وبين النيل، ومثلها بينه وبين المتفرجين، وللقصر باب صغير إلى جانبه نافذة صغيرة ذات شباك مربع من النحاس، إذا ارتفع الستار وجدت البدوية جالسة على المقعد في ملابس جميلة، والمرأة ريطة - بفتح الراء، وتسكين الياء، وفتح الطاء، التي ورد ذكرها في الفصل الأول - واقفة إلى يمينها، فهي متجهة إلى الجمهور، وهي لابسة ملبس الوصيفات، ووجهها قد شوه بشيء من الكحل مدلى فوق خدها يستر حقيقة خلقتها الجميلة، والمرأة عصبية المزاج شديدة النشاط، أما البدوية فظاهرة الكآبة في جلستها، ويراها الرائي قد اتكأت بمرفقها إلى جانب المقعد وأسندت رأسها براحتها؛ ولذا فهي مائلة في الرقدة ...
البدوية :
تشفقين علي، وأنت التي أغريت الخليفة بي؟
ريطة :
إذا ساءك ما فعلت فحسن ظني شافع، لقد زعمت أنك تعرفين أن الدنيا أربعة أمور: مأكل، ومشرب، وملبس، ومنامة. وإن الذي ينالها على أحسن حال هو السعيد، وإنك تعلمين أن هناك شيئا خامسا لا أستطيع ذكره في حضرتك، فإذا أنا مكنتك من كل ذلك في قصر الخليفة، وكان الخليفة لك زوجا، كنت ...
البدوية :
والقلب يا ريطة؟ ونعمة الحب؟ إني أحب ابن عمي، ولا أشتهي من الدنيا شيئا سواه، هو دنياي وجنتي، وما هذا القصر بأحب إلي من خيمة أبي، ولا هؤلاء الأجناد بأعظم من عبيده، وما جلستي بجوار هذا الخليفة بأعز علي من رؤية ابن مياح يحادثني وأحادثه كالحمامتين استقلا عن الدنيا في مهب الرياح، آه يا ريطة لعمري!
للبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
وآكل كسيرة في كسر بيتي
أحب إلي من أكل الرغيف
وبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إلي من قصر منيف
ما نعيم الحياة يا ريطة إلا راحة القلب، وأين مني راحة القلب وحبيب القلب مفقود؟! واحسرتاه عليك يا حسين!
ريطة :
ولكن ماذا ينفع هذا النحيب يا مولاتي؟ لقد قضى ابن عمك في ذمة الله كما بلغت، فهل ينفعك اليوم وجدك عليه؟ تدبري يا سيدتي وانظري، أعاد إليك ابن مياح بعد إذ فارقته عاما؟
البدوية :
لو كان في الأحياء ما تركني هنا.
ريطة :
إذن فلماذا تمنعينن نفسك عن الخليفة، وتسومينه كل هذا الهجر، وهو راض بذلك، صابر حتى تهدأ ثائرة نفسك؟ لعمري لو كنت من القطا ثم مضى عليك مثل ما مضى لاستأنست، ويحي! ماذا ينفع ابن مياح اليوم وفاؤك وهو في أحضان الملائكة؟! ...
البدوية :
أقصري يا ريطة أقصري، أراك تفتحين جراح قلبي وتدمين حبات فؤادي، أما يكون الوفاء إلا للأحياء؟! لقد جهلت الشعر وأنكرتني المكارم إن خنت عهد ابن عمي في نواه.
ريطة :
ستأسفين يا ابنتي على عمر تقضينه حزنا وبكاء، وشباب تقضينه هما وشقاء، من ذا الذي يشعر بمصابك ويرق لحالك، بل هبي أن في الناس من يرثي لك ويتوجع، فما ينفعك الرثاء؟
البدوية :
لا شيء لا شيء، ولكن للحزن لذة وللبكاء نشوة، هما بعض رحمة الله وحنانه.
ريطة :
ولكنك إذا فكرت، ثم قلت ما هذا الخيال الكاذب الذي أنا فيه ، ثم نهضت فاقتبلت موكب السعادة المقبل عليك؛ لحمدت عقباك وأسفت على ما فات.
البدوية :
هيهات! ليس إلى العزاء سبيل.
ريطة :
ما لي معك حيلة يا بنية، ولكني أشفقت على شبابك، فأردت أن أبقي عليك؛ لأن الخليفة ...
البدوية :
إني أعرف ذلك، ولهذا أعددت نفسي. لن أرضى في الناس بابن عمي بديلا. أسمعت؟
ريطة :
والسيف يا أميمة؟
البدوية :
هذا كل ما كنت أرتجي، أفإذا عرض لي الموت الذي يجمعني بالحبيب آباه؟! وافرحة القلب ونعماه!
ريطة :
بارك الله فيك يا أميمة (تقبلها)،
والله لأنقذنك منه يا أميمة، يمين الله علي ذلك يا ابنتي، ولقد سبرت غورك الآن عاما كاملا، فلم أعد أخشى فضيحة سري.
البدوية :
ما هذا يا ريطة! لقد بدل منك، ألهذا سر؟
ريطة :
سر، وأي سر يا ابنتي؟ أتقسمين أن لا تبوحي؟
البدوية :
كيف تطلبين إلي هذا، وقد أفضيت إليك بسري، وما سألتك عليه قسما؟
ريطة :
إذن فاذكري أني أنا جارية الإمام المصطفى لدين الله زعيم الإسماعيلية.
البدوية :
من هو هذا؟
ريطة :
الأمير نزار بن المستنصر بالله أخو الخليفة المستعلي أبي هذا الذي في دست الخلافة.
البدوية :
أنت جارية عمه الذي قتل ظلما في القصرين.
ريطة :
أجل! أجل! بل أنا أم والدة الأمير حسن الذي هو الآن في برقة فارا من ظلم ظالمه حتى يأذن الله ...
البدوية :
وكيف لا يعرفك هذا الخليفة؟
ريطة :
يعرفني! كيف يعرفني وقد فررت بولدي إلى برقة قبل أن يولد، لقد مضى اليوم ست وثلاثون سنة، بيد أني أخفي نفسي حقيقة تحت هذا الكحل كما تفرست بالأمس خشية أن يفتضح أمري لمن يعرفني، ولكني أحمد الله على أنه عمل برأيي فلم يحضر معك في هذا القصر أحدا من أهل أبيه.
البدوية :
وماذا جاء بك إلى ديار أبي في الصعيد؟
ريطة :
جئت أعمل لرد الخلافة إلى ولدي.
البدوية :
ولكنك لم تفعلي شيئا، أكنت تريدين أن تستنصري بقبيلتنا؟
ريطة :
بقبيلتكم؟ قبيلتكم التي عاونت المستعلي على قتل سيدي!
البدوية :
إذن فلماذا جئتنا؟
ريطة :
لم أشأ أن أطرق القاهرة حتى أعيش بين عرب الصعيد ونوره عهدا أصقل به ما صدأ على لساني من لهجة أهل المغرب، حتى لا يستريبني هذا الخليفة إذا أنا حادثته؛ فقد علمت أنه كثير الحذر يخشى أنصار ولدي، ولما كنت قد علمت أنه مولع بالأعرابيات، وكنت قد سمعت بما من الله به عليك من جمال الحور ...
البدوية :
وي، وي!
ريطة :
رأيت أقرب خطة للبلوغ إليه والقرب من نفسه أن أعلمه بأمرك، ولم أكن أدري أنك عالقة القلب بابن عمك.
البدوية :
كيف؟ ألم أخبرك أني كنت على وشك أن أزف إليه؟
ريطة :
حسبتك ككل مخطوبة يا بنية، إن تكن تحب خاطبها فإنها لا تأبى أن تكون لخاطب أحسن منه، على أني كنت ذات مقصد زعمت تحقيقه يدنيك أنت من السعادة.
البدوية :
آه يا ريطة، انظري ماذا فعلت؟! قتلت لي أبي، وابن عمي، وعبيد أبي، قوضت بيتي، ونزعتني من بين ذراعي من أحببت من أجل غرض لك قد لا يتحقق.
ريطة :
صه! لا تنفري، إنه محقق بإذن الله.
البدوية :
أنتم أيها الناس تستحلون كل شيء باسم الله في سبيل أنفسكم، ولا تعرفون أية جريمة تقترفون، عفا الله عنك يا ريطة ... ومن ذا الذي جمعك بابن الأفضل؟
ريطة :
جمعتني به المصلحة، إنه يضمر السوء لهذا الخليفة.
البدوية :
يضمر السوء، وهو الذي كان معه يوم سرقني، بل هو الآمر بذلك؟!
ريطة :
لم يكن يستطيع أن يفعل غير ذلك ليوغر صدر الأعراب، إنه يريد أن يملأ الدنيا له كرها.
البدوية :
لم هذا؟
ريطة :
لأنه قتل له أباه، وأبوه الذي بايعه بالخلافة كما بايع أباه من قبل، قتله وهو ذو الفضل عليه، كما قتل وزيره المأمون بعده لما أراد هذا أن يستخلف أحمد بن نزار.
البدوية :
أحمد أخا ولدك حسن؟
ريطة :
أجل، كان أكبر أبناء سيدي نزار، وكان قد فر إلى اليمن حتى دعاه الوزير المأمون البطائحي إلى القاهرة سرا فجاء، واستكشف الآمر أمره، فقبض على أحمد وعلى المأمون وإخوته الخمسة، وقتلهم.
البدوية :
يا لله!
ريطة :
واليوم لا يستوزر الخليفة وزيرا ولا يولي أميرا، أفتعجبين أن يحنق أبو علي لزوال دولته عنه، وكان الملك في بيته منذ عهد جده أمير الجيوش بدر الجمالي.
البدوية :
إذن، فهو يعمل في الخفاء على خلعه.
ريطة :
أجل وتولية ولدي، أفي ذلك ريب؟! لذلك يممت قصره، وألقيت إليه نبأي، وأقرني على رأيي. وذهب للخليفة من فوره، فرحل هذا إليك، ثم أتيت، وجعلني في خدمتك.
البدوية :
أو الرقابة علي؟
ريطة :
أنا التي دبرت ذلك بمعونة أبي علي، وإنما رضي بذلك ليأمن سعاية نسائه.
البدوية :
وما كان قصدك مني؟
ريطة :
لم يكن لي منك قصد إلا أن أصل إلى الخليفة، وها قد وصلت، ولكني غير قادرة على تحقيق غرضي، وبما أنك يا بنيتي لا تريدينه، وقد سبرت غورك، فتبين لي أنك لا تودين البقاء هنا، تشتهين العودة إلى بلادك، فكوني معي واتكلي على الله.
