فانتهز ابن نوفل فرصة عطفه وتقدير للفتى وأجابه: هل في بلاد العرب من هو خير منك معلما أو أبر أبا! ولكني أشفقت أن يثقل عليك، فإن رأيت أن تسبغ عليه فضلك فهو ولدك وولدي معا، وعلي تدبير أمر أبويه إن شئت به خيرا، وهو حقك يستحقه: فخذه وعلمه علم العقاقير، وعرفه خواصها، ودله على منابتها ومظانها، فلعله إذا بلغ سن الفتوة مستطيع أن يتجر فيها في مكة، أو يكون طبيبا ينفع الناس بطبه.
ولشد ما كان فرح الحارث لهذا الغرض وارتياحه إذ لم يكن هو البادئ به، وإن لم يكن فيه إجازة بأخذه معه حيث ينتقل، ولكن الحارث ترك هذا إلى ما بعد وأمل خيرا فأجاب سؤل ابن نوفل من فوره شاكرا، وأبدى أنه لا يجد في أخذ الغلام كلفة؛ لأنه سينتفع به بقدر انتفاع الغلام منه، وهون الأمر على أبوي ورقة أن الحارث كان يوم عودته إلى مكة قد ذكر لسيدة قريش أنه لن يرحل عنها وعرفت العفيفة وباقوم ذلك، فكان سرورهما بما جرى الاتفاق عليه عظيما.
بقي الغلام يتردد كل يوم على بيت الحارث تردد التلميذ على معهد العلم، ثم يعود إلى أبويه في المساء، وظل يرافقه في زياراته وعياداته، ويشتغل معه في بيته وغير بيته بإعداد العقاقير لمختلف الأدواء، وكانا إذا وجدا بينها نوعا ناقصا خرجا إلى أودية مكة ومرابضها؛ ليبحثا عنه بين عشبها، ويأتيا به، أو يكتبا في طلبه من منابته، وقد يتغيبان عن مكة ليلة أو ليالي في سبيل ذلك، حتى ضري أبواه بغيابه، وهما سعيدان بما كان يحدثهما الفتى عن سعادته في حياته الجديدة، إذ كان محل الرعاية من أستاذه والمحبة من امرأته هرميون وابنته لمياء؛ لأنه كان لسانهما الذي تكلمان به الناس، وعينهما وأذنهما اللتين تريان بهما وتسمعان؛ إذ لم تكن هرميون تعرف من العربية إلا ألفاظا قليلة لا تنفع، ولم يزد علم لمياء وهي عربية الأب عن بعض جمل لا تسعف، ولذلك لم تكونا لتملكا صبرا على غيبته عنهما ساعة واحدة ولو كان في عمله. على أن ورقة كان صبيا صبوح الوجه سعيد الطالع، يقبل على سائله بأدب ومحبة ورغبة في إرضائه من غير ما تكلف لذلك، بل نضوجا عن بر، وشعورا بمسرة في أن ينفع الناس، وكان على هذا عف اليد والعين والضمير. فلم تملك هرميون ولا لمياء إلا الشكر لله عليه؛ واختصاصه برعايتهما، ومحبتهما اختصاص الابن البار والأخ الرحيم، ولم تكن لمياء لتكتم تعلقها به؛ لأنه كان سلوتها الوحيدة في معشر كان كل من يزورها من بناته ونسائه يضحك من لحنها في النطق، وعجزها عن أداء المراد، وينصرفن عنها للزراية بها في بيوتهن مدفوعات إلى ذلك بعاطفة حسد لها وغيرة منها؛ لما خصها الله به من نعمة الجمال، ورقي الحسن، وما ميزها به من الثقافة ودماثة الخلق، ولما اكتسبته في الإسكندرية من خصائص الحضارة في ملبسها ومظهرها، وإن لم تزد يومئذ على الثالثة عشرة من عمرها، وكان بر هرميون بورقة يزيد في تعلق لمياء، وتعلق لمياء به يزيد في حب هرميون، وحبهما معا ينضح على الحارث فيزيد في إكرام ورقة وتألفه، وكانتا تقولان للحارث: إنه لمن نعم الله عليهما أن تجدا في مكة من يكلمهما بلغتهما الرومية، ويؤنس وحشتهما في بلد لا تدريان كيف استطاع الإنسان أن يستعمرها، وهي قطعة من واد غير ذي زرع،
6
لم يخلق الله فيه ماء
7
ولم يرد أن يرسل عليه سماء، وأنه لولا البيت الكريم، لم يكن يصلح إلا مدفنا لمن يهلكه السفر في القوافل.
