لقد رقدت تلك الفكرة الكبيرة وحول مضجعها تحوم الآن سكينة توحي الهيبة والوقار وترتفع عن الحزن والبكاء.
قد تملصت تلك الروح الطيبة ورحلت إلى عالم نشعر به ولا ندركه، وفي رحيلها عظة للباقين في قبضة الأيام والليالي.
قد تحرر ذلك الوجدان النبيل من متاعب العمل ومشاقه وسار ملتفا برداء مجده إلى حيث يتسامى العمل عن المشاق والمتاعب. قد ذهب زيدان إلى حيث لا تراه العين ولا تسمعه الأذن.
ولكن، إذا كان زيدان قد انتقل إلى إحدى السيارات السابحة في بحر اللانهاية، فهو الآن مشغول بنفع سكانها، منهمك بجمع معارفها، مأخوذ بجمال تاريخها، منصب على درس لغاتها.
هذا هو زيدان: فكرة متحمسة لا ترتاح إلا إلى العمل، وروح ظامئة لا تنام إلا على منكبي اليقظة، وقلب كبير مفعم بالرقة والغيرة. فإذا كانت تلك الفكرة لا تزال كائنة بكيان العقل العام فهي تشتغل الآن مع العقل العام. وإذا كانت تلك الروح موجودة بوجود النواميس فهي تعمل الآن مع النواميس. وإذا كان ذلك القلب باقيا ببقاء الله فهو الآن ملتهب بشعلة الله.
هذه هي حياة زيدان: ينبوع تدفق من صدر الوجود وصار نهرا صافيا يروي ما على جانبي الوادي من النبات والأنصاب.
وها قد بلغ النهر شاطئ البحر فأي متطفل، يا ترى، يجسر أن يندبه أو يرثيه؟ أوليس الندب والنواح خليقين بالذين يقفون أمام عرش الحياة، ثم ينصرفون قبل أن يسكبوا في راحتيها قطرة من عرق جبينهم أو دم قلوبهم؟ أولم يصرف زيدان ثلاثين سنة مذيبا قلبه مستقطرا جبينه؟ وهل بيننا من لم يستق من تلك المجاري البلورية العذبة؟
إذا فمن شاء أن يكرم زيدان فليرفع نحو روحه ترنيمة الشكر وعرفان الجميل بدلا من ندبات الحزن والأسى.
من شاء أن يكرم ذكر زيدان فليطلب قسمته من خزائن المعارف والمدارك التي جمعها زيدان وتركها إرثا للعالم العربي.
لا تعطوا الرجل الكبير بل خذوا منه، وهكذا تكرمونه.
Halaman tidak diketahui