البدوية :
وكيف ذلك؟
ريطة :
أريد أن تساعديني على قتله.
البدوية (بفزع) :
قتله! (تصمت)
هذا جرم فظيع.
ريطة :
وهو ... ألم يقتل أباك، وابن عمك؟ ... دخل عليهما ضيفا، وخرج سفاحا.
البدوية :
بلى! بلى! ولكن جزاءه بيد الله لا بيدي يا ريطة، كيف ألقي بنفسي في نار جهنم؟!
ريطة :
لقد حسبتك تثأرين لقومك يا أميمة، هل يترك العربي ثأره؟!
البدوية :
كلا، ولكن لا يليق بالعربية القتل، ولا بالمسلمة الختل.
ريطة (لنفسها) :
يا قوة الله! لقد خاب الأمل، ألا تريدين الخلاص من هذا الخليفة؟
البدوية :
بلى!
ريطة :
أنا أخلصك منه، ولكن على شرط واحد.
البدوية :
وهو؟
ريطة :
إذا دخل عليك ثم استلقى في فراشه ونام، أن تنهضي تفتحين الباب، منه تخرجين إلى البادية، وأدخل أنا عليه بالقاضية.
البدوية :
ولا هذا أيضا.
ريطة :
إذن فوالله لا تبلغين العتق الذي تشتهين.
البدوية :
لعمري لا، الرق أحب إلي من أن تكون لي يد في قتيل.
ريطة :
ليكن ذلك، أترضين بالخلاص على أن تتركي باب غرفتك، وأنت فيها وحدك مفتوحا ثلاث ليال متوالية؟
البدوية :
ولم هذا؟
ريطة :
لا شيء سوى أن أدخل إليك، ثم أحملك أنا ورجالي برا بقسمي ما دمت قد أقسمت لك بذلك.
البدوية :
لقد كان في الإمكان ذلك منذ عهد بعيد، فلماذا تلجأين إليه اليوم؟
ريطة :
أريد أن أبعدك عن مشهد الدماء.
البدوية :
أليس في ذلك تآمر؟
ريطة :
إني لا أدعوك إلى مناصرتنا، وإنما أعمل على البر بقسمي وعلى أن أحفظ عفافك عليك، فإذا شئت أن تحتفظي به فهذا تدبيري.
البدوية :
أقره، ولا أشهده.
ريطة :
هذا ما أردت، والآن فانهضي ندخل الهودج، اليوم عيد النيروز وسيفد أهل مصر والقاهرة على هذه الحديقة على عادتهم كل سنة، هلمي ... (تتقدمها، تفتح الباب الصغير، وتدخل وتتبعها البدوية، ثم قبل أن تدخل تقف وتنشد.)
البدوية :
رب إني أنيب مما أراه
حائما في سماء هذا المقام
إن نفسي تتوق للعتق لكن
بئس عتق ينال بالإجرام (ويفتح الباب وتدخل، وإذا بالأمير أبي علي قد دخل يمشي الهوينى من اليمين، ثم يتقدم هنا وهناك، وينظر ثم ينطق بسر اللقاء.)
أبو علي :
نيروز، نيروز!
ريطة (تطل من النافذة الصغيرة التي في المرسح المفصلة بمربعات النحاس) :
غدير، غدير!
أبو علي (يتقدم من النافذة) :
أنت هنا يا ريطة!
ريطة :
مرحبا بأبي علي. (أثناء الحديث يدخل أسامة، وهو مرتد برنسا أبيض ذا قبعة، وهو محني الظهر قليلا، وهيئته تدل على أن بفؤاده خبالا، ثم يقترب من النيل، ويجلس يأخذ بعض عشبه، ويأكل كالقردة.)
أسامة :
هذا مكان جميل، ومرعى خصيب.
أبو علي :
ماذا فعلت يا ريطة؟
ريطة :
لم ترض البدوية أن تقتل الرجل بيدها.
أبو علي :
ربما كانت قد عادت فأحبت الرجل.
ريطة :
أما هذا فلا، لقد سبرت غورها، قلبت عليها وجوه النصح والتزيين، فلم تزد إلا تعلقا بابن عمها وكرها للرجل.
أبو علي :
كأنها لا تسطيع ...
ريطة :
إنها تأباه، وتنفر منه خشية عذاب الله.
أبو علي :
أهي من هؤلاء؟
ريطة :
بل لقد أبت أن تفتح باب غرفتها والرجل فيها، ولكنها وعدت أن تفتحه إذا لم يكن بها ثلاثة أيام متوالية، وإذ إنه يأتي إليها مرة كل يومين إلى آخر الليل إذا عاد من مجلسه في القاهرة، فما عليك إلا أن تحضر رجالك ، أدخلهم غرفتها وهي نائمة، حتى إذا دخل الثعلب ظفروا به إذ ذاك.
أبو علي :
أحسنت أحسنت، سأعد العدة للغد، أصبح اليوم أمر الروضة وحراسها في يدي، فاطمئني.
ريطة :
هذا خبر سار.
أبو علي :
وأسر منه أن سيدي الأمير حسنا حاضر إلى مصر قريبا.
ريطة :
حاضر! أوصلتك منه رسالة؟
أبو علي :
بل من شيخ الجبل، ينبئني أنه أرسل يستدعي الأمير من مخبأه الذي تعلمين، يوصيه بالرحيل إلى مصر سرا، كما أنه خبرني أن بمصر الآن فتى غريبا أرسله في خدمة الله.
ريطة :
وافرحتاه! وافرحتاه! هل أخبرك عن اسم هذا الفتى؟
أبو علي :
قال إنه يدعى اليوم «ذو الفقار».
ريطة :
ذو الفقار اليوم، فما اسمه الأصلي؟
أبو علي :
لم يخبرني به، ليس من الصواب ذكر اسمه، ذو الفقار هذا اسم سيف سيدنا علي عليه السلام.
ريطة :
عليه السلام، وما علامته؟
أبو علي :
صورة كبش ملون في عمامته.
ريطة :
صورة كبش؟
أبو علي :
أتعرفين ما كناية الكبش؟
ريطة :
لا أدري
أبو علي :
الكبش كناية عن فداء فرقة الإسماعيلية، فأنت تعلمين أن إبراهيم الخليل لما رأى في المنام أن الله يأمره أن يذبح ولده إسماعيل لم يتردد في إطاعة ربه، وهم بذبحه، فأدركه الله وافتداه من السماء بكبش حنيذ.
ريطة :
وهل هؤلاء الإسماعيلية ينتسبون إلى ابن الخليل إبراهيم؟
أبو علي :
كلا، ولكنه تيمن، وتشبه جميل، والآن أستودعك الله، إني سأبحث عن هذا الفتى حتى ألاقيه، ثم آتي به إليك في أول الليل، فأدخليه حيث شئت.
ريطة :
حسن! في وديعة الله.
أسامة :
ما ...
ريطة :
ما هذا؟! رجل يستمع! قضي الأمر!
أبو علي :
لي الويل. ما هذا ... اختفي أنت (تختفي، ويذهب أبو علي صوبه)
من أنت يا رجل؟
أسامة :
أنا ... ألا تعرفني؟
أبو علي :
ويحك من أنت؟ ... متى جئت هنا؟
أسامة :
جئت منذ جئت (هذا التسكين على تاء الفاعل في جئت مقصود كي لا يعرف أبو علي هل يعني جئت بالضم أم جئت بالفتح).
أبو علي (بخوف) :
ولماذا جلست هنا؟
أسامة :
أبحث عن حماري.
أبو علي :
تبحث عن حمارك؟ أين هذا الحمار؟
أسامة :
أنت أخذته (ينهض) ... هات حماري ... حماري الأصهب.
أبو علي :
ويحي إني ما رأيت لك حمارا.
أسامة :
إذن فعليك اللعنة.
أبو علي :
ويلاه ... من هذا الرجل؟ إني أرى به شبه الحاكم بأمر الله كما وصفوا، أيكون هو الحاكم؟! لقد قال شيخ الجبل إنه سيعود إلى الدنيا بعد قرن من الزمان ...
أسامة :
أجل أنا الحاكم.
أبو علي :
إنه يعرف ما في القلوب، ويلاه! لقد صدقت نبوءة الشيخ، متى نزلت من السماء يا مولاي؟
أسامة :
أنا ما نزلت من سماء، ويحك إني كنت في الماء.
أبو علي (لنفسه) :
لا شك في ذلك، قيل إن ملابسه وجدت ببركة الحبش ولم توجد جثته، فمن أعطاك هذه الملابس يا مولاي؟
أسامة :
هذه ملابس الجنة، حاكتها لي الحور (يذهب صوبه)
أين حماري قلت لك؟ لقد أخرجته الآن من البحر وجمعت له هذا العشب؛ فأين ذهب؟
أبو علي :
والله ما رأيت حمارك الكريم يا مولاي.
أسامة (يصفق بيديه آسفا) :
إنه ينكر حماري الأصهب.
أبو علي :
آه! لي الويل! تذكرت الآن أنه لا يعني حماره الذي كان يركبه، بل يعني شريعته التي سنها وخالفها الناس، لقد كان يكني عنها بالحمار (إلى أسامة)
كلا يا مولاي لا أنكره.
1
أسامة :
إذن فعلي به، عجل! هاته!
أبو علي :
كيف؟ إنك تعلم أني رجل جاهل لا أعرف الحق، فدلني عليه أكن لك نعم النصير.
أسامة :
لا شأن لي، هات حماري (يقبض على رقبته)
هات حماري، وإلا جعلتك بين فخذي (يهم بركوبه ويجره).
أبو علي :
آه! آه! خادمك أنا يا مولاي.
أسامة :
أنت خادمي؟! ليس لي خادم لقد قتلوا جميعا في الصعيد ليلة سرقوا ابنتي.
أبو علي :
ابنته! من هذا؟ (يتمعن فيه)
من تكون يا رجل؟
أسامة :
هلم! أوصلني إلى الفسطاط وإلا قتلتك.
أبو علي :
ليس هذا فعل إله ولا ولي، أتراني عثرت بمجنون؟
أسامة :
وأنت أيضا تسميني مجنونا ... أنت أيضا؟! هات حماري، هات حماري (يقبض على كتفه، وينظر في وجهه)
آه أنت؟ أنت هنا.
