ثم شب جماعة آخرون لم يقدر لهم أن ينتموا إلى بعض الأحزاب، فرضوا بالخمول، واكتفوا من الشعر بأبيات يقولونها في الوصف، أو نتف يجيدونها في النسيب، وربما التفتوا إلى ما ينعم به إخوانهم من السعة في العيش، والبسطة في الجاه، فأخذوا في شكوى الدهر، وتأنيب الزمن ووصفوا الأدب بأنه رفيق الفقر، وحليف المسكنة. وكان بجانب هؤلاء جميعا جماعة من النقاد ينقدون اللفظ والمعنى، ويعرضون عن النحلة والمذهب، فكنت تقرأ ما يكتبه الشيخ طه حسين في نقد حافظ، فتراه جملة من المذاهب النحوية، والمباحث اللغوية، وربما رأيت طائفة من ألفاظ السباب في خلال تلك السطور، وضعها الكاتب حلية لبحثه، وزينة لنقده، وكان الويل - كل الويل - لمن يغفل عن ترضية أولئك الناقدين فيمسي وهو مقذوف.
وكذلك كان الشعراء يأخذون طرائق التفكير من الأحزاب ومسالك التعبير عن النقاد، ولم يكونوا في أنفسهم شيئا مذكورا.
ثم كان ما كان من الحوادث التي شتتت شمل الجميع، فخفت كثير من أصوات أهل النقد والسياسة وعاد الشعراء إلى السكون.
إلا أننا في حاجة إلى شعراء ينظرون بعيونهم، ويسمعون بآذانهم ويفقهون بقلوبهم، فهل نحن واجدون؟
6
قرأنا «دواعي الشعر» فإذا بصاحبها الأستاذ زكي مبارك قد نال من شعراء العصر شديدا، وطأطأ من كرامتهم ما شاء، حتى كاد يبتعث الحفائظ ويوغر القلوب، فقد جاء فيها عن الشعراء حيث يهتف بهم قوله: «قاتلكم الله! تضحكون في موضع البكاء، وتفرحون في موقف الحزن، ولو كانت لكم ضمائر شاعرة، وبصائر ناظرة لبكيتم مع الباكين، ونحتم مع النائحين، فقد ذلت هذه الآثار بذلكم، وضعفت بضعفكم.»
وجاء في موضع ثان منها قوله: «لقد كثر شعراء مصر، وتوفروا على معنى واحد، كما تكثر الأشجار في بقعة واحدة فيأكل بعضها بعضا، ثم لا تزهر ولا تثمر»، وقال في غير هذين الموضوعين: «أهؤلاء الجبناء»، وجاء في محل ثان قوله: «لقد مات منهم من مات، واغترب من اغترب، وبقي جماعة يقلون عند الفزع ويكثرون عند الطمع.»
لشد ما نال الأستاذ من الشعراء، وغلا في الازدراء بهم، على أن هذا ليس من النقد في شيء.
إنا لنطالب الأستاذ - جد المطالبة - ونأخذه أخذا شديدا بأن يخرج بالمعذرة من تلك البادرة، وذلك أكبر الظن بأدبه، والعهد به، والسلام.
حسن القاياتي
Halaman tidak diketahui