وكان الحارث يضحك لحديث امرأته مداريا هواجس نفسه من أن ينقلب تعجبها كرها لمكة وإصرارا على مغادرتها هي والبلاد التي لم تجد فيها أنيسا إلا الصبي ورقة؛ لتعود به إلى الإسكندرية بلد الثورات والدماء، ولذلك كان يرى لورقة عليه فضلا أكبر في أنها لم تكن حين تذم مكة تذكر له الإسكندرية أو النيل، ولا ما في مصر من الخصب والنماء، وطيب الهواء وعذوبة الماء، ولكن كان يعكر عليه صفوه من ذلك ولده النضر. فإنه لم يكن راضيا عما يلقى الغلام من الرعاية في بيت أبيه وكان يحادثه في ذلك لائما، وإذا لقي ورقة لقيه متجهما، وإن لم يجد في سلوكه ما يعاب، وإذا وجده سائرا في حاجة لسيدته الرومية نبهه إلى التزام عمله في العقاقير ورده عن أداء هذه الحاجة، ثم انصرف إلى امرأة أبيه ينبهها إلى خطأ ما تفعل، ويطلب إليها الإقلاع عن ذلك، حتى أصبحت هرميون تكره رؤيته، وتود لو تملك أن تفارقه، ولكنها كانت تخشى إذا هي أيقظت في نفس زوجها الرغبة في النقلة إلى اليمن كما حدثها أن يأخذ ابن نوفل ولده، أو ترى سيدة قريش أن أمه أحق به، وفي ذلك شقاؤها هي وابنتها، ولذلك لم تعد تطالب الحارث بشيء مما وعدها من بساتين اليمن، ولا قصورها ومياهها، ورضيت أن تعيش في أجدب بقاع الله حتى ترى لها رأيا، أو تتبدل الأمور من تلقاء نفسها فتواتيها بما هو خير.
استمر الأمر على هذا الحال شهرين أو يزيدان زفت فيهما قتيلة ابنة الحارث إل زوجها في الطائف، وذهبت هرميون ولمياء فيمن ذهب معها لشهود حفلة العرس. فأعجبت هرميون بالطائف أيما إعجاب، ودهشت إذ رأتها في صحراء العرب بلدا أشبه بغياض الشام وقرى جباله في زرعه وضرعه، وعيونه وبساتينه، بل وفي برده وثلوجه على ما روى لها الناس من أمرها ليلتئذ، وعجبت لزوجها وهو ثقفي من أهل الطائف وأعيان أهلها كيف لا يجعلها مستقرا له، ويؤثر عليها مكة الجرداء. ولم تستطع أن تخفي دهشتها عن زوجها لما عادت إلى مكة؛ لأنه لم يذهب معهما إلى الطائف، ولا عجبهما من أنه لم يذكرها لها من قبل على حقيقتها، يوم كان يغريها بترك الدنيا في مصر والمجيء معه إلى الصحراء. فقال لها مازحا: إنه لا يجب المبالغة ولا الفخر بمسقط رأسه مثلها، وأنه اكتفى من الأمر بما ذكره لها النضر عنها وأهل النضر. قالت: إنك لتعلم أني لم أعد أصدق حديث أحد في هذه البلاد بعد ما رأيت من مبالغاتهم وأخذهم باليقين فيما يجدون شبهة للحق فيه، ولقد كنت تقول لي عن هذه البلاد أشياء ظهر ... فضحك الحارث ولم يدعها الحارث تتم جملتها لما يعرف فيها، وقبلها شاكرا فضلها في رضائها بالمجيء معه إلى بلاده، وأبدى لها أنه ما كان يستطيع أن يتركها في بلاد لم يهدأ السيف فيها في قرابه يوما، ولم تنقطع الحرائق منها، وما كان يقوى على أن يعيش بعيدا عنها، ولو في الجنة، ولكن الواقع من أمر سكوته عن الحديث عن الطائف أنه كان قد غاضب إخوته وأهله فيها وهو فتى، فأقسم لينزحن عنها مفارقا ويهجرها هجر الغريب عنها، حتى لا يعود إلى عشرتهم ولا إلى الاجتماع بهم. فباع كل ما كان له فيها، واتخذ مكة مستقرا لولده، وكان هذا سببا في أنه لم يذهب مع الذاهبين بابنته إلى الطائف. ولم يضره هذا القسم؛ لأنه كان قلما يبقى في مكة حين يأتي إليها إلا أشهرا، ثم يرحل إلى بلاد الحضارة التي أنسته الطائف وغير الطائف.