أبو علي :
هذا أبو البدوية الذي صرعته، ويلاه! حم القضاء.
أسامة :
عرفتك يا سارق ابنتي، فلا مفر لك مني (يقبض على رقبته).
أبو علي :
ويلاه، النجدة! النجدة!
أسامة :
لا تصح، وإلا قتلتك على الفور.
أبو علي :
وماذا تريد مني؟ هأنذا سامع فمر بما تريد.
أسامة :
أريد ابنتي، أين هي؟
أبو علي :
في هذا القصر، في هذا القصر، هذا هو الهودج الذي ابتناه لها الخليفة خدرا.
أسامة :
خدرا لها، وقبرا له!
أبو علي :
عسى الله أن يحقق ذلك.
أسامة :
كيف؟ أأنت ترجو له ذلك؟ أنت!
أبو علي :
كيف لا؟ لقد قتل لي أبي الملك الأفضل، وأنزلني عن الوزارة، وصادرني في مالي، وأراه قد ملأ الدنيا دما ونحيبا، اعف عني يا أسامة! اعف عني ...
أسامة :
أعفو عنك! عنك أنت! وأنت الذي زينت له سرقة ابنتي ...
أبو علي :
لا أنكر ذلك، ولكنه هو الذي أمرني أن أستصحبه، ولم يكن لي أن أخالف أمره، وهو يستريبني، بيد أني رأيته أعمى في غوايته، فكرهت أن أخرجه إلى النور حتى يكرهه الناس طرا، ولا سيما الأعراب؛ لأنهم كانوا أنصار أبيه على نزار.
أسامة :
نحن لم نكن أنصار أبيه بل أنصار أبيك، إنه هو الذي دعانا لمقاتلة نزار في الإسكندرية، آه! لقد طالما حزنت إذ كنت تحت لواء أبيك، ولكنكم معشر الوزراء تعملون لأنفسكم باسم الخلفاء، فإذا رأيتم منهم ازورارا انقلبتم عليهم، ورميتموهم بويلات الأمور.
أبو علي :
لقد كان أبي حسن الظن بأبيه وقد صدق ظنه، ولكن هذا ماذا فعل بأبي وبالعرب وبالملة وبالدين؟! هلم معي يا أسامة، ليس هذا مكان الحديث، تعال معي إلى الدار أحدثك أعجب الأحاديث.
أسامة :
ولكني أريد ابنتي، لا أفارق هذه الأرض حتى أراها.
أبو علي :
ستراها، ولكن لا سبيل إلى هذا الآن، وإن وقفت ألف عام.
أسامة :
لست أريد أن أملأ منها عيني، كلا، كلا، إنها في قلبي، ولكني أريد أن أعرف، أغلبها الرجل على عفافها فأقضي نحبي؟ أم ظلت كما أخذها مني؟
أبو علي :
اطمئن يا أسامة، إنها على ما عهدتها، لقد كانت في القصرين حتى أسبوعنا هذا، ثم إذ تم بناء هذا القصر نقلها إليه، ولم تستصحب معها أحدا من أهل القصرين. إن خادمتها جارية لي، وتعرف كل شيء.
أسامة :
بارك الله فيك بما بشرت!
أبو علي :
ولكن خبرني، أراك تتكلم عنها كلام العقلاء، أكنت تدعي الجنون؟
أسامة :
لا، والله يا ابن أمير الجيوش، ولكني ما زلت منذ سرق الخليفة ابنتي أهيم في الفلوات، أقصد قبائل الأعراب في الصعيد، أشكو إليهم بثي لما أصابني في ابنتي، وأستنهضهم للأخذ بالثأر ممن انتهك حرمتي، فما نفروا معي، بل قال عني الجمع إني مجنون إذ أرفض زواج الخليفة من ابنتي، فهمت في الفلوات لا أدري بمن أستنصر حتى رأيتني أصرخ من وجدي في الفضاء: أميم أميم، ولا أسمع إلا صدى صوتي، فملكني من ذلك خبال يساورني من بعده بعض الأحيان جنة أتبينها في نفسي، وأهم أقلع عنها فلا أستطيع، ولقد اندفعت بي قدماي إلى جزيرة الروضة هذه؛ إذ علمت أن الخليفة يبتني بها قصرا لابنتي، فلما نظرت في البحر زعمت أنه يبلغها صوتي، فناديتها، ثم ناديتها، وإذ ردد البحر صوتي ولم تجب، عاودني الجنون، فهمت مرة أخرى حتى بلغت هذا المكان، ولكني في رشدي يا أبا علي لولا تهدم جسماني.
أبو علي :
هون عليك، هون عليك، إني سأريك ابنتك.
أسامة :
بل أريد أن أعود بها إلى الصحراء، أطنب لها خيمتي كما كانت، وأقعد بها ابنتي كما كانت، ثم أزفها إلى ابن أخي حسين.
أبو علي :
سأعينك على هذا، ولكن خبرني أين ابن مياح اليوم؟ لقد خبرت أنه مات قتيلا.
أسامة :
كلا، كلا، لا قدر الله، إنه كان ملقى على الأرض صريعا لا قتيلا.
أبو علي :
وأين هو الآن؟
أسامة :
لا أدري.
أبو علي :
ألم تسمع عنه شيئا؟
أسامة :
قيل إنه ذهب إلى الشام.
أبو علي :
لماذا؟
أسامة :
لا أدري.
أبو علي :
أيكون قد ذهب إلى حلب؟
أسامة :
هكذا خبروني.
أبو علي :
يريد لقاء شيخ الجبل.
أسامة :
لم يخبرني بذلك أحد ... بل أجل، هكذا قال لأخته ناعسة.
أبو علي :
إذن فهو الذي عاد اليوم من حلب - وعنه ورد لي الخطاب - لا شك في ذلك، لقد حان أن أنتقم لأبي، وأعيد الملك في بيت أمير الجيوش.
أسامة :
ماذا تعني؟
أبو علي :
لا يعنك هذا، سترد إليك ابنتك عما قريب، ولكنك لن تراها حتى ترى ابن أخيك أولا.
أسامة :
بل أراها بحق الله عليك، أين ابن مياح اليوم؟ لعله لا يأتي أبدا.
أبو علي :
بل إنه بمصر.
أسامة :
ولكنك لم تخبرني، لماذا أنتظر حتى يعود ابن مياح؟
أبو علي :
لأنه معه مفتاح ذلك، إن شيخ الجبل زعيم الإسماعيلية ناقم على الخليفة؛ لأن أباه قتل سيدهم الأكبر نزارا عمه الأكبر، وأنا اليوم على رأيهم.
أسامة :
أنت أيضا يا ابن الأفضل؟
أبو علي :
أنا قبل كل إنسان.
أسامة :
أتريد قتل أمير المؤمنين؟
أبو علي :
هذا ما إليه أقصد إن وفقني الله لذلك.
أسامة :
إذن، فإليك عني أيها الخائن. تقتل أمير المؤمنين، تقتل خليفة رسول رب العالمين، إليك!
أبو علي :
ويحك يا أسامة! ماذا أصابك؟
أسامة :
تقتل ابن فاطمة الزهراء بنت خير من أقلت الأرض، وأظلت السماء؟!
أبو علي (لنفسه) :
أترى الرجل عاودته جنته، لعنة الله عليه ... (لأسامة)،
وابنتك أترضى لخليفة رسول الله أن يستبيح عرضها؟
أسامة :
من هذا؟
أبو علي :
خليفة رسول الله.
أسامة :
يستبيح عرضها؟!
أبو علي :
أجل.
أسامة :
ويحك! أيستباح عرضي وأنا حي؟!
أبو علي :
ما هذا؟ أرى الرجل قد جن.
أسامة :
ما جن إلا أنت!
أبو علي :
ولكن أميمة ابنتك، ابنتك التي كانت كزهرة الروض يانعة نضرة. تشرق على الدنيا كأنها الشعرى يا أسامة، أنسيت أميمة؟ أنسيت الذي أخذها من بيتك عنوة، وكانت بين ذراعيك وذراعي زوجها الذي أحبك. آه! يا لمروءة العرب! يا لشرف الآباء! مسكينة أنت يا أميمة!
أسامة (يبكي) :
ابنتي ابنتي!
أبو علي :
لا تبك، لا تبك، لماذا تبكي؟! دع البكاء لابنتك وحدها، أنت تريد أن تكون صهرا للخليفة، وهي تأبي إلا أن تحفظ عفافها عن العرب، سأخبرها بذلك عسى أن يقطع اليأس سيل دمعها، وتستسلم لقضاء الله.
أسامة :
لا، لا، لا تخبرها بالله، ابنتي أميمة، أرنيها.
أبو علي :
لن تراها.
أسامة :
أرنيها بحقي عليك.
أبو علي :
وإذا لقيك الخليفة؟
أسامة :
أقتله بيدي! بيدي، وأنتقم.
أبو علي :
ولكنك أنكرت مني ذلك الآن!
أسامة :
أنا؟!
أبو علي :
أجل، أنت!
أسامة :
لا، ورب الكعبة لا ... أجننت أنا حتى أنكر عليك هذا.
أبو علي :
إذن، فتعال نرتقب الفرصة كما خبرتك، إنك إن تبد لها الآن تنبه الخليفة، فقطعت السبيل على ابن أخيك، أنت رجل شيخ فاتر الذراع متهدم كما قلت، فاعتمد علي، اعتمد علي، وتوكل على الله في تدبير الأمور.
أسامة :
أنا فاتر الذراع؟! أنا فاتر الذراع؟! (يعدل قامته، ولكنه لا يستقيم تمام الاستقامة)
آه! لن تفتر لعربي ذراع، وفي صدره نفس يتردد ... ويحك يا أبا علي، هذا ذراعي إذن فترب ذراعي (يجرد من تحت برنسه سيفا كان يخفيه).
أبو علي :
أغمد، أغمد، وتستر! ليس هذا أوان تجريده.
أسامة (يغمد السيف) :
صدقت!
أبو علي :
تعال معي إلى داري، هلم! إنك فاضحي إن بقيت.
أسامة :
لا بأس بالانتظار حتى حين.
أبو علي :
هلم (لنفسه)
ليس هو المجنون بل أنا، هلم (يتقدمه).
