36

Pintu Bulan

باب القمر

Genre-genre

4

أوجس ورقة أن القائل من اللصوص الذين يحتالون على الناس برطازات الكهان في بلاد العرب، وإذ كان العرب يعبدون أوثانا متعددة فقد حشرها في صعيد واحد ليحدث جوا أغبر يتصيد فيه فريسته، وجعل بينهم لحمة ونسبا؛ ليكون حديثه أشمل، وتأثيره بهم أبلغ، ولكن ورقة لم يأبه لحديثه؛ لأنه لم يعبد الأصنام في حياته، بل ولد في كنف الحنفاء الذين نهضوا في مكة؛ ليصرفوا الناس عنها، ثم ثبته الإسلام على ذلك، ولكنه كان في خوف من اللص، وزاده خوفا أنه لا يدري أين مكانه ليتدبر، وكان عليه أن يجيب فلم يجد ما يجيب به في هذا الظرف مما ينفي السوء، فأجاب على سجيته: يا عجبا! أتوكل على صخرات لا تشعر ولا تعي. - ويحك يا كافر، إني أنا النسر الإله الأعلى - هلم إلي في العراء، واجث على ركبتيك ضارعا ومنيبا.

عقل ورقة راحلته على عجل، وإذ علم أن صاحب الصوت خارج الخميلة عمد إلى الرحل فانتزع قوسه وسهامه في خفة وعجل، ووقف وراء جذوع النخل يتأمل الجبل؛ لعله يرى صاحب الصوت فيرميه حيث يكون، ولكنه لم يشهد شيئا غير صخر أسود قبيح المنظر، ليس فيه من مظاهر الحياة إلا ما يبدو للعين من الصخرتين، فقد كانت إحداهما قائمة على ناصية الجبل كقتب البعير، صورها لنفسه طيرا، على أثر ما ذكر الصوت عن النسر الإله الأعلى، ولكنها كانت صورة شوهاء لا جمال لها، ولا روعة، ولولا تقاسيم عارضة ميزت أعلاها عن أسفلها، وما فصل بينهما من شبه عنق أحدثته الأعاصير أو حاولته اليد ما خطر على القلب أنها صورة شيء، ولكن إيعاز الصوت صورها كذلك لورقة، وكذلك كانت آلهة الوثنية الأولى في كل أرض وكل زمان على مثل هذا من دلائل طفولة الإنسان في عقله وفي يده، ولعل هذا النقص والتشوه، وما يجده الناظر إليها من الحيرة في محاولة اكتناهها، ومن الجبن في الشك فيما يروي الشيوخ والعجائز من أمرها - كان من أوسع موارد الخيال والتدليس والتلبيس والإذعار التي حكمت الدنيا ألوفا تلو ألوف من السنين ولا يزال أثرها كامنا حتى اليوم في النفوس.

ولقد كان ورقة من مكة بلد النصب والأصنام، وملتقى الرطازات والأوهام، ومستقر ثلثمائة وستين من هذه الأحجار الشوهاء، وكم سمع صلاة القبائل العربية من حولها، وسمع العجائز والشيوخ يعزون إليها الصمدانية والقدرة العليا، ويروون عن شياطينها الأعاجيب وإن لم يكن يصدقها قط منذ سمع سميه ورقة بن نوفل يقول: إنها أضاليل بهتان، وأحابيل شيطان وجد فيها أقوياء العقول غنية عن قوة الذراع في التسلط على الناس فتمسكوا بها، وحملوا الناس على تصديقها، والنزول على حكمها، ولكنه الآن يسمع صوتا ولا يرى صائنا، ويرى نسرا أيضا يتكلم بلسان الآلهة في مكان قصي خلقت من حوله جنة لم يرو عنها الركبان شيئا، فغلبته غريزته القديمة التي توارثها من ألوف من سنين قضاها آباؤه في تصديق الأوهام. فقال في نفسه الحائرة: لعل شياطين تلك الأصنام تحدثني اليوم حقا، وهي مطمئنة في هذه الغلاة الموحشة. ألم يقل ورقة نفسه إن في الدنيا جنا وشياطين نرى أفعالهم، ولا نرى ذواتهم، ولكنه تذكر أن نسرا قد ذهب بذهاب حمير من اليمن، وأنهم هدموه يوم تهودوا، ولم يبق له من أثر. فقال يرد على الصوت: لقد طوفت في بلاد حمير جميعا، فلم أجد للنسر إلا أثرا دارسا، وشعفة مهشمة تسلح عليها بغاث الطير في أرض بلخع.