ولم تكن هرميون لترى صوابا أن تطلب إليه النقلة إلى الطائف لا لأنه مقسم بل لأنها كانت تخشى ما خشيته من قبل من الوحدة فيها. بقعود ورقة عن الانتقال معهم، وقد أصبح من ضرورات حياتها. فقد كانت الطائف على مرحلة من مكة، فهي دار غربة للصبيان. فلم تفاتحه في ذلك، ولكن الحارث عرف ما وراء هذه السكتة فجاءها ذات يوم يقول: لعلك يا هرميون كنت تودين النقلة إلى الطائف لولا ما علمت من قسمي. قالت: لا وربي بل لأني إذا انتقلت إليها فسأكون فيها وحيدة أنا وابنتي. أما قسمك فقد بررت به ثلاثين عاما، وحسب آلهتك منك هذا. قال الحارث: لا وحقك ما عنتني آلهتي بشيء وإنما عنتني نفسي. أقسمت أي عزمت وعاهدت نفسي. فإذا أنا حنثت فقد ذللت واتضعت. بيد أن ليس لي إلا إله واحد يا هرميون، هو رب إبراهيم، ذو المجد والعلا، ولكني أعلنك بخبر تسرين له كل السرور. نادي لمياء لتسمعه. فلما جاءت قال لهما: لقد رأيتكما أغرمتما بما رأيتما في الطائف من ثلوج تذوب، وأنهار تجري، وبساتين وغياض، وفاكهة وأعناب، وثمرات ورياض. قالتا: أجل إنها والله لجنة، أما مكة ... قال: وفي ظني أن ليس لكما في الطائف بعينها مأرب خاص. قالت هرميون: كيف يكون لنا مأرب فيها، ونحن لم نعرفها إلا منذ حملنا ولدك إليها. قال: إن على مسافة ساعتين من مكة قرية ألطف من الطائف هواء، وأكثر غياضا. جنة صغيرة فيها ما تشتهيان وما لا تؤملان أن تجداه في صحراء العرب. جنة فوق جبل يكاد ينطح السحب. تلك هي قرية الهدى فوق جبال كرا التي تريانها من هنا. بيد أن الثلج يدوم على شعافها نصف العام، وهي بلدة يجتمع فيها أحيانا بعض عباد اللات والعزى، ينحرون ويتقربون، ولقد اتفقت مع سيدة قريش وابن عمها على أن يصحبنا إليها ورقة، ويكون معي في الحل والترحال، ورضيت العفيفة وزوجها بذلك، على أن يزورهما إذا اكتمل البدر مرة، وإذا هل أخرى؛ ليقضي عندهما ليلة في كل زورة، وأن يمر بهما كلما دعتني الضرورة إلى نزول مكة وصحبني إليها، وهي - كما قلت - قرية يبلغها الراكب المجد في ساعتين. فإذا رضيتما بذلك فليكن الغد يوم النقلة.
Halaman tidak diketahui