أسامة :
ابنتي ابنتي رويدك إني
أتقفى آثار من ظلموك
كفكفي الدمع إن دمعك غال
لا تذيليه أو يموت أبوك (يخرج من اليمين، وراء أبي علي، وعند ذلك يسمع لغط قوم يدنون من جهة اليسار كأنهم آتون من مصر الفسطاط، يعزفون، ويطبلون، ويرقصون، ويغنون، وكأن بينهم جارية يرد عليها الجماعة، ثم يدخلون فتراهم في ملابس زاهية على وجوههم لمعة البشر والسرور؛ لأنهم في عيد هو عيد النيروز، وبينهم فتى في الثانية والعشرين من عمره قد تلثم وتحنك، وعلى رأسه شال عمامة نقشت فيه صورة كبش باللون الأحمر، أما ما كانوا يغنون فهو.)
المغنية :
زهر الربيع مثل الأقمار
ملا علينا الروض أنوار
هات الكؤوس هات الأوتار
نشرب ونطرب ونغني (ويرقصون على هذا النغم، ويردده المغنون وراء الجارية المغنية، ثم تنبري المغنية تغني البيتين الآتيين.)
المغنية :
عيد البلاد عيد النيروز
ولله ما نبيعه بكنوز
2
هات الخوابي هات الكنوز
نملا ونشرب ونغني
ويردد المغنون البيتين الأوليين، زهر الربيع ... إلخ. تنبري المغنية وحدها تغني البيتين الآتيين.
المغنية :
عيدنا جمع آسيا وموسى
وأحمد ودميانة وعيسى
امتى نبطل دي الهوسه
علشان ما نطرب ونغني؟
3
يردد المغنون البيتين الأولين: زهر الربيع ...
المغنية :
قولو معي يا اهل بلدنا
الله يخلي اللي جمعنا
ويفرق اللي فرقنا
علشان ما نفرح ونغني (ويردد المغنون زهر الربيع ... إلخ، ويشربون جميعا، ويعودون إلى الرقص.)
مياح (يرقص مع الجمع، ولكنه لا يشرب، ثم تراه يقف من آن لآن ينظر إلى النافذة ثم يتأوه ويقول) :
آه! آه! آه! هنا، أميم هنا، أميم آه.
المغنية :
ما بال أمير النيروز يتأوه؟
مياح :
طربا لصوتك يا مليحة، هلم (يعود الرقص، فإذا اشتغل الجمع بالرقص عاد إلى الجدار وأخذ يتأوه)
أميم! أميم! آه!
المغنية (بعد أن تكون قد غنت الدور الرابع والراقصون رقصوا) :
كأني بهذ الأمير قد أنهكه الرقص ...
مياح (يتنبه) :
غني يا مليحة، غني البيتين اللذين حفظنك إياهما في الخان.
المغنية :
حبا وكرامة، هلم يا بنات! (هنا تفتح نافذة القصر، وتظهر فيها البدوية، ووراءها ريطة، وتأخذ البدوية تستمع للغناء والرقص):
نعمة الحب يا حبيب فؤادي
متعة من نعيم جنة عدن
فاحفظ الحب بالوفاء لتحظى
بنعيم الفردوس في المنزلين
البدوية :
كأني أسمع شعري يا ريطة!
مياح (لما رآها قد فتحت النافذة وقف مضطربا بجوار القصر تحت النافذة تقريبا، ويتقدم ويتأوه وهو قابض على يسار صدره بيده) :
آه! آه!
أحد الجمع :
دعونا من هذا النشيد يا رفاق، إنا نحن أهل مصر، ولنا الحق في تسيير أغاني العيد على هوانا، لا على هوى فتى غريب عنا وعن بلادنا، هلم يا فاطمة أعيدي ما قلت أولا أو فزيدي، هلم! (يرقصون سكوتا، ويشتغلون بالرقص مدة كلام البدوية) ...
البدوية :
فتى غريب! أيكون ابن مياح بينهم؟! ويلاه! أين مني اليوم حسين؟ وأين أبي؟ هل ترد القبور ودائعها؟! واحسرة النفس عليهما! واشقائي، وحرقتي، وعذابي!
أحد الجمع (الذي هو المتكلم سابقا) :
لماذا لا تغني يا فاطمة؟
غيره :
إنها لا تريد أن تنقض رأي الجماعة.
أحد الجماعة :
كيف ذلك؟
غيره :
إننا ارتضينا هذا الفتى الغريب أميرا لنيروزنا، ومن العيب أن ننقض ما اتفقنا عليه.
أحد الجماعة :
هذا صحيح، ولكن البيتين لا يناسبان المقام.
مياح (بصوت متألم) :
أي مقام غير هذا لهذا الشعر يا رفاق؟! أي مقام؟! فتشوا في خبايا القلوب، وانظروا من فيه، لعمري لو نظرتم لوجدتم ...
أحد الجمع، وغيره :
البدوية، البدوية.
الجماعة (على إثر ذلك) :
البدوية.
مياح :
أجل! هي، هي (ويكون كلام ابن مياح بين كلام الثلاثة الأول، وكلام الجماعة، ويعلي صوته ولا يبالي، وإذا انتهى الجمع من النطق كان ابن مياح يتم قوله)
هيه.
البدوية :
صوته، والله! ولكن أين هو؟ إني لا أرى له شبحا، وإن كان خياله يتردد أمام ناظري.
ريطة :
تريثي يا مولاتي، لا يليق بك أن تفضحي أمرك في الناس.
أحد الجمع :
غني يا فاطمة، غني مدح البدوية الذي أعددت عساها تنظر إلينا، إن هذا اليوم لا يعوض، إنه يوم يعيد فيه أهل مصر جميعا، وقد أسقطوا كل شيء إلا الأخوة.
غيره :
الدين للديان إن كان هناك ديان! ها! ها!
الجميع :
ها ها ها.
أحد الجمع :
زد على ذلك أن الخليفة لا يأذن لأحد من رعاياه بدخول حديقة الروضة إلا في عيد النيروز هذا، غني يا فاطمة.
المغنية :
حبا وكرامة:
يا أصيحابي تعالوا وانظروا
مطلع البدر وحيوه معي
إن بدر الليل عنا غائب
خجلا ممن بدت في المربع (يرقصون، والبدوية تنظر، وابن مياح مضطرب يروح ويجيء لا يدري ماذا يفعل.)
البدوية :
شكرا لكم يا رفاق، شكرا، متعكم الله بطيب الحياة، وحماكم لوعة الفراق.
ريطة :
سيدتي! ما هكذا يكون الدعاء، ما خطبك؟!
البدوية :
ادنوا مني يا رفاق، خذوا هذا، وانصرفوا على بركة الله (تنثر عليهم نقودا)
ادعوا الله يستجب دعائي، عسى أن يتولاني برحمته، إن صوت الجماعة مجاب.
الجماعة :
آمين! آمين! (يقدم كل منهم منديله ينشره بين يديه وفمه ليتناول النقود في سقوطها).
البدوية (باضطراب وشك) :
من هذا الملثم؟ لماذا لا يدنو؟ حادثيه يا ريطة، (لا تنتظر)
ادن منا أيها الفتى! ادن منا! هات منديلك يا أخي.
مياح :
لا حاجة بي إلى المال يا سيدتي.
ريطة :
ولكن الأميرة تريد ذلك (تنظر فيه وتتمعن).
مياح :
الأميرة!
ريطة :
أتأبى كرامة الأميرة، أم تريد أن تغضبها؟ (لنفسها)
هذي صورة الكبش في طيات عمامته.
مياح :
آه ... (يمد صوته في آه، وعند ذلك تكون ريطة تنطق بآخر جملتها السابقة)
أغضبها (تغرورق عيناه بالدموع)
أغضبها! ما عشت لأغضب أميمة.
البدوية (في أثناء ذلك تطل من النافذة) :
آه، من هذا؟ أكاد أراه، أعاد حسين إلى الدنيا؟ إني أرى به شبح ابن عمي.
ريطة :
علي بأمير النيروز (لا تنتظر دعوة ريطة)،
هات منديلك يا أخي (تنظر إليه بإمعان وحدة).
مياح :
منديلي، ها هو ذا (يخرجه من جيبه، وقد تضرج بالدماء قليلا، دماء جرحه القديم، وينشره بيده اليمنى على ذراعه اليسرى، بمعنى أنه ينشره، ثم يتلقاه على ذراعه اليسرى حتى يصبح صفحة واحدة، وإذ تنظر إليه البدوية تأخذ تتمعن فيه).
البدوية :
ماذا على المنديل أيها الأمير؟
مياح :
اقرأي يا سيدتي.
البدوية :
نعمة الحب يا حبيب فؤادي ... (تمسك عن القراءة فجأة، وتتأوه)
آه! آه!
ريطة (بسرعة) :
غني يا مليحة، وارقصوا يا رفاق، هلم هلم! (ابن مياح يطوي منديله على الفور، وتأخذ فاطمة في الغناء والجميع في الرقص).
البدوية :
حسين! حسين!
ريطة :
انصرفوا راقصين مغنيين. (يغنون ويرقصون من باطن المرسح إلى خارجه حتى يخلو المرسح إلا من حسين؛ إذ يتأخر عنهم ... ولا يبطل الغناء ولا الرقص بمجرد خروجهم من المرسح، بل يظلون عليه مدة حتى يدخلوا غرفهم، وعندئذ لا يسكتون دفعة واحدة؛ لأن انقطاع الصوت والحركة مرة واحدة يحدث في التمثيل فراغا مكروها.)
البدوية :
حسين! حسين! أنت هنا يا ابن عمي! أفي الأحياء؟! يا رحمة الله ...
حسين (يصعد الأحجار التي تحت النافذة مضطربا، ويكاد يبكي) :
أميم. أميم. أنت التي تحدثين أم أن ذاك صدى طيفك في فؤادي الكليم؟!
البدوية :
بل أنا بل عروسك يا حسين، أنقذني أنقذني خذني إليك، أألقي إليك بنفسي أيها الحبيب؟
مياح :
أجل، هأنذا، ألق بنفسك ولا تبالي.
ريطة :
ما هذا يا بني؟ ألا تخشى أن تسقط من يديك على الصخر؟
مياح :
ويلاه!
البدوية :
ساعديني أيتها الأم البارة، ساعديني وبري بقسمك، لقد فتح الله باب الفرج فأفسحيه لي بيديك.
ريطة :
ليس هذا أوان الهرب، والطرقات غاصة بالناس، اصبري حتى يأذن الله.
مياح :
لقد نفد صبري، نفد صبري كما نفد دمعي وزفير صدري، لقد نفد مني كل شيء فلم يعد بي إلا اللمح والأنين، أعيني على اللقاء حبيبين قطع الدهر أوصالهما، وعروسين منع القدر وصالهما.
