وكم مرة سترت ألمي وحرقتي برداء التجلد متوهما أن في ذلك الأجر والصلاح، ولكنني لما خلعت الرداء رأيت الأمل قد تحول إلى بهجة والحرقة قد انقلبت بردا وسلاما.
وكم سرت ورفيقي في عالم الظهور فقلت في نفسي: ما أحمقه وما أبلده، غير أنني لم أبلغ عالم السر حتى وجدتني الجائر الظالم وألفيته الحكيم الظريف.
وكم سكرت بخمرة الذات فحسبتني وجليسي حملا وذئبا، حتى إذا ما صحوت من نشوتي رأيتني بشرا ورأيته بشرا.
أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا، متعامون عما خفي من حقيقتنا. فإن عثر أحدنا قلنا: هو الساقط، وإن تماهل قلنا: هو الخائر التلف، وإن تلعثم قلنا: هو الأخرس، وإن تأوه قلنا: تلك حشرجة النزع فهو مائت.
أنا وأنتم مشغوفون بقشور «أنا» وسطحيات «أنتم»؛ لذلك لا نبصر ما أسره الروح إلى «أنا» وما أخفاه الروح في «أنتم».
وماذا عسى نفعل ونحن بما يساورنا من الغرور غافلون عما فينا من الحق؟
أقول لكم، وربما كان قولي قناعا يغشي وجه حقيقتي، أقول لكم ولنفسي: إن ما نراه بأعيننا ليس بأكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا. وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن نستوعبه بقلوبنا. فإن رأينا شرطيا يقود رجلا إلى السجن علينا ألا نجزم في أيهما المجرم. وإن رأينا رجلا مضرجا بدمه وآخر مخضوب اليدين فمن الحصافة ألا نحتم في أيهما القاتل وأيهما القتيل. وإن سمعنا رجلا ينشد وآخر يندب فلنصبر ريثما نتثبت أيهما الطروب.
لا، يا أخي، لا تستدل على حقيقة امرئ بما بان منه، ولا تتخذ قول امرئ أو عملا من أعماله عنوانا لطويته. فرب من تستجهله لثقل في لسانه وركاكة في لهجته، كان وجدانه منهجا للفطن وقلبه مهبطا للوحي. ورب من تحتقره لدمامة في وجهه وخساسة في عيشه، كان في الأرض هبة من هبات السماء وفي الناس نفحة من نفحات الله.
قد تزور قصرا وكوخا في يوم واحد، فتخرج من الأول متهيبا ومن الثاني مشفقا؛ ولكن، لو استطعت تمزيق ما تحوكه حواسك من الظواهر لتقلص تهيبك وهبط إلى مستوى الأسف، وانبدلت شفقتك وتصاعدت إلى مرتبة الإجلال.
وقد تلتقي بين صباحك ومسائك رجلين فيخاطبك الأول وفي صوته أهازيج العاصفة وفي حركاته هول الجيش؛ أما الثاني فيحدثك متخوفا وجلا بصوت مرتعش وكلمات متقطعة، فتعزو العزم والشجاعة إلى الأول، والوهن والجبن إلى الثاني. غير أنك لو رأيتهما وقد دعتهما الأيام إلى لقاء المصاعب، أو إلى الاستشهاد في سبيل مبدأ لعلمت أن الوقاحة المبهرجة ليست ببسالة والخجل الصامت ليس بجبانة.
Halaman tidak diketahui