5

فأجابه الصوت مرعدا: ويحك يا كافر بالإله الأعلى! تقدم إلي، واملأ عينك في العراء منه. ها هو ذا جاثم على شعفة الجبل ينظر إليك مكذبا.

ولكن ورقة لم يطاوعه فيخرج إلى العراء، فقد كان في نفسه أنه إنسان، وأن هذا الإنسان يريد أن يخرجه من وراء الشجر؛ ليكون هدفا ظاهرا لسهم يخترق فؤاده، ولذلك استمر يحادث صاحب الصوت، ويطاوله عسى أن يجد له بالحديث مخرجا؛ فقال: لا أجرؤ أن أقف في حضرة الإله الأعلى من غير حجاب، وأنا فتى من مكة أعرف حق الآلهة علي، وإن كنت قد استغضبتها منذ سنين. فقال الصوت: لا بأس عليك. أجب واقترب، وانحر دابتك قربانا لي، وإن شئت فاتركها لي وتوكل، وليكن عملك هذا كفارة عما سلف من أمرك. افعل كما تؤمر، وإلا لحقت بك في الطريق فأنشبت فيك مخالبي، وطرت بك في أجواز السماء، حتى ألقي بك في أجمة الأساود تلهو بك وتنهشك، در على عقبيك، وامش في طريقك مغمض العين، حتى تزول هذه الخميلة عن الأرض، وإذ أنك في سبيلك إلى نجران فستجد نفسك على أبوابها قبل الظهيرة، وهأنذا أبدأ بالماء فأوقفه عن الجريان. قف أيها الماء بأمري، وعد إلى معينك.

لم يعجب ورقة إذ علم أنه يقصد نجران، فقد كان الطريق طريقها، ولكنه مع ذلك ظل مشدوها مذعورا، وزاد ذعره أنه رأى الماء قد وقف فعلا، وانقطع سيله عن الجبل، وكاد يهم بالمضي فيما أراد الشيطان، لولا أنه سمع صوت لطمة جسم صلب يأتي من أعلى الجبل، فتنبه والتفت فإذا هو يتبين شبح إنسان يخطو عجلا نحو الصخرة ويطل من بين منحدر الماء بوجه ملفف في خرقة سوداء بلون الصخر لم يفت ورقة أنه وجه رجل. فزال شكه كله، وأدرك أنه كيد يكاد له، ولكنه لم يجرؤ أن يبينه قبل أن يتخذ له عدته، فقال وهو يتراجع في مسار النبل محتميا في جذوع النخل وقد حرص أن يجعلها بينه وبين صخرة النسر لتقيه أذى الرجل، وقال متظاهرا بالامتثال: السمع والطاعة لك يا إله الآلهة، والمتاب إليك، ولكني لم أعد أريدها. سأنحرها لك لتغفر لي ما مضى من ذنبي وترضى عني. أمهلني حتى أعقرها. ثم وضع يده على خاصرته متظاهرا أنه يخرج السكين حين كان في الواقع يخرج سهما من كنانته المعلقة على كتفه ليرمي به الرجل، وقد استهدف له في منحدر الماء من بين الصخرتين، ولكن الرجل كان قد سئم الانتظار وأذعره أن يهم الفتى بنحر هذه النجيبة الغالية، فتحول عن مكانه متراجعا، وصرخ من جانب الصخرة يقول: أبق عليها، ولا تمسها. إني رادها إليك في الطريق لتحملك في بوادي العرب، ترفع اسمي، وتشيد بذكري. اتركها واذهب في طريقك مظاهرا.

تظاهر ورقة بالامتثال لأمر هذا الإله، وقال لبيك ربي. هأنذا ذاهب ونازل على حكمك، ولكن ائذن لي أن آخذ عن الناقة زادي وثوبي.

فأجابه الرجل: لا تفعل، ولا تثقل كاهلك بغير سيفك، فإني مدركك بهما في الطريق قبل أن تعلو محجة نجران.

Halaman tidak diketahui