البدوية :
هل من سبيل إليه يا ريطة؟
ريطة :
كيف السبيل يا ابنتي؟! تدبري وانتظري ليلتين (إلى ابن مياح)
يا ذا الفقار!
مياح (بدهشة) :
يا ذا الفقار أتعرفني!
ريطة :
اذهب من فورك إلى أبي علي بن الأفضل.
البدوية :
من هو هذا؟ شريك المحرم.
ريطة :
لا يعنك هذا، إنه أصدق أصدقائك.
مياح :
أهو كذلك يا أميمة، (لريطة)
أين داره اليوم يا خالتاه؟
ريطة :
عند باب زويلة، اذهب إليه من فورك واتكل على الله، اذهب قبل أن يعود الخليفة.
البدوية :
لا تفارقني يا ابن عمي! لا تفارقني!
ريطة :
آه! لعمري لتعملين على أن يقع ابن عمك في يد صاحب النقمة، ثم ترينه مسفوك الدم قتيلا.
البدوية :
صاحب النقمة! ويلاه. اذهب يا حسين، اذهب يا أخي، لا تعرض نفسك للأذى من أجلي (هنا يسمع صوت المغنية عن بعد، أي من داخل غرف الممثلين، ثم تتقدم على مهل حتى تدخل المرسح في الموكب، فينزل ابن مياح متقهقرا عن الصخر).
مياح :
وداعا (يعلي صوته)،
وداعا يا أميمة. أميمة (ينضم إلى الموكب).
البدوية :
حسين! حسين! حسين! (تختفي، وتقفل ريطة النافذة). (وصوت البدوية في حسين مسموع، كل ذلك قبل رجوع الموكب، ويكون انضمام حسين إليه ساعة دخول الراقصين.)
أحد الجمع :
أين أنت يا أمير النيروز؟
مياح :
هأنذا. (على أحد الجمع أن يسأل سؤاله قرب انتهاء المغنية من الدور، فإذا نطق به ولم تكن قد أوشكت أن تنتهي، فليعده مرة ثانية، وعلى ابن مياح أن يكون جوابه قبل انتهاء المغنية أيضا، ولا يهمه سمع الجمهور أم لم يسمع، الغرض أولا سبك الحالة وجعلها طبيعية؛ لأن مثل هذه المواكب لا تكون مرتبة كحفلات الكنائس، وإذا انتهت المغنية نظر ابن مياح إلى النافذة، وتأوه من نفس نغم المغنية وعلى ضربه مع الترقي، ويجب أن يتعلم هذه الآهات عن معلم موسيقي) آه، آه، آه (يخرج مع الجميع).
الستار
الفصل الثالث
(يكشف الستار عن غرفة فسيحة في قصر الهودج، وهي منقسمة قسمين: القسم الأعلى منها رواق يفصله عن الأدنى - الردهة (أي مقدم المرسح) جدار عليه أعمدة متواصلة بعقود من البناء العربي، في وسطها باب عليه ستار عظيم، وفي وسطي الجدارين الأيمن والأيسر من الردهة عقدان من البناء، بعد كل منها قبة تحتها باب، وهذان مدخلان لغرف بعيدة من القصر، والمكان مفروش بالبسط، وعلى جانبي العقدين أبواب غرف، ويرى في الردهة مقعد ثمين، أمامه من اليسار طراحات، وفيه أدوات زينة عربية، وغير ذلك.) (يدخل الخليفة من باب الوسط، وهو في حالة تهيج، ويذهب إلى باب مسكن البدوية، أي العقد الأيسر، ونسميه بالثاني فيما يلي من الكلام، وهو مرتد ملابس حمراء عليها دراعة بيضاء، وينادي.)
الخليفة :
ريطة! (يعود نحو المقعد يمينا)
لعمري قد نفد صبري، إن هذه البدوية القذرة لا تهابني، أأنا صعلوك عربي حتى لا تسمع أمري ولا تطيع، ويل لها الليلة مني إذا أنا لم أبلغ مرامي منها، مضى دهر طويل وأنا صابر عليها صبر المحب لدلال المحبوب، عسى أن ترشد وتعلم أني أنا الخليفة الذي لا مرد لقضائه، ولا دافع لقدرته، وهي لا تزداد إلا نفورا مني، تؤثر علي عبدا من أرخص عبيد بلادي، عربيا قذرا يرضع النوق، ويأكل الشعير، ويشرب آسن الماء، تؤثر عشرته في ظل خيش مصفق على مجاورة أمير المؤمنين في هذا القصر الموطد المنيف! يالله من عنت النساء (يجلس على المقعد، وتدخل ريطة فتسلم سلام الجواري)
ما وراءك يا ريطة؟ لعمري لقد كان يوم الشؤم يوم جئتني فيه بخبر هذه البدوية.
ريطة :
عفوك يا مولاي، ما كنت أحسبها خرقاء كما رأيت.
الخليفة :
إذا كانت خرقاء فإن في القاهرة بيمارستانا لأمثالها! أين هي الآن؟
ريطة :
في مخدعها يا مولاي.
الخليفة :
علي بها.
ريطة :
سمعا يا مولاي (تهم بالذهاب).
الخليفة :
قفي! (تقف)
ألم تخبريها أني لم أعد أحتمل منها هذا الإباء ...
ريطة :
لقد والله نصحتها، وأبنت لها أنها عمياء عن الخير الذي بين يديها، فلم تنتصح، فذكرت لها أنك أهدرت دمها إذا هي لم تذعن لمشيئتك.
الخليفة :
فماذا أجابت؟
ريطة :
أجابت أنها ترحب بالموت الذي يحفظ عليها عفتها.
الخليفة :
إني لا أريد أن أغلبها على عفتها ... أريدها لي زوجة!
ريطة :
إنها ترى أن أباها قد عقد لها على ابن عمها، فإذا تزوجت منك كانت فاسقة.
الخليفة :
ولكن ابن عمها قد مات.
ريطة :
لم تعد تصدق هذا الخبر يا مولاي.
الخليفة :
كيف؟
ريطة :
لا أدري، ولكنها تقول أنها رأته في المنام يحدثها بأنه حي لم يمت، وأنه لا بد آت إليها، وأوصاها بالصبر حتى يعود، وهي الآن في انتظاره.
الخليفة :
إذن فلن تكون لي زوجة، ستكون جارية (ينهض)
بل دوين الجارية، إذا أبت أن تكون عروس الشرع والسنة، فلأحي بها سنة الأقدمين، ولأجعلنها في الغد عروسا للنيل، علي بها.
ريطة :
هذا خير ما تفعل يا مولاي، لعمري لئن لم تأخذها بالشدة لظنتك اليوم دون ما كنت بالأمس فاسترسلت في إبائها واستحال عليك نيل المراد، هأنذا ذاهبة فأرني كيف تصنع (تخرج يسارا).
الخليفة (يروح ويجيء في الردهة) :
ليس هذا تدللا بل مقتا واحتقارا وازدراء بتاجي وباسمي، صدقت تلك النورية لم تزدني هوادتي إلا ضعفا ولم تزدها إلا تشددا، سأريها اليوم مري كما أريتها حلوي، ووالله لتكونن ...
ريطة (تدخل) :
هذي هي يا مولاي. (تدخل البدوية، وفي مشيتها خطوة الكبر وقلة الاكتراث، ثم تقف بالقرب من باب العقد الثاني.)
الخليفة (يجلس) :
إلي أيتها الفاجرة.
البدوية (تذعر) :
فاجرة!
الخليفة :
تقدمي (تتقدم)
الليلة فصل الخطاب بيني وبينك، لقد أمهلتك إلي دهرا طويلا لكي لا يكون علي حرج أن تكوني لي زوجة ، فما زدت إلا نفورا مني وتعلقا بخيال صعلوك، حتى حسبتني دون هذا الصعلوك مقاما.
ريطة :
حاسنيه وإلا قتلت، قبل أن يأتيك ابن عمك (تخرج).
الخليفة :
أجيبي، أأنت ترين هذا الصعلوك خيرا مني؟
البدوية :
لن يكون الصعلوك إلا صعلوقا، ولا الخليفة إلا سيدا.
الخليفة :
فلماذا آثرت هذا الصعلوك علي؟
البدوية :
لم أؤثره عليك يا مولاي، وإنما آثرت نفسي؛ فطرة الله التي خلق الناس عليها، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
الخليفة :
لم يستبن لي مرادك.
البدوية :
أنت تعلم يا مولاي أن الإنسان يستمد سعادته في هذه الدنيا مما اعتاد، كالطفل يعتاد الثدي الذي يرضعه، فلا يؤثر عليه شيئا من طيبات الدنيا؛ ولذلك تراه إذا فطم يحزن لذلك ويأسى، ويملأ الدنيا صياحا ويأسا. للإنسان من أهله وصحبه ووطنه ودأبه وعرفه وأدبه عهد متصل بدمه، عالق بنفسه ساكن في قلبه. قصة عزيزة عليه، هي قصة طفولته، ولذة صباه، وعزاه في كهولته، بل هي حياته كلها. فإذا أنت أرغمته على ترك هذا ونسيان ذاك، وقطعت ما بين ماضيه وحاضره، فقد مات يا مولاي موتة قلب وروح وفؤاد.
الخليفة :
لم يفتني ذلك يوم غلب علي هواك فأخذتك إلى قصري، ولكني اعتمدت على الزمن في تسكين ثائرة نفسك، وتركتك اليوم عاما أو يزيد؛ لتستعيضي عهدا بعهد، وأرضا بأرض، وقوما بقوم.
البدوية :
ولكن أي عهد هذا الذي اعتضته؟ عهد أقضيه في حسرة، ولوعة، وبكاء! وأي قوم رأيت لا أم لي فيهم، ولا أب، ولا أخت، ولا صديقة؟! لم يكن لي فيه يا مولاي إلا الذكرى والحنين والحسرة؛ لأن انقطاع تلك المعاهد عني قطع عني صلة نفسي بالماضي، تلك الصلة التي يحسبها الإنسان ضمينة خلوده في الدنيا، أفتنكر علي أن أظل في شقاء كل يوم، وأرجو لو أنني عشت في خيشي بين الكاسر والضاري، وخشنة عيش أؤثره على ما تجده أنت يا مولاي في هذا القصر من نعيم؟ فأنت ترى يا مولاي أنني لم أؤثر عليك صعلوكا أو ملكا، بل آثرت نفسي بالرغم مني، وتلك فطرة الله.
الخليفة :
أنكره ؛ إن فطرة الله هذي في نفسي أيضا، كما في نفسك.
البدوية :
إذن فأنت لا تحبني يا مولاي.
الخليفة :
بل أحبك حبا أليما مبرحا.
البدوية :
لن يرضى المحب شقاء المحبوب، إنه ليفديه بما يحب مما يكره، ويؤثر نعماه على نعماه.
الخليفة :
أفإن كان الحبيب مخطئا وجب على المحب أن يرضى له الإغراق في خطأه.
البدوية :
كيف؟
الخليفة :
إنك ترجين أن تعودي إلى الصحراء، تؤثرين شظف العيش على الرخاء، والمحب الذي يرعى للحبيب نعماه، لا يطاوعه قلبه فيرضى له هذا. ألا ترين أن الأب قد يمنع ابنه شيئا يشتهيه ويلح في طلبه، رعيا لخالص مصلحته، لا بخلا منه ولا كراهة؟!
البدوية :
بلى يا مولاي، ولكني لست طفلة، وقد كان فيما ذكرت بيان. بيد أن خطأي يا مولاي في دمي، ولن يستطيع الدهر محوه حتى يمحوني.
الخليفة :
إلي أيتها البدوية، تعالي أصارحك، أريك حقيقة هذه الدنيا ما دمت قد صارحتني، ولم تؤخذي بعرف ولا بهيبة الملك الذي أنا فيه، ولم يرعك ما في نبرة صوتي من قوة القضاء، تعالي ولا تفزعي.
البدوية :
سألتك بالله إلا ما أقلتني سماع ما تريد.
الخليفة :
أوتعرفين ما أريد؟
البدوية :
كأني لا أجهله يا مولاي؟!
الخليفة :
إذن فقد كان احتجاجك غشا لي وخداعا.
البدوية :
معاذ الله أن أخادع يا مولاي! إنما قلت ما أعتقد وما أشتهي أن تكون عليه الدنيا، ولكنك تريد الآن أن تخبرني بحقيقة أخرى، وما أمرها حقيقة!
الخليفة :
أتعرفين أن المحب الذي يذوب غراما بمن يحب إنما يحب نفسه؟ يرى منه مشتهاه فيلح في طلبه؟
البدوية :
أجل يا مولاي.
الخليفة :
وتعرفين أن إيثارة المحبوب على نفسه أو صبره لدلاله وهجره وبكائه لذله، إنما هو خطة احتيال يلجأ إليها يستعطفه بها حتى يحنو عليه فينال المحب قصده بذلك؟
البدوية :
أرى ذلك اليوم حقا.
الخليفة :
وتعلمين أن افتداءه بروحه إنما هو افتداء لقصده منه من حيث لا يدري؟
البدوية :
الظاهر كذلك يا مولاي.
الخليفة :
وتعلمين أن الناس تسعى في هذه الدنيا وتتجادل، وتتقاتل من أجل ما ترى فيه القصد، وإنهم يحتالون لذلك من كل طريق على اختلاف درجات اقتناعهم بصواب الخطط الموضوعة والمشروعة؛ لكي يفوزوا بالمأرب الأخير من هذه الدنيا؟
البدوية :
أرى كل ذلك يا مولاي.
الخليفة :
وتعرفين أيضا أننا نحن الملوك نقيد الناس بالشرائع لكي يكف الناس عن الأذى والازدحام في طريقنا، ثم نكون فوق هذه الشرائع؟!
البدوية :
هذا هو المشاهد يا مولاي.
الخليفة :
وترين أنني أنا الآمر بأحكام الله في هذه الدنيا، وأريدك لنفسي إرادة العطش المستعر إلى الماء، ثم تؤملين الفكاك مني؟!
البدوية :
حتى وإن كنت خليفة الرسول، وابن فاطمة البتول؟
الخليفة :
حتى إن كنت كذلك.
البدوية :
تريد أن تغلبني على نفسي بالرغم مني يا مولاي؟
الخليفة :
هو كذلك، ولا مرد لما أريد.
البدوية :
أنت وما ترى يا مولاي.
الخليفة :
إذن فاسمعي، ستكونين الليلة أنيسة خلوتي، أعدي فؤادك لقبول هذا الإثم إن رأيته إثما.
البدوية :
سيكون لك ما تشتهي يا مولاي! تغلبني على جسماني هذا (تشير إلى صدرها وثدييها وعطفيها)،
أما فؤادي (هنا يعلو صوت الممثلة شيئا فشيئا لآخر الجملة)،
وروحي. أما نفسي يا أمير المؤمنين فلن تغلبها على أمرها، ستفر منك يا مولاي إلى مولاك، تفر من الذلة والصغار، تبتغي دارها بين البررة الأطهار؛ فإذا دنوت مني تحسب أنك تجد تلك الفتاة البدوية الحرة، لم تجد إلا جثة هامدة، وترائب باردة، سلام عليك (تخرج من الباب الأيسر الأدنى، وتظهر ريطة تحت العقد الثاني الأيسر).
الخليفة :
ما أشد غضبي وألمي! لعمري لقد أوشكت النفس أن تخلع مناها، وتهم بالانتقام.
ريطة (تتقدم) :
هون عليك يا مولاي!
الخليفة (يلتفت) :
أسمعت مقال تلك الفاجرة؟
ريطة :
لم يفتني أن أقف على دخيلة نفسها في كل حين يا مولاي.
الخليفة :
وما رأيك في عنادها؟
ريطة :
لا يهمك هذا يا مولاي، كل العذارى هكذا، تظل إحداهن على عهد من تحب حتى تتزوج آخر، فإن لم تنس الأول فإنها لا تأبى الثاني.
الخليفة :
وأنت ترين أن أدخل الليلة بها؟
ريطة :
ولا تردد.
الخليفة :
ولكن الرجل لا يحب من شريكته إلا أن تكون كما يكون، فإذا أنا أقدمت الليلة على ذلك لم يكن لي منه إلا الألم.
ريطة :
سينسيك اغتباطك بها بعض هذا الألم فلا تتردد، إنه دواء لك ولها.
الخليفة :
إذن فأعدي الليلة شرابا وطعاما، واجعلي القصر زينة للدنيا، ومجلى للحبور، حتى أعود من القصرين.
ريطة :
لم يفتني ذلك يا مولاي، فلقد أرسلت إلى مدينة الفسطاط في طلب المغنيات والراقصات من فوري اغتباطا بهذه الليلة، سترى يا مولاي أني ما خبرتك إلا الحق، لقد رأيتها يا مولاي كما ولدتها أمها، فوالله ما وقعت عيني على أجمل منها.
الخليفة (ينهض) :
سنرى، سنرى، ونرى في جزائك في الصباح يا ريطة (يتمشى صوب الباب الكبير الأوسط)
إن خيرا فخير، وإن شرا فشر (يتمشى ويصل إلى الباب).
ريطة :
خيرا إن شاء الله (يخرج الخليفة، وتظل ريطة تنظر إلى حيث خرج، وهي مأخوذة حنقة)
ستزف الليلة إلى العروس، ثم توارى في الغد جوف الرموس (هنا يدخل أبو علي مترددا من بين أعمدة العقد الأول الأيمن كأنه كان يسترق السمع)
من هذا؟! (بدهشة)
أبو علي!
أبو علي (يؤخذ كأنما أصابه خوف) :
ريطة! أنت هنا؟! وافرحتاه!
ريطة :
مرحبا بأبي علي.
أبو علي :
أين مولانا أمير المؤمنين؟
ريطة :
ذهب توا إلى القصرين، ألم تصادفه في الطريق؟
أبو علي :
جئت من باب السر الذي تعلمين، ومن العجب أنني لم أصادف في طريقي حيا؟
ريطة :
كان بتلك الناحية جاريتان، ولكني أسكنتهما الطريق الأسفل، وكلفتهما بأمر الطعام، ولكن لماذا جئت من ذلك الباب؟
أبو علي :
لقد كنت عزمت على أن أفاجئه الساعة، وجئت أتحقق أمر وجوده بنفسي، ثم أردت أن أعرف أبالقصرين جند أم لا؛ حتى يكون مسعاي إذ ذاك مضمون النجاح.
ريطة :
هب أنه كان بالدار أحد، فما كان جوابك؟
أبو علي :
ليس لأحد من الجند أن يسألني في ذلك، وأنا من الخليفة من أنا.
ريطة :
هب أنه لاقاك وجها لوجه، فما كنت تصنع؟
أبو علي :
أتراه كان يستريبني؟
ريطة :
إنك تعلم أنه يستريبك، وإلا فما جئت من باب السر الخفي .
أبو علي :
لقد حسبت أنه لا يكون إلا مع البدوية.
ريطة :
أنتم أيها الناس إذا عجزتم عن تدبير أمر كبير عليكم، أخذتم في سبيله تأتون أعمالا مدهشة، وتدبرون تدابير خفية عنكم وعن الناس، تزعمونها رشادا، حتى إذا اعترضتم فيها بأمر هين تورطتم، وانقلب عليكم سوء ما دبرتم. إني أحمد الله على أنك لم تر سبيلا إلى بلوغ قصدك، وإلا لتورطت وعرضت مشروعنا للحبوط، دعنا من ذلك بالله، لقد كنت تتلف علي تدبيري كله، اسمع لقد أشرت عليه الليلة بدخوله بالبدوية قسرا.
أبو علي :
ويحك ريطة! كيف تغرينه بذلك وابن عمها في الأحياء؟!
ريطة :
لم أجد لي من حيلة إلى دفع سوء ظنه بي وبصلاحيتي لمعاشرة البدوية، إلا أن أزين له ما كان ينوي.
أبو علي :
والفتى؟
ريطة :
لا يهمنى هذا الفتى، كيف أستطيع أن أظفر بفريستي إذا أنا لم أحصرها في مكان ضيق تصل إليها فيه يدي؟ ألم تتفق معي على ذلك؟
أبو علي :
بلى، ولكني وعدت الفتى أن أصون له البدوية حتى ترد إليه.
ريطة :
سيكون ذلك إن شاء الله.
أبو علي :
أخبرك متى يعود من مجلس الليل؟
ريطة :
لعله لا يغيب طويلا.
أبو علي :
إذن فقد صح تدبيري، ولكن الذي يهمني الآن يا ريطة أن لا يسمع بقصتنا بعد انتهائها أحد، إني لا أريد أن أجعل منها حجة علينا لأنصاره.
ريطة :
لم يفتني ذلك، إني سألقيه إليكم لتضعوه يومئذ حيث تضعون، وليتقول الناس في شأنه ما يشاءون.
أبو علي :
هذا غاية المنى، والآن أسر إليك يا ريطة نبأ يطفر له قلبك فرحا.
ريطة :
عن ولدي؟
أبو علي :
عن ولدك.
ريطة :
أجاء ولدي؟
أبو علي :
أجل.
ريطة :
كيف؟
أبو علي :
ذهبت إلى منزلي فوجدته في فراشي!
ريطة :
رباه ما لي بشكرك طاقة، أتراني أستطيع أن أراه؟!
أبو علي :
آه! أخذ الدليل يضل ... فارقك الصواب يا أمامة.
ريطة :
صدقت صدقت، سأراه عما قريب، عجل الآن، هات فتيانك، أخبرتهم؟
أبو علي :
كيف لا؟! أحدهم ابن مياح نفسه.
ريطة :
والباقي؟
أبو علي :
من رجال ولدك.
ريطة :
أسامة فيهم؟
أبو علي :
أسامة، لعنة الله عليه! تخليت عنه، وأوصيت ابنك أن يستبقيه بجواره حتى نعود إليه.
ريطة :
ولم هذا؟
أبو علي :
لقد عاودته جنته الليلة وألح في أن يكون معنا، فوعدته فاستحلفني فأقسمت، ولكني احتلت حتى خرجت بالرجال دون أن يراني، من ذا الذي يستصحب مجنونا في عمل كهذا؟!
ريطة :
أنصفت، ولكن الخليفة قد ذهب إلى القصرين، وأشفق أن يعود، ومعه فريق من رجال القصرين، فهل أخذت لذلك العدة؟
أبو علي :
لم يفتني ذلك، فإن جنود ولدك تحت المظلة التي تشرف على النيل، فإذا بدا من رجاله عزم لإنقاذه انقض هؤلاء عليهم فعاقوا النجدة، وقضى رجالنا هنا مهمتهم.
ريطة :
إذن فاذهب، وهات لي ابن مياح وآخر معه.
أبو علي :
على الفور، سلام عليك (يخرج، ثم تدخل البدوية في حالة ذهول، وريطة تراقبها).
ريطة :
مرحبا يا بنتي مرحبا، لماذا جئت؟
البدوية (في حالة حزن شديد) :
جئت أعد نفسي لحفلة عرسي كما أمر الخليفة بذلك.
ريطة :
أي عرس هذا يا ابنتي؟
البدوية :
خير ما تمنت النفس يا ريطة.
ريطة :
ما تمنيت إلا ابن عمك يا أميمة.
البدوية :
وهو الذي من أجله أعد نفسي، هلم هات الشموع، ثم هاتي ملابس أبي هاتي لباس البدوية، وخذي عني هذه الحرائر.
ريطة :
ما هذا يا ابنتي؟
البدوية :
ويحك! لماذا لا تطيعين؟
ريطة :
وي ... ماذا أصابك؟
البدوية :
ما أصابني شيء أيتها الخائنة، إني بخير والحمد لله.
ريطة :
ويحي! لقد أسلمت الفتاة زمام أمري إذ أفضيت إليها بسري، ما الحيلة؟ ما العمل؟ عرس ابن عمها، وأين ابن عمك الآن، ولن يأتي لك إلا الخليفة؟
البدوية :
لن يدخل الخليفة إلا على ميت لا حس فيه ولا حراك، أجل إني سأزف إليه يملأ عينه من حسني، ثم إذا دنا مني لم يدن إلا من طيف خيال، ووهم مجسم قد استحال، هلم هاتي ملابسي التي خرجت بها من ديار أبي، ملابسي التي عانقني فيها ابن عمي حتى أسبقه فيها إلى جنة رضوان.
ريطة :
ولكن يا ابنتي ...
البدوية :
ماذا؟
ريطة :
لن يكون ذلك، إني أحاذر غضب الخليفة، لقد أمرني أن أجلوك أبهى مجلى، فإذا أنا قصرت في ذلك استرابني، ولم أستطع يومئذ أن أكون في جوارك أعمل على البر بقسمي.
البدوية :
أي قسم هذا؟ ما أسرع الناس إلى القسم! لقد أقسمت أن تنقذيني من الرجل، وأقسمت أن تجمعي بيني وبين ابن عمي في ليلتين، ولا صدق هذا ولا ذاك.
ريطة :
الأمور رهينة بأوقاتها يا أميمة.
البدوية :
وما ينفعني الانتظار؟ وهذا سيدك قد أوشك أن يبغي علي.
ريطة :
لن يبغي عليك يا أميمة، اطمئني.
البدوية :
كيف أطمئن وأنا الليلة من القبر قيد ذراع؟
ريطة :
بل أنت من السعد والحياة قيد شعرة.
البدوية :
أحق ما تقولين؟ أم أنه وعد لا يكلفك إلا الكذب.
ريطة :
بل هو الصدق الذي ليس وراءه صدق، وأقسم على ذلك.
البدوية :
ولماذا لم تخبريني به من قبل؟
ريطة :
ما زعمت أنه محقق إلا الساعة، جاءني أبو علي بعد أن ذهب ظالمك، وتم الاتفاق على الأمر، ولو لم تتعجلي لبلغتك البشرى، ولكنك لم تدعي لي إلى الكلام سبيلا.
البدوية :
معذرة يا ريطة معذرة (تسعى إليها وتبكي على كتفها)
معذرة، قد يخرج اليأس بصاحبه إلى الجنون، فاعذريني اغفري لفتاة تنكر لها الرجاء، حرمت أباها وزوجها، وترى الشقاء بعينها، اغفري لي يا ريطة، وتحنني علي.
ريطة :
لقد والله عفا عنك قلبي يا أميمة، أنا أعرف ما أنت فيه، ولكن يجب عليك أن تلبسي الآن أفخر ما أعددت لك من ملبوسي حتى لا يستريبني الخليفة.
البدوية :
أيجيء ابن عمي الليلة؟
ريطة :
أجل.
البدوية :
أتريدين أن يراني في ملابس خلعها علي الخليفة؟
ريطة :
كلا، ولكن ما الحيلة فيما نحتال إليه؟
البدوية :
لقد عشقني الخليفة في ملابس البدو، ولن يراك إن زففتني إليه فيها إلا محسنة.
ريطة :
قد يكون ذلك، ولكنه أمرني بما ذكرت، فلا تتشبثي بأمر لا ضرر فيه.
البدوية (تفكر قليلا وتسكت كمن جاءته فكرة خاطرة) :
لا بأس لا بأس، هلم، ولكن خبريني كيف يأتي إلي ابن عمي (تجلس).
ريطة :
لا يعنيك هذا، هذا تدبير بيني وبين أبي علي، حسبك أن يأتي ابن مياح إليك يحملك بين ذراعيه إلى خيمة أبيك في الصعيد.
البدوية :
خيمة أبي! خيمة أبي! واحسرة النفس عليك يا أبي! واحسرتاه!
ريطة :
لا داعي اليوم للحسرة يا أميمة، إن أباك حي لم يمت.
البدوية :
حي لم يمت! (تنهض)
لم يقتل!
ريطة :
بل إنه اليوم في القاهرة.
البدوية :
في القاهرة؟!
ريطة :
وفي بيت الأمير أبي علي نفسه.
البدوية :
وافرحتاه! من لي برؤية أبي يا ريطة؟!
ريطة :
سترينه الليلة يا أميمة، سترينه فلا تتعجلي.
البدوية :
أقبلك يا ريطة، أقبلك (تقبلها)
متى عرفت ذلك؟
ريطة :
الليلة من أبي علي، وقد كان يريد أن يحضر مع الحاضرين، فأقاله أبو علي اكتفاء بجنود ولدي.
البدوية :
جنود ولدك؟ (تجلس).
ريطة :
أجل، ألم يجئ ولدي؟
البدوية :
جاء الأمير حسن؟
ريطة :
أجل، ليلبس التاج في الغد.
البدوية :
هنيئا لك يا ريطة، اللهم أفرح قلبها بما أفرحتني!
ريطة :
شكرا لك يا أميمة شكرا، هلم بنا نعد ظاهر أمرنا، وثقي بالله وبي.
البدوية (تنهض) :
أزل اللهم سحابة همي وآمن خوفي، اللهم إني أسلمت إليك أمري، أنت نعم المولى ونعم النصير.
ريطة :
آمين! هلم (تتقدمها).
البدوية :
إني شربت كؤوس الصبر أجمعها
وذقت مر هموم العيش ألوانا
لم يبق في القلب ركن لم يلم به
ريب الزمان فأخشى هذه الآنا (تخرج هي وريطة ويدخل أبو علي يتبعه ابن مياح، وقد أزاح اللثام عن وجهه.)
أبو علي :
إن هذا المكان رهيب يا ابن مياح، أخشى أن تأخذك هيبة الخلابة فتنكص على أعقابك.
مياح :
لن يكون هذا المكان أرهب من ساحة الشيخ، ولا وجه الخاسر أهيب من وجه الأفعوان الذي أدخلوني عليه في السرداب، فقتلته بهذا السيف الذي باركه الشيخ المبارك.
أبو علي :
صدقت، ولكني لا أكاد أرى وجه عذرك إن لا نعززك بجنيب.
مياح :
لن يكون الرجل أجلد مني قلبا، ولا أقوى نفسا، جئت أنشد عرضي، وأطلب ثأري، وأنشد من أحب، أنقذها من براثن فاسق كفور. بيد أني أقسمت للشيخ الذي أمدني بروحه، وباركني ببركته، أن أكون وحدي، وما يحنث العربي بيمين.
أبو علي :
أنت وشأنك، ولكن اعلم أنني سأعد خمسا من رجالي عند الباب، فإذا لم تظفر بغريمك فإني على مسمع الهمس منك (يذهب إلى باب غرفة ريطة)
ريطة.
ريطة (من الداخل) :
لبيك.
أبو علي :
هلم (إلى ابن مياح)
ستأخذك الآن ريطة إلى مستقرك حتى تدعوك، فإذا ظفرت بفريستك وألقيت الصيد إلينا تفتحت لك أبواب القصر، وإلا فهو موصد دونك حتى القبر.
مياح :
على الله الاتكال.
ريطة (تدخل) :
سلام يا ابن مياح.
مياح :
وعلى أم الأمير السلام.
أبو علي :
أقسم ابن مياح لشيخنا المبارك أن يكون وحده في هذه المهمة، وما نطيق أن يحنث بيمينه، وسيتولى الأمر بنفسه، ولكنا لدى الباب، فخذيه إلى حيث يرتقب.
ريطة :
لا بأس بذلك، هلم يا ابن مياح.
مياح :
أأستطيع أن أرى ابنة عمي؟
ريطة :
لا تراها حتى تغمض عين الخاسر، إن المحب إذا التقى بمن يحب نسي الدنيا ومن فيها.
مياح :
لكن بي ظمأ إليها يا خالة.
ريطة :
أروه منها يوم أروي أنا ظمأي، هلم (تدخل به من باب الغرفة اليسرى).
أبو علي :
لقد آن أن أنتقم منك يا قاتل أبي، وأنقع غلتي من دمك، ولكن لا بد لي من أن أتفقد ذلك الجناح لتطمئن النفس، من يدري ريطة؟ لعل به جندا وحراسا، وهي لا تدري (يخرج من الباب الأوسط، ثم يدخل أسامة كما رأيناه في الفصل الثاني من تحت العقد الأيمن).
أسامة :
ما هذا المكان يا ترى (يلتفت، ويذهب هنا وهناك، ويتسمع)
ما للقصر خال من الناس؟! أيكونون نياما؟ كيف ذلك ونحن بعد العشاء بقليل؟! بيد أني لا أسمع تهويما ولا زفيرا، أم إنه لم يجعل في خدمة ابنتي أحدا من القصرين كما خبروني؟ ولكن أين ابنتي، وأين الخاسر؟ أتكون في هذا المكان (يتقدم نحو اليسار، ويستمع)
أأدخل أم أني مجازف! لا تجمل المجازفة الآن؛ إني من المقصود قاب قوسين أو أدنى، خطواتي اليوم ثمينة، فإذا أسرفت فيها أسرفت في حياة ابنتي، ويل لأبي علي لقد وعد أن يجعلني في زمرة ابن نزار، ثم هرب مني قبل صلاة العشاء، ولكني عرفت السبيل، عرفت السلم الخفية التي كان يصف مكانها لابن نزار، هداني الله إليها، ثم فتح لي بابها ليهون علي أمري، ولكن ماذا أفعل؟ لن أخرج من هذا القصر إلا قاتلا أو قتيلا، أريد أن أنتقم، أريد ابنتي (يذهب صوت الأبواب)
أتكون هنا (يتسمع)
إني لا أسمع في المكان صوتا (يصغي بإمعان)،
بل أسمع همسا، وجلبة بعيدة، ويل لأبي علي؛ هو الذي ألجأني إلى السير على غير هدى، ولكن خاب فأله سيكون المجنون أول ضارب، سأكون أول منتقم آخذ ثأري أولا، ثم ليأخذوا الثأر بعدي (يسمع صوت عود بعيد جدا)
هذا صوت عود يدنو (يلتفت صوت الباب)،
واحسرتاه! هنا عزف وددن، وفي البادية نحيب وحزن، هنا بلبل يشدو، وهناك بوم ينعب، يا الله إنهم يدنون، أين أختبئ حتى أرى وأتبين؟ أين أختبئ عن العيون؟ (يقرب الموكب بالعود والرق)
أذهب هنا؟ (يسير إلى اليسار، ثم يعود)
هنا (يدنو من الباب الأدنى الأيمن، ويفتح الباب قليلا، ويتسمع)
لا أحد (يدنو العزف، والدق ... إلخ)
لقد دنوا فلأدخل والله الحارس. (يلتفت وراءه، ثم يدخل، ويدخل الموكب وفيه البدوية في الوسط، وقد تردت بملابس زاهية، ووراءها المغنيات، والعوادات، والرقاقات، وتتقدمها الرقاصات صفين: صف يسير إلى اليمين، وصف إلى اليسار، واحدة بعد أخرى، وتسير البدوية، ومعها ريطة حتى تصل إلى المقعد، فتقف ريطة إلى يمينها، ثم يأخذ صف الرقاصات الأيسر في الرقص بلا انتظار، وكلما خرجت منه واحدة خرجت أمامها واحدة من الصف الأيمن، ويجلس المغنيات والعوادات في المنتصف، ودارت الراقصات حولهن، والبدوية في أثناء ذلك تنظر غائبة الفكر، وقد تمسح عينها مرة أو مرتين أثناء الرقص، وتتأوه مرة أو اثنتين، وهي في أثناء ذلك كله حزينة بادية الحزن بلطف، فإذا انتهى دور الرقص دخل الخليفة فنهضت المغنيات، وركعن تحية، ونهضت البدوية، أما أدوار الغناء فهي كالآتي):
يا غصين البان
شف قده العالي
ميلك في البستان
ما عاد يحلالي •••
محبوبي نشوان
من مدام ثغره
وقميصه ولهان
بنهوده وخصره •••
يا فؤادي حاسب
على روحك، واحذر
م العين والحاجب
والخد الأحمر •••
إن تكن مفتون
ومرادك تشفى
كل شيء يهون
لما العين تغفى
1
الخليفة :
عمي مساء يا أميمة.
البدوية (تنكس رأسها) :
عم مساء يا مولاي.
الخليفة :
ألا تزالين على عهدك يا أميمة؟
البدوية :
لم يزل بي ما تركتني عليه.
الخليفة :
ولكنك قد وعدت أن تجيبيني إلى طلبتي.
البدوية :
لقد أمرت يا مولاي، وما علي إلا الطاعة، أما الرضا فليس في المقدور.
الخليفة :
لماذا بطل الغناء يا ريطة؟!
ريطة :
إلى الرقص يا فتيات. (تعود المغنيات إلى الغناء، والراقصات إلى الرقص، والخليفة جالس يحادث أميمة، وكأنه قد زاد به اللجاج، فنهض وأخذ يهدر، فلا ينقطع الغناء ولا الرقص، حتى يخاطب الخليفة المغنيات في ساعة غضبه.)
الخليفة :
أبطلن هذا، وانصرفن انصرفن، لا أريد رقصا ولا غناء (تنصرف المغنيات، والراقصات جميعهن، ولا يبقى مع الخليفة والبدوية إلا ريطة)
أيتها الفاجرة! لم يبق في قوس الصبر منزع ... ريطة!
ريطة :
مولاي!
الخليفة :
خذيها إلى مخدعها، عجلي (يسير في المكان ذهابا وإيابا).
ريطة :
انهضي يا أميمة ما لك حمقاء؟! أما ترين السيف معلقا في الهواء؟! أنت الآن على أبواب السعد يا سيدتي، فلماذا توصدينها بيديك؟! انهضي، أفرحي، واطمئني، وثقي بالله وبي.
البدوية (تنهض وهي في حالة ذهول) :
هلم هلم، إلى مخدعي! إلى مخدعي! لقد فرج الله عني، تفتحت لي أبواب الرجاء، وأرى الملائكة تدعوني إلى السماء، هذا خيال ابن مياح يرقبني (تنظر إلى ابن مياح، وقد بدا تحت العقد الأيسر)،
وهأنذا في السبيل إليه (تمد ذراعيها، وتسير كأنها مجنونة صوب العقد الأيسر)
حسين! حسين!
مياح (يظهر لها) :
أجل، أجل، في السبيل إلي (يتقدم منها ويأخذها).
البدوية :
آه! (تسقط مغشيا عليها، فيجلسها على المقعد ويتركها، ويذهب إلى الخليفة مسرعا).
الخليفة :
ما هذا؟! من هذا يا ريطة؟!
مياح :
انظر وتذكر! انظر حسين بن مياح (يرفع اللثام عن وجهه).
الخليفة :
النجدة! النجدة!
مياح :
لن ينقذك اليوم منقذ (يهجم عليه ويقبض على رقبته ويجالده حتى يسقط الخليفة).
الخليفة :
آه، آه، النجدة (يخرج أسامة من غرفته، ويأخذ يتلفت، وإذ يرى الخليفة ساقطا وفوقه رجلا مجهولا، يهجم عليه بالسيف).
أسامة :
من ذا يغلبني على فريستي ... إليك (يدفع ابن مياح بيديه).
مياح (يقبض على رقبة الخليفة، وهو ملقى، ينظر إلى القادم، وإذ يرى عمه يصيح) :
عماه! عماه!
أسامة :
حسين! أنت! انتقم يا بني!
الخليفة :
الرحمة! الرحمة!
مياح :
هذا جزاء الظالمين.
أسامة (يقتلانه معا) :
ثأري، ثأري (ثم يعانق ابن مياح، ويتقدم ابن مياح إلى البدوية وأسامة ينظر إليهما).
مياح :
أميم! أميم! انهضي آن أن أضمك إلى صدري. (ينهضان)
البدوية :
حسين! حسين!
مياح :
لبيك، هأنذا.
البدوية (تفتح عينها فترى شبحه فتبتعد عنه قليلا، وتمسك بكتفه بذراعين ممدودتين، وإذ تتأكد أنه هو تلقي بنفسها عليه) :
حسين! حسين! (يكون أسامة في أثناء ذلك واقفا يتردد، يريد القرب من ابنته، ثم لما يراها بين ذراعي زوجها يحجم، ولكنها في أثناء العناق ترى أباها فتبتعد عن حسين، وتذهب إليه)
أبي! أبي!
أسامة (بصوت مختنق بالعبرات) :
ابنتي! (يتقدم منها ويحتضنها)
أميم! أميم! لقد ظفرت بمناي وثأرت لنفسي. (هنا يدخل أبو علي وبعض الجند، وتدخل ريطة من حيث خرجت.)
ريطة (من جانب) :
مرحى! مرحى!
أبو على (من جانب) :
مرحى! مرحى!
البدوية :
إليك عني يا ملابس الخنا، إليك، هأنذا كما أتيت (تخلع لباس العرس، وتظهر بملابسها العربية التي رأيناها أول فصل، فإذا رآها أبوها وابن مياح ناديا).
أسامة :
إلى الصحراء! إلى الصحراء!
مياح :
إلى الصحراء! إلى الصحراء!
الجميع :
إلى الصحراء! إلى الصحراء! (يأخذ أسامة بيد البدوية اليسرى، ويأخذ ابن مياح بيدها اليمنى، ويستعرضان المرسح، والسيف في أيديهما، ثم يتقهقرون ويخرجون.)
يسدل الستار
Halaman tidak diketahui